من خُميني إلى خامنئي... الثـَورة تـصدر من جَديد!! (الجزء الأول)
بقلم / أحمد عبد الله العراقي
المقدمة:
لم تكن الثورة الإيرانية قائمةً على أساس ثقافة حكومة صالحة بدلاً من حكومة سيئة، أو تصحيحٍ لمسار حكومةٍ مخطئة، كما لم تكن الثورةُ قائمةً على أساس النظريات السياسية، أو غير ذلك من العوامل أو المحركات التي تحدث في عالم الثورات، إذ أن حقيقة الثورة التي قام بها "الخميني" إنما قامت على أساس (المذهب الشيعي)، وبالخصوص عقيدة الإمامة والغيبة الكبرى، والتي تعني (أن الإمام يُعيّن من بَعد النبي من عند الله ـ تبارك وتعالى ـ ويكون الإمام كالنبي معصومًا، فطاعته واجبة على الأمّة، وهو رئيس وحاكم الأمّة الديني والدنيوي).
يقول "الخميني" في كتابه "الحكومة الإسلامية" (ص36): (من حق الفقهاء ـ أي علماء الشيعة ـ بل من واجبهم، ومن المفروض عليهم أن يسعوا إلى أن يكونوا خلفاء لإمام آخر الزمان, الإمام الغائب, وأن يمتلكوا زمام الحكم كممثّلين للإمام وكمندوبين عنه، ومن هنا تصبح طاعتُه واجبة، ليس فقط كإمام؛ بل كنبيّ وكرسول)
بهذه الأفكار قاد "الخميني" المعارضة، واستقر في (نفل لو شاتو) في باريس، تحميه الشرطة الفرنسية، وكل الإذاعات العالمية والصحف الكبيرة تنشر ما يقوله ضد "الشاه"، وكان أنصاره في إيران ينشرون خُطَبَه ومقالاته المثيرة بين أوساط الناس، وكذلك ساعدته إذاعة "بي بي سي" الفارسية في "لندن"، فأذاعت كل ما يقوله "الخميني" ويطلبه من الشعب؛ فلعبت في ذلك دورًا كبيرًا ومهمًا في نجاح الثورة؛ لأنها الإذاعة الفارسية الوحيدة التي يهتم بسماعها الشعب الإيراني، حيث يعتقد أن هذه الإذاعة تُجسّد السياسة البريطانية.
إن مشروع تصدير الثورة الإيرانية قد تزامَن مع نجاح الثورة عام 1979، والتي كان لها التأثير البالغ، لا على البلاد الإسلامية فحسب، بل على العالم أجمعه، فعند نجاح الثورة رفع قائدها "الخميني" شعار تصدير الثورة الإيرانية إلى العراق ولبنان ومصر وأقطار الخليج العربي, إلا أن حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران نجحت في إعاقة مشروع تصدير الثورة الإيرانية، بيْد أنها لم تستطع القضاء عليها، فالسنوات الثماني أرهقت العراق ومن خلفه الدول العربية الداعمة لحربه؛ إلا أن هذا الإرهاق أعطى بعض نقاط التفوّق للجانب الإيراني؛ رغم أن إيران تكبّدت خسائر بشرية ومادية باهظة؛ أدت إلى هزيمتها الكبرى في عام 1988م، كما أن حرب الكويت والحصار الاقتصادي أضعَفَ العراق أكثر؛ ما جعله مضطرًا للتعامل مع إيران، وبذلك تمكّنت إيران وبصورة سلمية أن تحقّق ما عجزت عن تحقيقه في الحرب، فقد شهدت فترة التسعينيات من القرن المنصرم دخول الآلاف من الكُتُب الدينية لعلماء الدين الإيرانيين إلى أسواق الكتب العراقية، والتي كانت بمثابة كُتُب التبشير بأفكار الثورة الإيرانية وإيديولوجياتها، وقد ساعد هذا الأمر على تنشيط الحركة الدينية الشيعية في العراق، إضافة إلى عودة الحياة إلى "حوزة النجف" الدينية، التي لا يخفى على أحد علاقاتها الوثيقة مع "حوزة قم" في إيران، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالعراقيون المشبّعون بأفكار علماء الدين الإيرانيين من خلال مؤلفاتهم التي غزت العراق، بدأوا بالسفر إلى الخارج ونشر هذه الأفكار في الدول العربية والأجنبية التي توجّهوا إليها؛ لغرض العمل وطلب الرزق، بعد أن تدهورت حالتهم المعيشية في العراق؛ بسبب الحصار الاقتصادي.
والآن وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق......
هل كانت أمريكا تضع في أجندتها أنها ستُنعش مشروع تصدير الثورة مع وضع أول حجر في بناء المشروع الديمقراطي في العراق ؟
وهل بإمكان هذا المشروع أن يقف بوجه التيار الراديكالي الإيراني؟
إن مشروع تصدير الثورة أخذ ينشط بكل قوته بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، من خلال الأحزاب الدينية الموالية لإيران أو المتعاطفة معها، على اعتبار أن الخط العقائدي الذي تنتهجه واحد، كما أن بعض شيعة العراق قد تشبع بأفكار الثورة الإيرانية وقياداتها من خلال مؤلفاتهم التي كانت تُضَخُّ بكمياتٍ هائلة إلى العراق في التسعينيات.
وإن خطر تصدير أفكار الثورة ليس وليد اليوم، ولكن المعادلة العراقية الجديدة وفّرت بيئة صالحة لهذه الأفكار؛ لاسيما وأن خطر الاحتلال الفكري لا يقل في النتائج المهلكة عن خطر الاحتلال العسكري؛ بل قد تفُوقُه بعض الأحيان.
ولعلّ الخطر الأكبر لتصدير الثورة الآن يتركز في العراق؛ لأن نجاح مشروع تصدير الثورة في العراق سيؤدي إلى ابتلاع إيران لمنطقة الخليج بأكملها؛ نظرًا للموارد المادية والبشرية التي تمتلكها المنطقة، والعمق الاستراتيجي الذي تتمتع به.
وإن اتخاذ العراق ليكونَ واجهةً لتنفيذ مشروع تصدير الثورة، سيعطي لهذا المشروع حيوية وفاعلية لم يحظ بها هذا المشروع في بداية تأسيسه، وذلك بسبب البُعد القومي الذي كان يفتقده المشروع في ثمانينيات القرن الماضي، فعلى الرغم من محاولات التقرب التي كانت تبذلها إيران لكسب ثقة الدول العربية على مدى 25 عامًا من عمرها؛ إلا أنها كانت دائمًا ما تواجه السقوط في هاوية الاختلاف القومي، إذ إن العرب وعلى مر التاريخ لم يتقبلوا أو يقبلوا الدخول في مشاريع استراتيجية مع الفرس، لذلك فإن قومية العراقيين العربية سوف تذلل بالتأكيد هذا الحاجز، لينطلق المشروع بقوة أكبر مما بدأ به قبل أكثر من 26 عامًا، وقد أخذت بوادر هذا الانطلاق تظهر بظهور الفضائيات العراقية الشيعية، التي لا يجد المشاهد صعوبة في متابعة نقاط الشَبَه بينها وبين الفضائيات الإيرانية، حتى تصل في بعض الحالات إلى نسخٍ مكررةٍ منها.
إننا سنحاول وعبْر حلقات متعددة دراسة فكرة تصدير الثورة، والنظر إلى مراكز القوة والضعف فيها.
وما هو الخط البياني الذي وصل إليه تصدير هذه الأفكار، سواء على مستوى العراق أو على مستوى العالم بأَسْره؟
وما هي خطط الساسة الإيرانيين وآلياتهم لتصدير الثورة إلى المنطقة العربية والعالم؟
ولفهم ذلك كله لابد لهذا الموضوع أن يكون عبر حلقات متعددة، نَمُرّ من خلالها مسرعين على إرهاصات الثورة، والطبقة المشاركة فيها، ومن هي أهم القوى المساهمة في إسقاط نظام الشاه؟ وما هو دور أهل السنة في الثورة؟ وما هي حيثيات تلك الثورة؟ وإنما يأتي الإيجاز في عرض تلك الأحداث؛ لأننا نعني من هذا المقال دراسة فكرة تصدير الثورة الآن، وما هي الخطط المقترحة والآليات المناسبة لمواجهة هذه الأفكار، وسيكون ذلك في الجزء الثاني من المقال بإذن الله.
ـ إيجاز بسيط لتاريخ إيران المعاصر(السياسي والاقتصادي) إلى قيام الثورة:
تعتبر بلاد فارس إحدى أقدم دول العالم، إذ يمتد تاريخها إلى حوالي الخمسة آلاف سنة، وهي نقطة اتصال استراتيجية في المنطقة؛ لذلك تعرضت لفترات عديدة للغزو والاحتلال عن طريق قوى أجنبية متعددة.
وفي منتصف القرن السابع، أي حوالي(640م) حدث ما قَلَب مصير "إيران"، فقد حررت الجيوش العربية البلاد، واعتنق أغلب الفرس الإسلام، وحاولوا إضفاء لون فارسي خاص عليه ومختلف عن الإسلام، الذي كان سائدًا حينئذ في البلدان العربية, ويدين معظم الإيرانيين بالإسلام, ويتبع أغلبية كبيرة من السكان المذهب الشيعي الجعفري، والمعروف أيضًا بالمذهب "الإمامي" أو "الاثنى عشْري", ثم ديانات أخرى مثل: اليهودية، والزردشتية، والمجوسية القديمة، والبهائية.
ومن هنا فإن المذهب الشيعي كان ولا يزال يرتبط ارتباطًا وثيقًا مع القومية الإيرانية, بالإضافة إلى ذلك فإن هناك عاملاً آخر قد أشار إليه المستشرق الألماني "جوزيف شخت" حيث قال: (وفي خارج جزيرة العرب، أصبح الشيعة تستقطب كافة النزاعات الثورية وغير السُنية بين المسلمين)(1).
وعليه يمكن تقسيم العصر الحديث لإيران حتى قيام الثورة1979م إلى أربع مراحل:-
المرحلة الأولى:
شهدت هذه المرحلة حُكم القاجرين الذين كانوا في صراعٍ دائمٍ مع المعارضة الأهلية، وأدت هذه الصراعات إلى تشتيت مراكز القوى في البلاد.وحولت إيران إلى شبه مستعمرة تملك مشاركة محدودة في السوق العالمية، وكان أغلب الإيرانيين القاطنين في الريف يعتمدون على الزراعة، وحوالي 10% يعملون كتجار وبازاريين(مصطلح يعني الطبقة التقليدية من أصحاب الحوانيت وتجار الشوارع)، وصاحَبت هذه الفترة بدايات الانتشار للحوزة العلمية، وتأثر المجتمع الإيراني بالخطاب العلماني والرأسمالي، وشهدت هذه المرحلة بدايات الصراع، ما بين الخطاب القومي والخطاب الإسلامي, وكان الخطاب الديني السائد في هذه المرحلة (هو أن الملك يعد مغتصبًا للسلطة الدينية التي عهد بها "الإمام الغائب" المهدي, مؤقتًا إلى المجتهدين البارزين). وفي هذه المرحلة تشكّلت الجمعية السرية في مدينة "طهران" من مجموعة من العلماء والتجّار، وتعاهدوا على السرية ومعارضة الطغيان وقبول المهدي بصفته "الحامي الحقيقي" الوحيد للمجتمع، وتوجّت هذه المرحلة بالثورة الدستورية لسنة 1906م (وبتأثير من الثورة الروسية سنة 1905م) لتنتهي ببداية الإنتاج الضخم للنفط.
المرحلة الثانية:
تمتد هذه المرحلة من سنة 1906 إلى سنة 1914م، أي من الثورة الدستورية إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان يحكم إيران آنذاك الدولة القاجرية التي فتحت الباب على مصراعيه للنفوذ والاستثمارات الأجنبية، وخاصة البريطانية والروسية، الأمر الذي أثار حفيظة الطبقة الوسطى في إيران، الساعية إلى بناء اقتصاد رأسمالي، وتعد هذه الطبقة مصدر التمويل الأساس للمؤسسة الدينية الشيعية من خلال ما تمنحه لرجال الدين من رواتب.
المرحلة الثالثة:
تميّزت هذه المرحلة بالصراعات الاجتماعية والنمو الواضح في الحركة العمالية, وتميزت كذلك بنمو الاندماج الاقتصادي, مع أن إيران لا تزال شبه مستعمرة بالسوق العالمية، ورافق هذه المرحلة نشأة الحركة العمالية، ونمو في إنتاج النفط والتصنيع، وتمركز متزايد للطبقة العاملة, وكان من أهم السمات التي ميّزت هذه المرحلة هو الجدال حول سيادة النفط وحصة إيران من المداخيل، وبلغت هذه النزاعات ذروتها خلال الانتفاضة الاجتماعية (1941-1953)، والتي تبعت تنازل "رضا شاه"(1926-1941) عن العرش، وانتهت هذه المرحلة بسقوط الحركة القومية لـ "مصدق" (1951-1953).
المرحلة الرابعة:
تميزت هذه المرحلة الممتدة بين(1953-1979) بنمو المشاركة الإيرانية في السوق العالمية، كدولة ذات سيادة، مع سيطرة معتبرة على مواردها النفطية، وارتفاع سريع في مداخيل النفط، وكانت إيرادات النفط في وسط الخمسينات قد وصلت إلى 34مليون دولار، وفي عام 1978م قد وصلت إلى 54 مليار دولار، بَيْد أن هذا التوسّع لم يكن كافيًا للتخلص من التناقضات الداخلية، فارتفاع أسعار النفط لم يعد ذا فائدة ملحوظة على الجماهير، التي تضررت من التضخم المتزايد، وأصبحت الهوّة كبيرة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع.
في هذه المرحلة عمل "الشاه" على تغييرات سياسية، من أهمها إلغاء الأحزاب السياسية مع الإبقاء على الحزب الحاكم، وأعاد إلى الحياة مهمة البوليس السري "سافاك"، التي بطشت بالشعب الإيراني أيّما بطش، وعمل على تقطيع الأراضي الزراعية الكبيرة، واستحداث أراض صغيرة كي يستفيد 4 ملايين فلاح إيراني من تلك الأراضي، والسماح للمرأة بالتصويت.
أثمرت الإصلاحات الزراعية بشكلٍ إيجابي على الاقتصاد الإيراني، وكانت فترة الستينات وسبعينات القرن العشرين فترة انتعاش اقتصادي إيراني لم يسبق له مثيل. وبالرغم من الانتعاش الاقتصادي؛ إلا أن التغييرات السياسية التي مسّت الأحزاب الإيرانية وتفعيل دور "السافاك" ولّدت لـ "الشاه" أعداءً كثيرين.
وشهدت هذه المرحلة نموًا لافتًا للجمعيات الإسلامية بين طبقة المثقفين الإيرانيين، وكذلك ساهمت الأفعال الانفعالية لشريعتي عام 1963م في إحداث توافق بين الإسلام والماركسية، وانتهت هذه المرحلة بالثورة الإيرانية عام 1979م.
إيران قبـيل الثورة
إن سوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قبل الثورة شكّل الأرضية المناسبة لقيامها، فمن الناحية الاجتماعية بدأت كل مظاهر الحياة الغربية تتغلغل في ثنايا المجتمع الإيراني، وتعمل على تغير أنماط المعيشة وأساليب الحياة، وصاحَب ذلك التغير تغيير العادات الموروثة والتقاليد العائلية القديمة، ولازم ذلك كله انتشار الفساد والأفكار المادية والماركسية في صفوف المجتمع الإيراني، وكذلك انتشار الفساد ومحال بيع الخمور والمراقص وغيرها، ولكي نفهم واقع الثورة لابُدّ لنا من النظر إلى إيران قبيل الثورة من عدة نواحي:-
1- من الناحية السياسية:
لم يفعل "الشاه" شيئًا يذكر لتطوير البنية الفوقية السياسية للشعب الإيراني، وأن أغلب الأوضاع قبيل الثورة في إيران كانت تُنذر بالكارثة السياسية؛ لأن غالبية الحقوق السياسية كانت مفقودة، والقمع والتعذيب اشتد في زمن "الشاه" ضد رجال الدين والثوريين، ولاسيما حزب "تودة" الشيوعي، وأن استمرار تردي الوضع السياسي البائس في إيران قبيل الثورة سببه بطش "السافاك" بالمعارضين، وإخماد التظاهرات الشعبية بسلاح الجيش؛ إلا أن وصول "جيمي كارتر" (المنادي بحقوق الإنسان) في الولايات المتحدة إلى السلطة، قد غيّر مجرى المعادلة التي رسمها "الشاه" طيلة فترة حكمه، وبإسناد مباشر من الولايات المتحدة، فقد بدأ "جيمي كارتر" محاولاً الإيفاء بوعوده التي قطعها أمام الشعب الأمريكي قبل الانتخابات، والتي كان أساسها السعي لإيجاد الحريات للشعوب كافة، فقد بدأ بالضغط على الحليف القديم (الشاه)؛ لإعطاء الحرية للشعب الإيراني.
إلا أن الخطأ المميت، والذي كان بمثابة المهلكة السياسية للشاه، هو انصياعه للنصائح الأمريكية، وإعلانه الانفتاح السياسي، الذي كان نتيجته أن تحركت التنظيمات والجماهير لاستغلال هذه الحريات, فأسست مجموعة قوى تنظيمًا أطلقوا عليه (الثورة الإسلامية الإيرانية)، واختاروا "الخميني" قائدًا لها، ضانين أنه سيساهم في تماسك الشعب, فاستلم "الخميني" القيادة وأقسم الأيمان المغلظة أمام العالم، أنه ومن معه لا يطمعون في مكاسب الثورة, وإنهم لا يريدون لأنفسهم جزاءًا ولا شكورًا، وإنهم سيعتزلون السياسة عندما تنجح الثورة ويعودون إلى مدارسهم الدينية في مدينة "قم", يؤلّفون ويدرسون, والحرية المطلقة تكون في اختيار الشعب للنظام الذي يحبّذه ويريده.
2 - من الناحية الاقتصادية:
إن ظاهر البلد في مرحلة ما قبل الثورة كان يوحي بوضعٍ اقتصادي زاهر؛ إلا أن أكثر من 80% من الشعب الإيراني يعيش تحت خط الفقر، وفي حالة اقتصادية بائسة, كما أن الشعب كان يعاني من نقص في المؤسسات الطبية والخدمية، كما كان هناك أكثر من 85% من المدن والقرى بحاجة طرق المواصلات وإسالة الماء والكهرباء، وبلغ عدد العاطلين عن العمل في زمن "الشاه" أكثر من مليون ونصف مليون عاطل، في حين كان "الشاه" يدفع أربعة آلاف مليون دولار سنويًا إلى المستشارين الأمريكان, وحاول "الشاه" الاعتناء بالطبقة الوسطى من (البازار) لعدة أسباب يوجزها(يرفند إبرهميان) في كتاب إيران (1900-1980):
أ- إن عدد (البازارات) الأسواق التجارية كانت تضم حوالي (250 ألف) صاحب محل، وتسيطر على نحو ثلثيْ تجارة المفرق في البلد.
ب- إن البازارات استطاعوا أن يحتفظوا بتنظيماتهم، وخاصة اتحادات الطوائف التجارية والحرفية.
ج- إن مقاولي الأسواق كانوا يمارسون نفوذًا قويًا على آلاف الباعة المتجولين وصغار السماسرة.
ففي ظل تلك الظروف نشأت طبقة من الرأسماليين الأثرياء من التجار وأصحاب المحال، الذين كانوا يعيشون حياة البذخ والترف، في حين كانت هناك طبقة كبيرة من أبناء الشعب تعاني من شظف العيش، وتعيش حياة الحرمان، بينما كان الجهل والمرض منتشرًا في صفوفهم؛ لذلك كانت هذه الطبقة الكادحة هي وقود حركة "الخميني" خلال مراحل الثورة, وأن أية دولة لكي تعيش متجاوزة مشاكلها الاقتصادية؛ لابد وأن يكون لها بالإضافة إلى الإيرادات قاعدة اقتصادية تستند عليها، وهذا ما أخفق "الشاه" بتكوينه رغم الإيرادات النفطية الهائلة التي كانت تصل إليه, وعندما ضربت البلد أزمة اقتصادية حادة في عام 1977، وجد نظام "الشاه" نفسه معزولاً ومحاصَرًا من جميع النواحي.
3 - من الناحية الدينية:
إن الدور السياسي لرجال الدين في إيران تعرض لحالة من الانحسار النسبي في زمن "رضا خان"، الذي حكم البلاد بديكتاتورية مطلقة، مستخدمًا الجيش والقوى التي جاءت معه, ولم تنهض الحركة الوطنية والسياسية، ولم يتحرك الركود المخيم على طبقة رجال الدين إلا بعد أن خلعه الحلفاء عام 1941، وفي عام 1947 برز اسم "آية الله الكاشاني" كداعية إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ثم برزت أيضا حركة "فدائيين إسلام", ثم تجمع علماء الدين, ثم لمع اسم "آية الله الطالقاني"، وبدأت الدعوات تتصاعد لإقامة حكومة إسلامية في وقتٍ كانت أوضاع الشيعة في إيران قد استقرت من ناحية الهيكلية والتنظيمية, ولكن إيران كانت تعيش فراغًا سياسيًا كبيرًا من جراء سياسة القمع والتصفية التي انتهجها "الشاه"، بالإضافة إلى أن السخط الشعبي والجماهيري بدأ يتصاعد يومًا بعد يوم, فالمسلمون في إيران لم تعد مشكلتهم أنهم يعيشون في ظل حاكم جائر، ولكنهم أصبحوا يشعرون أن الإسلام ذاته أصبح في خطر؛ لاسيما بعد تهجير وقتل العلماء من قِبل "الشاه".
في ظل تلك الظروف وفي ذلك السياق، ظهر "الخميني" وجاء دوره ليس في الحياة السياسية الإيرانية فقط، ولكن في مسار الفقه الشيعي الذي يعتبر الانخراط في قضايا السياسة هو انتهاك المذهب, ظهر "الخميني" ليقدّم الحل الجاهز من "النجف" (إنها حكومة إسلامية في ظل ولاية الفقيه)، التي تعد أفضل الصيغ التي طرحت لتملأ الفراغ القائم في قمة الهرم الشيعي.
فبعد ذهاب الزعامة وغياب الإمامة، تقدم إلى الميدان فقهاء الشيعة ليأخذوا موقع القيادة، فأصبح الفقيه أكبر من مجرد كونه مرشدًا روحيًا، وتجاوزت مهمته حدود الفتوى إلى دور المستلم للخمس والزكاة, وبهذا أصبح الفقيه وثيق الصلة بالحياة الاقتصادية، وتوثّقت العلاقة بين الفقهاء والتُجار؛ ما وفر للفقهاء الاستقلال الاقتصادي، الأمر الذي أعطى الدعم المباشر للمؤسسة الدينية خاصة، والثورة الإيرانية عامة، سواء في الجانب الحركي منها أو الإعلامي .
وكذلك مما ساعد رجال الدين في إيران قبل الثورة في تعبئة الجماهير، وإيجاد التنظيمات السرية، هو رصيد الشيعة التاريخي في ترديد المظالم والاضطهاد التي ينادون بها.
إن نظام التقليد والمرجعية عند شيعة العالم عامة، وعند شيعة إيران خاصة، أعطى لكبار علماء الدين عندهم مكانة قيادية بارزة، وجعل لهم التأثير الكبير على مجرى الأحداث، ولاسيما أحداث الثورة الإيرانية التي اصطبغت بصبغة إسلامية لتكون القيادة الدينية والمذهبية للشيعة كافة.
4- من الناحية العسكرية:
بنى "الشاه" جهاز الشرطة السري، وسماه "السافاك"، وبمساعدة العائدات النفطية المتزايدة بسرعة استطاع "الشاه" أن يبني لنفسه مؤسسة عسكرية متفوقة، فارتفع عدد القوات العسكرية من 120 ألف مقاتل عام 1953 إلى 400 ألف مقاتل عام 1976؛ لتصبح خامس آلية عسكرية عالمية من حيث الحجم، ولم يكن اهتمام "الشاه" بالميزانية العسكرية فقط، بل أولى اهتمامًا خاصًا بالضباط من حيث التجهيز والتدريب، والدورات التطويرية، والنايشين، والسفرات الترفيهية للضباط، فبحدود عام 1977 كان باستطاعة الجندي العسكري أن يستلم حوالي 600دولار، بينما لم يكن دخل العامل الماهر أكثر من 340 دولار، وهكذا حكم "الشاه" أولاً وأساسًا كقائد عام للقوات المسلحة، وثانيًا كرئيس للدولة؛ إلا أن انفجار الجماهير تحت ضغط الحرمان والاضطهاد استطاع إيقاف الآلة العسكرية لـ "الشاه" والسيطرة على مفاصل الدولة في عام 1979م.
ـ مقدمات الثورة ومن أسقط "الشاه"؟
إن حقيقة الثورة الإيرانية هي حركة عفوية لجماهير حالمة، أكثر مما هي انتفاضة مخططة يقودها حزب سياسي منظم، فالثورة الإيرانية عندما وصلت إلى مرحلة الغليان، لم يستطع "الشاه" وجيشه ومخابراته وملايين الدولارات والأسلحة الحديثة أن تعترض طريقها؛ فأطاحت بعرش عمره يناهز ألفين وخمسمائة عام, وجيش كان قوامه أربعمائة ألف جندي، وخامس أضخم جيش في العالم مدجج بأحدث الأسلحة في وقتها، ومخابرات كانت من أقوى المخابرات في الشرق الأوسط، حيث كانت حكومة "الشاه" تتلقى الدعم المباشرة من أمريكا, ولكن ما إن اكتشفت أمريكا أن "الشاه" بدأ يفكر في السيطرة على الدول المجاورة له، وأحلامه بدأت تتجاوز المسموح، وبدأ يغرد خارج السرب الأمريكي؛ تخلت عنه كما هي عادتها دومًا، فأمدّت المعارضة بالمال ووسائل النجاح، وتبنت "الخميني" ومن كان معه، وهيئت له إذاعة "بي بي سي" باللغة الفارسية من لندن لتذيع خطاباته ورسائله، والشيء الذي يظل ذا أهمية مركزية هو أن نفهم وأن نعرف القوى التاريخية التي أدت إلى حدوث الثورة، التي لا تزال تفرض الكثير من التحديات، وربما أهم تلك القوى هي:-
1- الجبهة الوطنية (التي كانت ترى في الدكتور "مصدق" رائدًا لها)
2- نهضة المقاومة الشعبية (التي أسسها "الزنجاني" والمهندس "بازركان"، بعد أن انشقوا من الجبهة الوطنية، وكان للحركة نفوذ داخل الأوساط الجامعية والطلابية والبازار)
3- مجاهدي خلق(أسسه "موسى خياباني"، و"مسعود رجوي"، وكان الأب الروحي لهؤلاء هو "آية الله الطالقاني"، وكان "الشاه" يعبر عنهم بالماركسيين الإسلاميين، وكان لهم دور بارز في إنجاح الثورة)
4- تيار رجال الدين الذين اضطهدتهم سلطات "الشاه" خلال السنوات التي تلت المجابهة الدامية بين "الشاه" والزعامة الروحية، وكان لهؤلاء نفوذ واسع بين أبناء الشعب أمثال "الطالقاني"، و"حسن القمي"، و"الخاقاني"، وكان هؤلاء على طرفي نقيض مع "الخميني"، سواء في فكرته أو في سياسته، ولكن ما كان يجمعهم إلا أنهم كانوا في خندقٍ واحد ضد الشاه.
5- جماعة الدكتور "شريعتي"، وكان هؤلاء من الشباب الجامعيين المتحمسين للتجديد الإسلامي.
6- "خميني" ومن معه داخل وخارج إيران.
7- الأحزاب الشيوعية واليسارية، بما فيها حزب "تودة" الشيوعي الذي يمثل العمال والعناصر اليسارية.
8- منظمة مجاهدي العرب الماركسية.
9- أهل السنة في إيران، حيث لعب "أحمد مفتي زادة" دورًا كبيرًا في إثارة السنّة ضد "الشاه".
ومن أهم المقدمات الأساسية للثورة هي اجتماع هذه الأحزاب والفئات كلها على إسقاط "الشاه"،ٍ وبما أن كل الأحزاب والفئات كانت ترى نفسها أولى وأحق بتولية أمور البلاد، إذا ما قـُدّر للثورة أن تنجح، لذلك تنازعوا في بادئ الأمر، ثم استقر رأيهم على اختيار زعيم يقود الحركة، فاختاروا "الخميني". ويأتي اختيار "الخميني" للقيادة لعدة أسباب أبرزها:-
أ- حرية نشاط رجال الدين أواخر فترة "الشاه"، إذ كانوا يشكلون شبه تنظيم سياسي.
ب- انجذاب الجماهير لشخصية "الخميني" الكارزمية، حيث لم يكتف "الخميني" بأنْ يكونِ سياسيًا متصوفًا، بل عمد إلى تأسيس تنظيم سياسي.
ج- خطاب "خميني" الديني المنادي بالوحدة، وإعطاء كافة الحقوق لكل فئات الشعب المنكوبة يعطي نوعًا من الاطمئنان للجماهير الغاضبة والحالمة بشخصية غير متسلطة.
د- رأت الجماهير أنها يجب أن تتبع قيادة دينية لها القدرة على التعبئة والحشد، ولديها الاقتصاد الكافي لتمويل الثورة، ولن تجد أفضل من رجال الدين؛ نتيجة للعوامل الاقتصادية التي يتمتعون بها بواسطة أموال الخمس والزكاة المودعة لديهم..
هـ- مساندة المرجعيات الدينية له.
ـ عوامل نجاح الثورة الإيرانية:
إن نجاح الثورة الإيرانية له أسباب كثيرة، منها داخلية ومنها خارجية، وسنحاول التركيز على الأسباب التفسيرية والأساسية التي أدت بالنهاية إلى تقويض هيمنة "الشاه" وقيام الثورة, وربما أهم العوامل التي تكون مساهمة في إنجاح الثورة هي:-
1-الإرهاب الذي ارتكبه "الشاه" بلغ أشدّه في ظل "السافاك"، حيث التعذيب البشع وقتل السجناء في سجونهم ورمي المناوئين السياسيين أحياء في بحيرة "ساوة". .
2- الثورات المحلية كانت تُخمَد بالنار والحديد في ظل "الشاه" (3).
3- الوضع الاقتصادي كان ينذر بالكارثة(4).
4- إيرادات النفط كانت تنفق في شراء الأسلحة من أمريكا وأوروبا، والإسراف في مال الدولة والبلاط(5).
5- التدخل الأمريكي في إيران بلغ مرحلة الوصاية، فكان هناك 50 ألف مستشار أمريكي يتقاضون 4 آلاف مليون دولار سنويًا من ميزانية الدولة، إضافة إلى قانون الحصانة الأمريكية(6).
6-رجالات الدولة العليا ـ إلا قليل ـ لا يهمهم سوى إرضاء "الشاه" والانصياع لأمره(7).
7-القصص المثيرة من تلاعب "الشاه" وأركان دولته بأموال الشعب واستغلال النفوذ ونهب أموال الشعب، والتي كانت حديث كل فرد إيراني في مجالسه ونواديه(8).
8-وكذلك ساهمت إذاعة "بي بي سي" باللغة الفارسية، التي كانت تذيع خطابات وبيانات "الخميني" من لندن مساهمة كبيرة في حشد الجماهير.
9-إخفاق "الشاه" في إقامة قاعدة جماهيرية واجتماعية لسلطته.
ومن هنا لابد من ذكر الدور الكبير الذي لعبه "الخميني" مع الأمريكان، موحيًا لهم أن السياسة التي سيتبعها في حالة نجاحه ستكون موالية لهم، ولذلك يجب الانتباه إلى أن السياسة الأمريكية قبل كل شيء ينصبّ اهتمامُها على عدم انتصار الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في مثل إيران التي تحظى بموقع استراتيجي مهم، فقضية زوال "الشاه" وإبداله بنظام ديني متزمّت يقضي على الشيوعية قضاءً مبرمًا وتامًا باسم الدين، كان ضمن التخطيط الأساس للسياسة الأمريكية في هذه المنطقة الحساسة من العالم، والتي تملك حوالي 70%من احتياطي النفط العالمي، التي تتوقف عليه الحضارة الأمريكية؛ لذلك كان لابد من التعاون المشترك بين "الخميني" والثورة الإيرانية من جهة، وبين الأمريكان وأوربا من جهة أخرى؛ لذلك قدمت أمريكا الدعم المباشر لهذه الثورة.
ـ أهل السُنة في إيران ودورهم في صنع الثورة الإيرانية:
أهل السُنة في إيران في وقت الثورة كانوا يشكّلون خُمس الشعب الإيراني، شاركوا كغيرهم من فئات الشعب في صنع شرارة الثورة، يقودهم العلماء والدعاة، وعلى رأسهم الشيخ "أحمد مفتي زاده" (الذي وُلِد في إيران عام 1933م من عائلة متمسكة بالدين، فوالده وعمه من كبار العلماء في "كردستان", رحل إلى عدة مناطق طالبًا العلم الشرعي، وبدأ نشاطه الدعوي بتأسيس (مكتب قرآن)، وهو مركز لتعليم القرآن والتربية عليه, ويتجمع حوله يوميًا العديد من الشباب المتحمس، فأوقد فيهم جذوة الإسلام ولذة العم , فبدأ يطوف المدن والقرى محاضرًا وخطيبًا، كاشفًا الكثير من الحقائق، ومُعرفًا بأخطاء "الشاه"، ومحذّرًا من طغيانه.) عندها أدركت حكومة "الشاه" أن هذا الرجل أصبح خطرًا عليها وعلى نظامها، فدبرت محاولة لاغتياله، ولكن الله أبى وسلم, ثم أمرت باعتقاله، وفي فترة سجنه تعرّف على بعض دعاة الثورة الإيرانية كـ "الطالقاني"، و"محمد رجائي", فأحسن الظن بهم، ثم التقى الشيخ بـ "الخميني"، وقد وعده بإعادة الحقوق المسلوبة إلى أهل السُنة ورفع الحيف عنهم إذا ما نجحت الثورة, ولهذا ناصر الشيخ وخلفه أهل السنة الثورة، وحشدوا الجماهير لها. ومن ثم بادروا إلى حمل السلاح والمشاركة الفعلية في الثورة.
وعند نجاح الثورة وسقوط "الشاه"، كان أهل السنّة في إيران يترقبون قدوم عهدٍ جديد، لاسيما وأن "الخميني" كان يرفع شعار (لا طوائف بل إسلام).
وحال انتصار الثورة، انتهى الأمر على غير المتوقع! أو هو كذلك على الأقل في تقدير أهل السنة، حينما صدر دستور الجمهورية الإيرانية التي صدمت أهل السنّة مادته التي تحمل رقم(12)، والتي تنصّ على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام وهو(المذهب الشيعي الاثنا عشْري), فتنصل "الخميني"، وتلاشت معه الشعارات التي كان يرفعها قبل نجاح الثورة, عندها فاتح الشيخ "أحمد مفتي زاده"، "الخميني" وكبار رجال السلطة، وأخذ يذكرهم بوعودهم التي قطعوها، وبالأيمان الغليظة التي أدّاها "الخميني" للشيخ "أحمد مفتي زاده" بأن يرجع حقوق أهل السنة المغتصبة إذا نجحت الثورة، ولكن دون جدوى!!.
وعندها بادر أهل السنة بقيادة "أحمد مفتي زاده" بتقديم مبادرات إصلاحية للوضع الإيراني لكي لا يرجع إلى زمن الصراعات المذهبية والقومية، التي كانت سائدة في زمن "الشاه"، فقدم ثلاثة حلول لتتجاوز إيران حالة الضياع، التي ربما تتعرض لها وهي كالآتي:
1- إزالة الظلم ماديًا كان أو غير مادي عن كل فئات الشعب الإيراني دون استثناء.
2- إزالة الظلم المذهبي عن كل الطوائف دون استثناء.
3- إزالة الظلم القومي.
ولكن سرعان ما جوبهت هذه المقترحات بالرفض التام، ولم يتوقف الأمر عند الرفض، بل وجّهت إليه التهم العديدة، فأُودع السجن مع تلاميذه وإخوانه، وهنا تناست الثورة دستورها التي ينص على عدم اعتقال أي شخص دون أوامر قضائية وتقديمه للمحكمة، ثم أُفرج عن الشيخ بعد 24 ساعة.
ولم يتوقف أهل السنة عن المطالبة بحقوقهم، بل ظلّو يجاهدون من أجل حقهم المشروع، ونتيجة لذلك وفي سنة 1981م ساهم الشيخ بلملمة الصف السنّي في إيران عبر تشكيل (مجلس شورى أهل السنة)، ولكن لم يهدأ لحكومة الثورة بال إلا باعتقاله بعد أيام معدودة من تأسيس المجلس، وحُكِم عليه بخمس سنوات سجن، تعرّض فيها الشيخ إلى أشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، حتى شارف على الموت في سجنه، ثم أُطلق سراحه ليُتوفّى خارج السجن في 9/2/1993م؛ بسب الأمراض التي لازمته والناتجة من التعذيب الجسدي والحبس الانفرادي.
ـ اندلاع الثورة:
تُعد الثورة الإيرانية أكثر الثورات درامية في الأزمنة الحديثة، ففي معظم الثورات تساعد قوى خارجية في تحطيم النظام القديم, أما في الحالة الإيرانية فقد كانت القوى داخلية دون تدخل أي جيش خارجي، فضلاً عن أية قوة غازية.
فالثورة الإيرانية قامت على أنقاض النظام "الشاهنشاهي" في شباط (فبراير) 1979، والتي جاءت بشعارات وأطروحات جديدة قديمة، تتناقض وما كان سائدًا في إيران في عهد "الشاه". وقد بنت الثورة خطابها على أساس إسلامي ـ أممي بعيدًا عن الخطاب القومي السائد قبلها، وهذا ما جذب إليها الجماهير من القوميات غير الفارسية التي عانت ما عانت من النظام المتبجح بالعنصرية.
ففي عام 1979، وتحديدًا في الحادي عشر من شباط، اشتد زخم الحركة الجماهيرية بانتظام، وأصبحت الطبقة العاملة أكثر راديكالية، وحسمت المعركة بين معسكر الثورة بقيادة "الخميني"، ومعسكر النظام "الشاهنشاهي" بقيادة "محمد رضا بهلوي" لصالح الأول، إذ نزل إلى الشارع قرابة ثلاثة ملايين من الناس، في أضخم تحرك جماهيري في تاريخ إيران، وشاركت جميع الفصائل والقوى المسلحة في ثورة شباط 1979م.
وأمام هذه الحركة الجماهيرية، انهار نظام "الشاه" وأصبحت القيادة بيد رجال الدين لأسباب تاريخية واجتماعية، أهمها حرية نشاط رجال الدين، وكذلك لم يخطر ببال الشعب الإيراني وقتها بأن رجال الدين يمكن أن يناضلوا من أجل الاستيلاء على السلطة والحكم، فيما كانت الأحزاب والقوى السياسية الأخرى منقسمة ما بين (يسارية – ماركسية – شيوعية- وطنية – قومية)، وترفع هذه القوى شعار (استقلال – حرية - جمهورية إسلامية)، غير أن الجميع لا يعلم شيئًا عن ماهية الجمهورية الإسلامية، أي أن الثائرين ضد "الشاه" كانوا لا يريدون نظامه غير أنهم لا يعلمون ماذا يريدون، وقد أدى هذا الالتباس إلى امتناع بعض القوى اليسارية والوطنية من التصويت على (الجمهورية الإسلامية بنعم أو لا) في نيسان 1979.
نعم. لقد فقد "الشاه" مساندة جميع الشرائح الجماهيرية والفلاحين والمثقفين وأقسام من الطبقة الوسطى وكامل الجيش؛ فانهارت الدولة نفسها تحت ضربات الحركة الجماهيرية، وتظاهر عمال النفط؛ ما هدد الحكومة بالإفلاس، وأصبحت البنوك مغلقة بصورة مستمرة؛ الأمر الذي أدى إلى غلق العديد من الموانئ، وتعطيل عمليات استيراد السلع، وهو ما سبّب المزيد من الفوضى للاقتصاد الإيراني، كل هذه الأمور وغيرها جعلت "الشاه" ونظامه معزولاً ومحاصرًا من جميع النواحي؛ ما اضطره في 16 كانون الثاني 1979م أن يغادر إيران إلى غير عودة.
كانت هذه ببساطة هي أهم أحداث الثورة الإيرانية عام 1979م، فقد ضاعت السلطة واستولى عليها "الخميني" ورجال الدين مباشرة، والحقيقة أن هؤلاء لم يقودوا الثورة، لكنهم استغلوها لتحقيق أهدافهم، وقاموا بكل ما لديهم من قوة لخنق وسحق الطبقة العاملة والثوار الأصليين؛ ما ولّد جيلاً جديدًا معارضًا للثورة, والتاريخ يذكر أنه ما إن خمدت المعركة، حتى شرعوا بسحق الجماهير الكادحة.
أين تقف الثورة الإيرانية الآن؟
منذ الإطاحة بعرش "الشاه" 1979, ونجاح الثورة الإيرانية, يسود إيران وضعٌ من الفوضى السياسية والاقتصادية والأخلاقية، وعلى الرغم من إقامة نظام حكم جمهوري إسلامي بزعامة "الخميني"؛ لم تتمكن الزعامة الدينية من فرض الاستقرار الداخلي إلى الآن، إذ لا تزال الدولة ممزّقة بسبب النزاعات الداخلية والشخصية، وعوامل الفساد الأخرى.
إن الذي يدخل إلى المجتمع الإيراني بعد الثورة الإسلامية!!! سيرى لأول وهلة النساء يرتدين الحجاب الإسلامي، ولا يرى محلات لبيع الخمور أو الملاهي، ولكن عندما يتغلغل في المجتمع الإيراني يكتشف أنه إنما كان يبني أحكامه على أفكار سطحية عاجلة, إذ الظلم والفساد منتشر في كل قطاعات المجتمع الإيراني، فالمدمنون، والسرّاق، وتجّار المخدرات، والسوق السوداء، وتزوير الوثائق، وجوازات السفر منتشرون في كل مكان، أما أعمال الفواحش فهي منتشرة بشكل فظيع، وتحت غطاء الدين وبمباركة العمائم تحت لافتة (المتعة ديني ودين آبائي) أما الغش والخداع في المعاملات التجارية فحدث ولا حرج! وكذلك التسوّل أصبح ظاهرة من ظواهر المجتمع، وإذا أتيت إلى الدوائر والمؤسسات الرسمية فستجد العجب العجاب، من فساد إداري ورشاوى وسرقات في كل مفاصل الدولة، وكأن الثورة الإسلامية لم تقم! وكأن شيئًا لم يحدث.
وبعد مرور سنوات عديدة على قيام الثورة الخمينية، نلاحظ أن هذه الثورة قد قدمت الكثير من المفاجآت، إذ لم تحقق الثورة ما كان يصبو إليه الشعب الإيراني، فضلاً ما سببته الحرب الإيرانية مع العراق من مشكلات اقتصادية واجتماعية؛ أدت إلى ضياع جيل كامل بعد الثورة؛ ما تسبب في فتور الحماس الثوري الجماهيري بسرعة.
والسؤال هنا, أين تقف الثورة الإيرانية الآن؟ وهل هناك فارق لدى الشعب الإيراني في فترة ما قبل الثورة والفترة التي بعدها؟
وللجواب عن ذلك نقول:
إن أوجه الشبه بين الفترتين كبير وكبير جدًا، ولعل أهم أوجه التشابه بين الفترتين هو حالة الانفصام الموجودة بين الشعب والقيادة الإيرانية، وهذه هي نفس الحالة التي كانت إيران عليها في أواخر السبعينات، أي قبل الثورة, حيث يشعر الإيرانيون العاديون اليوم بحالة من التذمّر والسخط تجاه تورط كبار المسئولين في قضايا الفساد, كما أن ارتفاع أسعار النفط لم ينعكس آثاره الإيجابية على حياة المواطن الإيراني, وإنما اقتصر العائد على فئة محدودة من المسئولين في النظام الإيراني, ومن أوجه التشابه الأخرى أن "الشاه" ومرشد الثورة لم يستطيعا السيطرة على وسائل الاتصال الحديثة! ففي السبعينات أخفق "الشاه" في منع أشرطة "الخميني" الصوتية المعارضة في الفترة التي سبقت قيام الثورة.
الأمر نفسه ينطبق الآن على المرشد الأعلى للثورة، حيث يشن معركة خاسرة لاحتواء آثار وسائل الاتصال الحديثة، مثل الأقمار الصناعية، وشبكات الإنترنت، ومنعا أصوات المعارضين من التسلل إلى إيران.
كما يتشابه "الشاه" مع مرشد الثورة في أنهما قاما بقمع المناوئين والقوى المعارضة لهما، فعلى سبيل المثال (في22 تشرين الثاني 1977م قامت القوات التابعة للشاه بمهاجمة اجتماع لبعض كوادر المثقفين واعتقالهم وتصفيتهم)، وبعد عقدين من الثورة، صُدم المجتمع الإيراني عندما قام الحرس الثوري بشن هجمات على المثقفين والمنشقين أو المعارضين.
وعلى الرغم من وجود أوجه تشابه عدة مابين نظام "الشاه" ونظام الجمهورية الإسلامية؛ إلا أن النظام الإيراني قد تعلّم الكثير من أخطاء "الشاه"، ففي الماضي كانت تصريحات "جيمي كارتر" المنادية بحقوق الإنسان تشجّع المعارضة الإيرانية على الحركة, الأمر ذاته يحاول بوش استخدامه الآن، ونفس الوسائل التي استخدمها "كارتر" بغية دفع الإيرانيين (الساعين إلى المزيد من الديمقراطية) وحقوق الإنسان إلى معارضة النظام الإيراني.
وربما أهم التغييرات الحاصلة في تحوّلات سياسة الثورة الإيرانية الآن هو أنها تحاول استغلال خطابات واشنطن تجاهها وتصويرها على أنها تمثّل التهديد المباشر لطهران, الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى حشد وتكتل الإيرانيين حول علَم إيران القومي، لأن الشعب الإيراني الآن قد يكون بمثابة علبة كبريت قابلة للانفجار في أي وقت, ولكن الحكومة الإيرانية تعلمت السيطرة على النيران، فاعتقدت بأن ليس كل غضب يؤدي إلى الثورة، وهم مصممون على عدم تكرار أخطاء "الشاه".
وتُفضل الجمهورية الإيرانية أسلوبًا متدرجًا، يقوم أولاً على الاحتواء ثم التوقيفات، وهو الأسلوب الذي أثبت فعاليته في كثير من المواقف بدلاً من أسلوب المواجهة المباشرة، التي كانت متبعة في الماضي، وإيران اليوم تواجه معارضة حقيقية، وهي ممزقة من الداخل، ولعل أبرز من أطلق شرارة المعارضة الإيرانية هو حفيد "الخميني"(حسين مصطفى الخميني)، الذي يعتقد أنه يقيم في الجنوب العراقي، ويدعم حركة الأحوازيين المعارضة في تصريح لجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 4/8/2003العدد(9015)، (بأن نظام طهران من أسوأ ديكتاتوريات العالم)، ويقول: "إن إيران بحاجة إلى نظام ديمقراطي لا يستخدم الدين كوسيلة لقمع الناس وخنق المجتمع". وسنحاول ـ بإذن الله ـ أن نتوسع بهذا الميدان في الجزء الثاني من الموضوع في العدد القادم, ونركّز على الخطط المقترحة لتصدير الثورة إليها، وكيفية معالجة ذلك.
وما هي الأطماع الإيرانية في الأراضي العربية، والمكاسب المرجوّة من تصدير الثورة.
1-مجلة(EUROMONEY) كانون الأول
2-(2,3,4,5,6,7) من كتاب الثورة البائسة ص10 للدكتور موسى الموسوي