أسامة أبو ارشيد
واحدٌ من أبشع تجلياتِ الظلم الذي يلقاه الفلسطيني على أيدي إخوته من العرب تحميل الكلِّ الفلسطيني مسؤولية موقف أو فعل اتخذه أو قام به فلسطيني، فرداً مشهوراً كان أم عادياً، وسواء أكان فصيلاً فلسطينياً أم قيادة رسمية. هذا ما فعله نظام الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، عندما وقّع معاهدة كامب ديفيد أواخر سبعينيات القرن الماضي، وعارضته، حينئذ، قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، فما كان منه إلا أن اعتقل الطلاب الفلسطينيين في بلاده وطردهم. وتكرّر الأمر نفسه في الكويت بعد الغزو العراقي لها واحتلالها، مطلع تسعينيات القرن الماضي، ووقوف قيادة منظمة التحرير موقفاً، عُدَّ مؤيداً للعراق، فكان أن طُرد عشرات آلاف من الفلسطينيين من الكويت بعد تحريرها، على الرغم من أن غالبيتهم، إن لم يكن كلهم، لم يكن لهم فيما جرى ناقة ولا بعير، ولا هم كانوا مناصرين للغزو أصلا. نجد الموقف نفسه في الحصار الوحشي الذي تفرضه مصر على قطاع غزة وسكانه منذ عام 2007، بذريعة سيطرة حركة حماس عليه، فكانت النتيجة عقوبة جماعية بحق مليونين من قاطنيه! واليوم، يتعرّض الفلسطيني للامتحان العسير في السياق السوري، فمنذ انطلاق الثورة، ضد نظام بشار الأسد، عام 2011، وسوريون كثيرون يتهمون الفلسطينيين، جَمَعِيّاً، بتأييد نظام المجرم الأسد، وداعمته إيران، ووكيلها اللبناني، "حزب الله"، فقط لأن بعض الفلسطينيين، أفراداً وفصائل، أخذوا جانب هؤلاء.
للأسف، عندما يتعلق الأمر بالفلسطيني، نجد تعميماً في إطلاق الأحكام، بل وعنصرية واحتقاراً واضحيْن. لماذا؟ هل لأن الفلسطيني ضعيف، مشرّد، محروم من أرضه، ودولة تحميه وتؤويه؟ هل لأن الظلم الدوليَّ، والهزيمة العربية، أرغماه أن يعيش لاجئاً مكسوراً بين من يحسبهم إخوانه في التاريخ والدين واللغة والجغرافيا؟ أظن ذلك كله حاضراً في اللاوعي المتحكّم برؤى العنصريين المتعالين بين العرب وسلوكياتهم. لكن، ما لا ينتبه إليه عرب كثيرون أن مصير الضعف والتشريد والاضطهاد لم يعد مقصورا على الفلسطيني، وأمثلة سورية، واليمن، وليبيا، ليست عنَّا بعيدة. وقبل ذلك كان العراق ولبنان، ولا يزال الحبل على الجرّار، حيث لا نعرف من سيكون غداً، من دولنا العربية، لا قدّر الله، في دائرة الاستهداف.
"يصرّ بعض إخواننا السوريين على تحميل الكلِّ الفلسطيني وزر المؤيدين لنظام الأسد"
في السياق السوري، ثمة شريحة معتبرة بين الفلسطينيين، مثقفين وعوامّ، تؤيد نظام الأسد، وترى فيه، مع إيران و"حزب الله"، محاور ممانعة تتعرّض لمؤامرة دولية، لكن تلك الشريحة لا تمثل الغالبية بين الفلسطينيين. لا أنكر أنَّ ثمّة مؤامرة، إقليمية ودولية، على سورية لتفتيها وإضعافها، وإخراجها من معادلة الصراع مع الدولة العبرية، فضلاً عن محاولة إحداث خللٍ في توازن العالم العربي عبر تحييد العمق والثقل الذي تمثله سورية، كما جرى من قبل مع العراق ومصر. ثَمَّةَ محاولات دؤوبة، نجحت إلى حدٍّ كبير، في نقل الثقل من المركز العربي إلى الأطراف. لكنِّني، أيضا، أؤمن أن نظام الأسد، وداعميه، الإيراني و"حزب الله"، متواطئون في المؤامرة على سورية وعلى العروبة. القمع الإجرامي الذي قابل به نظام الأسد مطالب شعبه العادلة بالحرية والكرامة هو ما أوصل سورية، وأوصلنا إلى هذه الحال، أين أصبحت سورية اليوم تحت الوصاية، إن لم يكن الاحتلالين، الروسي والإيراني، المباشرين.
يصرّ بعض إخواننا السوريين على تحميل الكلِّ الفلسطيني وزر بعض هؤلاء المؤيدين لنظام الأسد، وهم لا يكفّون أبداً عن تذكيرنا بفصائل فلسطينية هامشية في دمشق تقاتل مع النظام السوري وداعميه. يتساءل بعضهم، كيف يمكن لفلسطيني، هو نفسه ضحية البطش، أن يدعم نظاماً قمعياً كنظام الأسد؟ سؤال منطقي، وأتفق مع طارحيه أن هذا تصرّف غير أخلاقي من قلة من الفلسطينيين. لكنني أسأل في المقابل، لماذا المعايير المزدوجة أخلاقياً؟ ثمَّةَ في الولايات المتحدة ناشطون سوريون أميركيون، ممن يعارضون نظام الأسد، وممن يعمّمون في اتهام الفلسطينيين ويأخذونهم بجريرة قلّة بينهم، وهم مع ذلك منخرطون في استرضاء اليمين الصهيوني الأميركي الداعم لبطش إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. إنه ليخيّل إليك أحياناً أن هؤلاء لا يعرفون أن إسرائيل قتلت من السوريين آلافاً مؤلفة، وأنها تحتل أراضي سورية! أمر آخر، يبالغ بعض إخواننا من السوريين في تقدير أعداد المؤيدين لنظام الأسد في صفوف الفلسطينيين، ويصورونهم أغلبية ويدينونهم على هذا الأساس، في حين أنهم لا يطبقون المعيار المعطوب نفسه على عشرات آلاف من السوريين الذين يدعمون نظام المجرم الأسد؟ هل يقبل أحد أن نقول إن الشعب السوري يؤيد نظام الأسد، لأن فيهم نسبة معتبرة تؤيده؟
أتحدّث هنا كفلسطيني، تعب من كثرة ما وجد نفسه مطالباً بأن يدافع عن حقيقة الضمير الشعبي الفلسطيني في المسألة السورية، فإنني لا أقبل هذا اللوم الجماعي، ولا الذنب بالافتراض الذي نعانيه، نحن الفلسطينيين، ويسعى بعضهم إلى فرضه علينا. أرفض أن أعتذر أن فينا، نحن الفلسطينيين، اعتذاريين عن نظام المجرم الأسد، ذلك أننا أصلا، نحن الفلسطينيين، نرفضهم وندينهم. حينما بدرت من حركة حماس، قبل أشهر قليلة، بعض إرهاصاتٍ عن إمكانية تحوّل موقفها من الثورة السورية، ثارت في وجهها عاصفة هوجاء، فلسطينياً، بل وحتى في صفوف أنصارها. حتى الذي تفهموا حساباتها السياسية الصعبة، والتي أظنها مختلفة عن قناعات الحركة المبدئية في حق الشعب السوري بالحرية والكرامة، لم تجد تفهما كثيراً لدى كثيرين من أنصار الحركة في فلسطين. إن الفلسطينيين والسوريين، وكثيرين من العرب، ضحايا أنظمة القمع والإجرام نفسها. لم يُحَمِّل الفلسطينيون يوماً، ولا ينبغي لهم، الشعب السوري، ولا مسيحيي لبنان، مسؤولية مجزرة مخيم تَلِّ الزعتر في لبنان عام 1976، والتي سهّل فيها جيش الأسد الأب، مهمة المليشيات المسيحية في ذبح آلاف الفلسطينيين. بل ثمة دلائل تؤكد مشاركة عناصر من جيش حافظ الأسد في المجزرة. إن وحدات الجيش السوري التي قتلت الفلسطينيين في تَلِّ الزعتر، هي نفسها من ارتكبت مجزرة حماة مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهي نفسها التي تفتك بالشعب السوري اليوم.
"هل يقبل أحد أن نقول إن الشعب السوري يؤيد نظام الأسد، لأن فيهم نسبة معتبرة تؤيده؟"
لذلك كله، ينبغي أن يفهم الجميع أن "فوبيا فلسطين"، أو "فلسطين فوبيا"، إنما هي مقدمة لـ"فوبيا" سورية واليمن وليبيا والعراق.. إلخ، بل إننا نعيش إرهاصات ذلك الآن. أي زلل لا أخلاقي لا ينبغي أن يتبناه أو يقبله أي طرف، فمصيرنا العربي واحد مترابط، ولن تكون حرية فلسطين قبل أن تتحرّر سورية، وكل عالمنا العربي من الأنظمة القمعية والمتخلفة.
المصدر : العربي الجديد
27/12/1439
7/9/2018