الفقيد : غسان المشعور التقي الخفي وشتات الأهل
قلائل من نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله ، فمن الناس ناس من شدة خوفهم من الله وتقواهم أصبحوا من الأخفياء الأتقياء الأنقياء ، الذين قدموا رضى الله عز وجل على كل شيء فلا تزال ذكراهم باقية في نفوسنا وحسن سيرتهم حاضرة في أذهاننا .
من أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه شاب يانع هادئ خجول متواضع محب للخير آمر بالمعروف ناهي عن المنكر لا يعرفه الكثير إلا من عاشره عن قرب ، ذلك الفقيد الفلسطيني غسان عماد صبحي المشعور الذي لم يتجاوز الاثنين وعشرين ربيعاً.
عرفته قبل عشر سنوات عندما بدأ يتردد بعض الأحيان على جامع القدس مع صديق له وأحد جيرانه الفلسطينيين اسمه بكر وقد وافاه الأجل في حادث سير في طريق بغداد – عمان السريع عام 2005 فرحمه الله رحمة واسعة .
بالرغم من معرفتي السابقة والقديمة بغسان وأهله للمصاهرة التي بيننا إلا أنني وجدت نفسي أمام فتى في مقتبل العمر له من المزايا والصفات الحسنة تختلف عما كنت أراه عند بيت عمه أو جده أو حتى في منزلهم بعض الأحيان ، وما ذلك إلا لأنه أصبح بتفكيره الجديدة كشاب مسلم ملتزم بدين الله خلوق عنده همة عالية بطلب العلم والتحري عن الحق وعن السنة والحلال لتطبيقه والحرام لاجتنابه .
كان يسكن في منطقة البلديات قرب المجمع بمسافة أقل من كيلومتر وكان يأتي للمسجد ويحب الجلوس معي وكان كثير السؤال عن كل صغيرة وكبيرة وعنده من الذكاء ما مكنه من استيعاب الأمور والكثير من القضايا بسرعة عجيبة ، وكان يطلب أشرطة القرآن ويحب سماعها وأشرطة دعوية وعلمية ووعظية وكثيراً ما كان يناقش ويتحرى الصواب ويدعو له ويتمسك به .
من أبرز صفاته الحياء والهدوء والحرص على الخير والتقوى والعمل الخفي وحسن السريرة ونقاء المعتقد والسلوك ، ولم يكن حريصاً على إظهار عمله أو التكلم به ، يكثر من قراءة القرآن في بيته وكان عنده همة عالية وسرعة كبيرة في سماع الخير والإكثار منه ، محبوباً لدى الجميع ، وكان كثيرا ما يأتيني رغم بعد المسافة حتى أنه جاء في أحد الأيام في وقت الظهيرة فطرق الباب وقال مع أن الوقت محرج لكن هل بالإمكان الجلوس معك والحديث ؟ قلت له بالطبع ، فجلسنا سويا أكثر من ساعة وبدأ بالسؤال والاستفسار عن كثير من القضايا الشرعية التي تدل على حرصه وخوفه من الله وزيادة في الاطمئنان ودرجة عالية من التقوى ، ولازالت في مخيلتي إلى الآن ابتسامته البريئة الجميلة عند نهاية جوابي على السؤال وبداية سؤال وموضوع جديد .
وعندما بلغنا خبر فقدانه بتاريخ 24/4/2006 وكأن صاعقة أصبنا بها ، حيث كان يدرس في الجامعة التكنولوجية وكان متفوقاً ولعله قد أكرمه الله بالشهادة فقد كان يطلبها ، وقد حصل في ذلك اليوم عدة انفجارات في بغداد وضواحيها .
فقد عاش رحمه الله وتقبله في عداد الشهداء تقياً خفياً نقياً لا يعرفه الكثير ولا يعرفون تفاصيل حياته ، فقد كان حريصاً على إخفاء ما يعمل ويقوم به من طاعات ، وهذا من علامات الأخفياء ، وكان ورعاً مطيعاً لله عز وجل ومحبا وراغبا لطاعة والديه ، حتى أن أمه كانت متعلقة به بشكل كبير جدا لما اتصف به من صفات الخير والاستقامة وهذا من علامات الأتقياء ، وقلة خلطته وانشغاله بنفسه وإصلاحها وحرصه على الخير من صفات الأنقياء .
وعائلته كسائر العوائل الفلسطينية ليسوا بمعزل عما تعرضوا له من العناء والمشقة ، حيث تعرضوا لأكثر من تهديد وقد ذاقوا ذلك قبل الاحتلال برحيل شقيقه الأكبر إلى بريطانيا ، ثم بعد فراقه أهله ومصرعه غادر بقية أفراد عائلته العراق فوالده وشقيقته في قبرص وشقيقه الأصغر في السويد ووالدته في الأردن عند أهلها .
نماذج مؤلمة وحلقات متراكمة لم تنته فصولها والقادم المجهول ينتظر الكثير منا ، وفراق الأحبة تزداد لوعته وآلامه يوما بعد يوم فبعضهم قتل غدراً وآخر صرع عرضاً وثالث فقد في خضم المعترك الطائفي الدائر في العراق ، ومنهم من غادر إلى الصحراء وغيرهم إلى دول أوربا وأمريكا اللاتينية ، فأصبح الفراق بشتى أنواعه وأصنافه عنوان لنا والشتات علامة ميزتنا عن غيرنا في السنوات الماضية .
فرحم الله فقيدنا وشهيدنا بإذن الله غسان المشعور وأسكنه فسيح جناته وأثابه على ما قدم وعمل أجراً عظيماً ، وجمعنا به في دار رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، وصبر أهله وذويه ومحبيه على فراقه .
10/11/2008
أيمن الشعبان