ابن كثير يحاكم "خوارزم شاه" فمن يحاكم "حسن نصر الله"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قال ابن كثير- رحمه الله- في البداية والنهاية (13/119) في ثنايا عرضه لحرب التتار: "وقد قتل- جنكيز خان- من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البُداءة من "خوارزم شاه"، فإنه لما أرسل جنكيز خان تجاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيز خان إلى خوارزم شاه يستعلمه: هل وقع هذا الأمر عن رضى منه، أو أنه لا يعلم به؟ فأنكره. وقال فيما أرسل إليه:"من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون، لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإن كان أمراً أمرت به، طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره وتقتص من نائبك"، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان، لم يكن له جواب سوى أن أمر بضرب عنقه، فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث:(اتركوا الترك ما تركوكم)، فلما بلغ ذلك جنكيز خان، تجهز لقتاله، وأخذ بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها، ولا أبشع".
ومن هذا العرض تعلم أن العلماء قد حاكموا من "أساء التدبير" من سلاطين المسلمين ولو كان ذلك منهم على سبيل الاجتهاد فيما يصلح الأمة وبعيداً عن "سوء المقصد" الذي نرى أن الشيعة ليسوا ببعيدين عنه أو على الأقل التحرك وفق حسابات مذهبية قومية فارسية محدودة، فلو أعرضنا عن ذلك، وتصورنا أن "حسن نصر الله" قد أقدم على مغامراته بدافع الدفاع عن الأمة، فهل لنا أن نحاكمه لاسيما وقد فاق الرد الإسرائيلي كل التوقعات في القسوة والبشاعة، إن كل عمل تقوم به، لابد وأن تعرف أن الخصم لاسيما إن كان في مثل صلف وكبر اليهود لابد من رد فعل فهل أخطأ حزب الله في حساباته هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذه السطور التي نكتبها بينما إسرائيل تقوم بغارة برية عنيفة على الأراضي اللبنانية.
أولاً: حزب الله وإسرائيل قبل الأزمة:
لا يخفى على أحد أن الحلم الإسرائيلي بدولة تمتد من النيل إلى الفرات، لم يلغ من العقلية الإسرائيلية ولكنه مؤجل إلى أن تأتي الفرصة المناسبة- نسأل الله ألا تأتي- وعلى ذلك قررت إسرائيل البقاء داخل حدودها الحالية مؤقتاً، ولكنها تبحث عن حدود آمنة، وحبذا لو وجدت مناطق عازلة على جميع حدودها، وعلى صعيد الجبهة اللبنانية اختارت إسرائيل أولاً وضع جيش الجنوب اللبناني العميل الذي كان يكلف الخزانة الإسرائيلية تكلفة باهظة، وفي نفس الوقت لم يكن قادراً على صد هجمات الفصائل الفلسطينية المختلفة التي كانت تنطلق من الأراضي اللبنانية، وفي هذه الأثناء كان حزب الله يسعى إلى استكمال مظاهر دويلة شيعية في الجنوب اللبناني، وهنا التقت إرادة الطرفين فقامت إسرائيل بالانسحاب الاختياري من الجنوب اللبناني مع تفكيك جيش الجنوب الموالي لها، تاركة المجال لحزب الله مع الحصول على تأكيدات سرية وعلنية من قادته بأنه حركة مقاومة لبنانية وأنه يسعى لحماية الحدود اللبنانية بالإضافة إلى تحرير ما تبقى منها وهى منطقة مزارع شبعا، ومنذ انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني والمواجهات العسكرية بين الجانبين لا تعدو أن تكون مناوشات خفيفة تقتصر على المناطق العسكرية مع تجنب كل طرف ضرب مدنيين الطرف الآخر.
وبموجب هذه المعادلة التي فرضت نفسها (وربما يكون قد تم الاتفاق عليها بصورة أو بأخرى) كان على حزب الله أن يمنع تسلل أي من الفصائل الفلسطينية الإسلامية أو الغير إسلامية إلى داخل إسرائيل عبر الحدود اللبنانية، حيث أن إستراتيجية المقاومة الفلسطينية تقوم على تنفيذ عمليات استشهادية في التجمعات المدنية الإسرائيلية خلافاً لإستراتيجية صواريخ "الكاتيوشا" التي يقذف بها حزب الله من داخل حدوده.
وبذلك، حصلت إسرائيل على حماية مجانية، وحصل حزب الله على ما بقى له من أجهزة الدولة، حتى أصبح الجنوب اللبناني يمتلك من مقومات الدولة أكثر مما يمتلك الشمال.
ثانياً: حزب الله يخرج على قواعد اللعبة:
لقد خرج حسن نصر الله ليعلن للجميع أن قواعد اللعبة قد تغيرت، مما شكل مفاجئة كبيرة لجميع المحللين، فالطبيعي هو أن إسرائيل هي التي ترغب في تغيير قواعد اللعبة ولكنها كانت تنتظر الفرصة المناسبة، والوضع بالنسبة لحزب الله أشبه بالتالي فلم يخرج عن قواعد اللعبة، يكاد يجمع كل المحللين على أن حزب الله قدم مصالح الوطن الشيعي الأم "إيران" على مصالح دويلته الشيعية، وأما مصالح الفلسطينيين فضلاً عن مصالح الأمة الإسلامية ككل فلا تظن أن أحداً لديه أدنى إلمامة بما يحدث على أرض أفغانستان وأرض العراق يشك ولو للحظة أنها خارجة تماماً عن حسابات حزب الله، ولكن ما هو السيناريو الذي كان حزب الله يتوقعه للأحداث عندما قام باختطاف الجنديين الإسرائيليين؟.
غالب الظن أن حزب الله كان يظن لاسيما مع وجود تصعيد داخل فلسطين أن إسرائيل سوف تلجأ إلى "إيران" للتفاوض عبر "أمريكا" وفى هذه الحالة سوف تحصل إيران "لا حزب الله" على ثمن إرجاع الجنديين وهو تمرير الملف النووي أو تأجيل التصعيد فيه لاسيما وأن الرئيس الإيراني قد اضطر في أثناء زياراته للصين الشيوعية الحليفة له (وليست شيطان أكبر ولا أصغر وفق السياسة الإيرانية لا وفق العقيدة الإسلامية طبعاً) إلى أن يخلع عنه ثوب العنترية وأن يطالب بحق بلاده في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية وأن يعلن أن المسلم والمسيحي واليهودي عنده سواء وأن يتراجع عن تشكيكه في محرقة اليهود، مما عرى البطولة الإيرانية الزائفة أمام العالم، فكان لابد من ميدان تستعاد فيه هذه البطولة.
ولكن ماذا كان رد الفعل الإسرائيلي؟
لقد طورت إسرائيل الهجوم ورفضت اللجوء إلى طاولة المفاوضات ولجأت إلى ضرب المدنيين في لبنان مما عرى حزب الله أمام الجميع، فليس أمام الحزب إلا القبول بأحد خيارين أحدهما مر: إما الاعتراف بأن قادته من خنادقهم الحصينة يغامرون ويقامرون بأرواح المسلمين حتى الشيعة منهم، وإما الاعتراف بأن قادتهم لا يعرفون أبجديات المواجهة، وأنه ليس المهم أن تفعل ولكن المهم أن تكون قادراً على صد رد فعل الخصم أو احتماله على الأقل.
وهذا ما لم يعد له حزب الله أي نوع من العدة، ولم يجدوا إلا تكرار الأحاديث الإعلامية المستهلكة عن آثار الصواريخ التي يطلقونها على المدنيين في إسرائيل، ومع الاعتراف بأن حجم الخسائر التي ألحقها الحزب بإسرائيل يعد كبيراً مقارنة بالمواجهات السابقة إلا أن إسرائيل على ما يبدو قد غيرت من عقيدتها العسكرية وأصبحت لديها تحت قيادة "أولمرت" وربما بإيعاز من "بوش" استعداد لتقبل كم أكبر من الخسائر كما فعلت أمريكا في أفغانستان والعراق.
ولم يقتصر الأمر على مجرد عدم توفير أي غطاء للمدنيين بل تعدى الأمر إلى عدم وجود قدرة على إطالة أمد الحرب وهو ما تراهن عليه إسرائيل، وركزت تصريحات حسن نصر الله على وجود مخزون من الصواريخ يكفي حزب الله للقتال لمدة أشهر، ولكن المراقبين يعرفون أن مخزون حزب الله من الصواريخ طويلة المدى نسبياً محدود للغاية، وأن هذا المخزون الذي يتحدثون عنه معظمه من صواريخ الكاتيوشا التي لا يتجاوز مداها الـ