سموا لنا رجالكم

بواسطة ربيع حافظ قراءة 737
سموا لنا رجالكم
سموا لنا رجالكم

سموا لنا رجالكم

 

 ربيع حافظ

 

بالأمس منعوا الجيش الأمريكي من عبور أراضيهم لغزو العراق، وخرجوا من طابور الغنائم، وتحملوا ثمناً سياسياً واقتصادياً باهظاً، واليوم يقفون بقامة تاريخية طويلة أمام عربدة اليهود ومشهد فلسطين الدامي. غيرهم تواطأ مع الاحتلال، واصطف في طابور الغنائم، وتوارى عن مشهد ذبح فلسطين. المحصلة هي أن التصفيق من نصيب الثاني.

في مسارات الأمم محطات لا يجدي افتراض حسن النوايا عند الآخر فيها نفعاً. انطلقت الدولة العربية الإسلامية الأولى وكل شيء فيها يقوم على الثقة المطلقة، حتى وقعت أزمة الدستور في القرن الأول الهجري، عندما حاولت فئة العبث بنصوصه بدس كلام مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم .

استنفرت الدولة إمكاناتها، وأقامت نقاط تفتيش، رفعت فوقها لافتات تقول: "سموا لنا رجالكم"، أي سموا الأشخاص الذين أوصلوا إليكم ما تزعمون أنه نبوي، لنستبين سيرتهم السياسية والفكرية، إذ ما كل من حمل منجلاً أذن له بالحصاد. قال التابعي الجليل ابن سيرين: "كان الناس لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قلنا سموا لنا رجالكم".

جعلت الدولة من آلية النسب السياسي بوصلة أمنية، وأجرت مسحاً سكانياً، بنت على أساسه قواعد معلومات سير ذاتية للنشطاء السياسيين عرفت بـ "علم الرجال"، وابتكرت نظاماً قضائياً يعتمد النبذ الاجتماعي أسلوباً للعقاب؛ فكان الكذاب، والوضّاع، والمدّلس. وفعلت الشيء ذاته مع الكتل السياسية والمذهبية وأسست قواعد معلومات عرفت بـ "الملل والنحل"، وسار المؤرخون على النهج ذاته، فجاءت فصول التاريخ متمايزة الألوان، وطوقت الأزمة، وحيل دون أن يتحول ميراث الأمة إلى مال سائب يغري السارق.

مال سائب :

ملفات الأمة اليوم مال سائب: نصيريون؛ حلفاء للمحتل الفرنسي بالأمس، رسل وطنية اليوم. صفويون أنقذوا أوربا من الفتوحات العثمانية، ورقصوا في كل مرة سقطت فيها أرض عثمانية بيد القياصرة الروس، يصبحون رأس حربة الجهاد. خمينيون أفتوا بشراء السلاح من إسرائيل لقتال العراق، يؤممون لافتة المقاومة ضد إسرائيل، وضد أمريكا التي يشاركونها في احتلال أفغانستان والعراق. "حزب الله" الذي نثرت حاضنته الشيعية الرز على الجيش الإسرائيلي الغازي للبنان في 1982، يحتكرون المقاومة ضد إسرائيل. "جيش المهدي" الذي نادى بطرد العرب من العراق، وغمد سيوفه في وجه المحتل الأمريكي، يرفع علم العروبة والمقاومة.

مال سائب بحاجة إلى حصر، وإلى حساب مصرفي، يسجل باسم من صنع التاريخ في هذا المكان من العالم، وحمى الجغرافيا، وعرقل المشاريع التفتيتية الحاضرة ثلاثة قرون على الأقل منذ عصر "الاستكشافات" الجغرافية، وصد عنها الطاعون الصفوي. ولو سئل التاريخ في القرون الخمسة الماضية عن صانعه، لنطق وأجاب: إنه النظام السياسي العثماني معضداً بالشعوب التي حمى بيضتها.

في أجواء لبِسَ فيها العدو لبوس الصديق، وفشا فيها التدليس، وعربد فيها اليهود، هتف أردوغان: "أنا حفيد العثمانيين .. وأنتم يا من شردتكم أوربا، ولم تجدوا في العالم من يؤويكم، نحن الذين آويناكم .. ثم ها أنتم تعضون اليد التي امتدت إليكم". الكلمات نقاط على حروف كتب بها تاريخ أصم لا يحكي للأبناء قصة الأجداد، استعادت العنوان الحقيقي للصراع، وعرفت بأطرافه الحقيقيين، وسط زحمة عناوين وكثرة أدعياء.

صواب عاجز :

أهمية كلمات أردوغان ليست بما سيليها، فلن يليها على الأرجح شيء مزلزل، وتتساوى حيئنذ في العجز مع عناوين أخرى، لكنه عجز ببوصلة تشير في الاتجاه الصحيح، وغيره بوصلته طائشة. وفرق بين عجز مبعثه ضعف حيلة، وعجز مبعثه غياب رؤية. أهمية كلمات أردوغان مكمنها في النظرية الإستراتيجية: "إبدأ والنهاية صوب عينيك"، وإنك إن لم تبدأ اليوم فستبدأ غداً. والتصويب على الهدف دون إطلاق ليس خطأً، الخطأ هو الإطلاق من دون تصويب.

كلمات أردوغان عنوان في طور الصرخة ـ المطلوبة ابتداءً ـ التي تأتي مصحوبة بعاطفة جماهيرية، وهو بحاجة إلى احتضان آيديولوجي مسموع ومقروء، فلا يتراجع عندما تتراجع العاطفة، ليصبح العجز حينذاك صفة ملازمة.

معالجة العجز لا تتم من طرف واحد ـ الأنظمة ـ فالأجيال العربية والتركية من الفئات العمرية النابضة التي تتشكل منها منظمات المجتمع المدني، والتي يقع عليها عبء التأثير والتغيير في المجتمع، هذه الفئات نشأت وتعلمت في ظل واقع وتحديات مختلفة، هي تؤمن بالخطوط العريضة للتاريخ المشترك، لكنها لا تدرك خياراته الإستراتيجية.

تركيا تدرك بشكل جيد ما معنى الهوة بين الفكرة والجمهور، وكيف تجسر، وشجعت برامج مشتركة بين منظمات المجتمع المدني ومؤسساتها الإعلامية والاجتماعية لتقليص هوة ثقافية بين شبيبتها وبين نظرائهم في شعوب الاتحاد الأوربي، حتى تحولت فكرة الانتماء إلى أوربا من صرخة عاطفية في ذهن المواطن التركي إلى قناعة إستراتيجية.

هل نحن سائرون في اتجاه تبديد العجز؟ رغم كل العوامل المؤاتية، فإن المعركة الإعلامية والفكرية الإقليمية لا تسير في صالح العثمانيين الجدد، وإنما في صالح الساسانيين الجدد. وليأذن لنا العثمانيون بالقول: إن إعلام العثمانيين الأوائل كان أكثر فاعلية، فموقف السلطان عبد الحميد الثاني من قضية فلسطين وبعد أكثر من قرن لا زال محفوراً في ذاكرة كل عربي ومسلم. أما وقفة الشعب التركي النادرة بوجه الجيش الأمريكي قبل أقل من عقدين، فذهبت طي النسيان، ولم تستثمر في كسب العقول والقلوب كمحطة مفصلية في القرن الواحد والعشرين مثلما كان قرار السلطان عبد الحميد مفصلياً في نهاية القرن التاسع عشر.

إعلامكم الموجه إلى مناطق نفوذ الأجداد، لا وجود له، تتحدثون باسم العثمانيين الذين حكموا الجوار العربي أربعة قرون، ولا تملكون قناة فضائية واحدة تخاطب العرب بلغتهم. مثل هذه القناة ـ التي سبقتها القناة الكردية وربما ستسبقها الأرمينية ـ هي أكثر بكثير من مجرد أستوديو وحفل افتتاح، فمن طلب العلا سهر الليالي، ومن طلب علا العثمانيين عليه بالأسباب.

إعادة اصطفاف :

ليس الحديث هنا عن صورة يستأثر فيها ورثة العثمانيين ـ تركيا الحديثة ـ بقرار المنطقة، فتلك صيغة تجاوزتها علاقات الشعوب، ولقراء التاريخ، فإن مركزية الدولة العثمانية كانت محور الخلاف الرئيس مع رعاياها العرب من المؤيدين لحكمها وليس المعارضين له. الحديث هو عن إعادة اصطفاف إقليمي يحفظ للورثة ميراثهم، ويستعيد ملفاتهم، ويخرج منطقتهم من بورصة المضاربات الإستراتيجية.

بعبارة أخرى: هو "التأميم الاستراتيجي" للمنطقة، كتأميم شعوب أوربا نفسها لإستراتيجية الاتحاد الأوربي، وكنحو مما تفعله أمريكا اللاتينية من تأميم لاستراتيجيها تحت راية "رفع سيف الإفقار الأمريكي" المسلط على رقابها. بعبارة مختلفة: هي "الإستراتيجية الاشتراكية"؛ بضاعة واحدة موحدة في السوق الإستراتيجية، فلا ولاية فقيه ولا لبرالية ولا غيرها.

كان المفترض أن يحتل النظام السياسي العربي موقعاً أمامياً في تحقيق الصورة الإقليمية، لكن المنطقة التي توشك رياح الأزمات أن تقتلعها من جذورها، لن تمنح الدور لأنظمة تتخاصم ثم تتصالح ثم تعود وتتخاصم كالصبية. ما يقتضيه الحال هو ريادة دولة مؤسسات وقانون، ونظام سياسي متعاف، وعضلات دولية. نحن بهذه المواصفات نقف أمام دولة واحدة وحيدة وأخيرة في المنطقة: تركيا. يضاف إلى ذلك، أنها الدولة التي يتداخل أمنها القومي بشكل مباشر مع الإرث العثماني؛ وتحتضن أرشيفه الضخم، الذي يختزن ملفات القرون الخمسة الأخيرة الأخطر في تاريخ المنطقة، التي شهدت صعود المد السياسي الأوربي، وتراجع العالم الإسلامي، ثم سقوطه ككتلة سياسية دولية، ودور القوى الإقليمية (إيران)، وهي ملفات تفتح من جديد، وتركيا هي المكان الطبيعي لمركز معلومات Think Tank ينهض على هذا الأرشيف لاستدراك النقص الخطير في الدراسات الاستشرافية وتصويب الصور النمطية، وليس فقط تحقيق المخطوطات التي تنحصر فيه ثروته الآن.

تركيا من جهتها لن يكون دورها الريادي الإقليمي هبة خيرية، فهي ـ كما تشتكي وتردد ـ كبير بلا نصير، وتدرك أنها تواجه مسارات إستراتيجية مسدودة في الاتجاهات الأربعة، وحاجتها إلى نظام إقليمي يجعل من جوارها حاضنة لها بدلاً من أن يكون عمقاً لخصومها، لا تقل عن حاجة العرب.

الصورة المكتملة:

في فم أردوغان ماء كثير. هو تحدث بلهجة زعيم إقليمي: "أنا حفيد العثمانيين .. أنا زعيم دولة ليست عادية". العثمانيون لفظ إذا ذكر حضرت معه معان يلتقطها المعنيون. ما لم يقله أردوغان وهو يرى جغرافية أجداده تفتك بها الطائفية الإقليمية، معتبراً الأمر صواباً تاريخياً وخطأ سياسياً في آن واحد هو: يا من تدعون نصرة فلسطين ومعاداة إسرائيل، سموا لنا رجالكم؛ أهُم: قورش الذي تسير دولتكم على تأريخه؟ أهو أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل مؤسس الدولة، الذي تقدسون قبره؟ أهو نصير الدين الطوسي، الذي أغوى هولاكو فدمر الخلافة الإسلامية وتراثها؟ أهو الخميني، الذي أفتى بشراء السلاح من إسرائيل؟ ماذا نصدّق، أقوالكم أم أفعالكم؟ لقد عرف العالم أجدادي، بدءاً بمحمد الفاتح وانتهاءً بالسلطان عبد الحميد، الذين لولاكم (أيها الصفويون) ـ كما قال مستشرق بلجيكي ـ لكنا في بلجيكا وفرنسا نقرأ القرآن كالجزائريين، فمن هم أجدادكم؟

إذا كان الإقصاء والحرمان من الميراث هي عقوبة الأب لإبنه العاق، فإن الأمم لا تورث ملفاتها لمن عقّها وودّ أعداءها. هذه الأمة لا يرثها من أدام وفاقاً استراتيجياً مع ألد خصومها على اختلاف عهوده السياسية والدينية، بدءاً من إسقاط بابل وتحرير اليهود من السبي وإعادتهم إلى "أورشليم" (في العهد الوثني)، وانتهاءً برد اليهود للجميل في (إيران غيت) في العهد "الإسلامي". هذا الخصم هم الفرس، ليس الفرس على الإطلاق، فـ {لو كان الإيمان في الثريا لناله رجل أو رجال من هؤلاء} كما قال صلى الله عليه وسلم وأشار إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وإنما من اختار منهم العودة إلى المجوسية، تحت غطاء حب آل البيت، وعظّم قاتل مؤسس الدولة، وتفاعلت كيمياؤه مع كيمياء اليهود في كره واحتقار العرب؛ هؤلاء هم: الساسانيون الجدد.

النسب السياسي هو كلمة العبور إلى ميراث الأمة. ما كنا نسأل عن النسب طوال العقود الماضية ـ مذ غادر سدنة النسب (العثمانيون) ـ فلما أُتينا من حيث لا نحتسب، وسقطت دفاعاتنا من الداخل، وحلت فينا الكوارث، قلنا: سمّوا لنا رجالكم.

سيستدرك القارئ: أمِن حكمةٍ في تأجيج النار مع الجار؟ الجواب: لا. وإذا كان الإسلام أوصى بالجار الأربعين، فالجيرة الدولية من باب أولى، لأن عواقبها أعم وأطمّ، ومع ذلك فإن الجار لا يترك لجاره السفيه الحبل على الغارب، وقد يرفع سوره، أو ينقل مدخل بيته. إيران لم ينجُ من سفهها الجار الأربعون، أفلا يرفع جارها الأول جداره معها؟

غير أنه فرق بين نار ونار، فنار الساسانيين الجدد التهمت ديارنا وأهلكت الحرث والنسل والتراث، وجلبت معها نار الروم وتداخلت ألسنة النيران. الرد على هذه النار ليس بنار تحيل فارس خراباً يباباً كما فعلت هي بديار العرب، وإنما كالتي أرادها عبقري الأمة وعقلها الاستراتيجي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "ليت بيني وبين فارس جبل من نار". هذا الجبل حلت محله اليوم سهول سذاجة، مر فوقها الساسانيون الجدد في "الطريق إلى بغداد".

ربَّ قائل: أمنية ابن الخطاب كانت قبل الفتح الإسلامي لفارس. والجواب: بمَ تختلف إيران التي تخون جوارها الإسلامي في الاتجاهات الأربعة (العراق، أفغانستان، باكستان، أذربيجان)، وتقدس قاتل من أنقذها من عبادة النار، ولا تحتفل بالفتح الإسلامي لفارس، بمَ تختلف إيران هذه عن فارس ما قبل القادسية؟ وإذا كان الجواب بالنفي، أفلا تكون إستراتيجية "الجبل الناري" قد استوفت شروطها؟

إذا كان نسب الدم هو صمام أمن الأسرة، الذي بدونه يفشو الاحتيال وتضيع الحقوق. فإن النسب السياسي هو صمام أمن الأمة، الذي بدونه يسرق الميراث ويخطف المسار. ما يحدث اليوم هو فوضى أنساب، وسِفاح سياسي، ولقطاء، وسرقة ميراث تخلى عنه الورثة الشرعيون.

صدع أردوغان بالنسب السياسي السامق في برلمان أنقرة، التصفيق الذي استقطبه، الترحيب الذي حازه على امتداد الطيف السياسي، عودة المعادلة العثمانية إلى الحسابات الإستراتيجية، العواطف التي اجتاحت الشارعين العربي والتركي، براهين على أن شأناً عظيماً أدار العرب والأتراك ظهورهم له بكلفة زمنية هي القرن العشرين، في وقت كانت تبحث فيه الشعوب عن أواصر أو شبه أواصر مع كتل سياسية تدخل تحت جناحها القرن الواحد والعشرين.

هذا ليس وقت تبديد الفرص. أردوغان وضع عنوان المشهد فقط، وبقيت التفاصيل.

 

المصدر: شبكة القلم الفكرية

 



مقالات ذات صلة