مصر لن تتشيع وليست هذه هي المشكلة
ربيع الحافظ
معهد المشرق العربي
مفكرة الإسلام: اجتمع مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر وقرر تقديم بلاغ للنائب العام لاتخاذ الإجراءات القانونية لردع المتطاولين على الإسلام ورموزه؛ إثر إدراج صحيفة الغد اسم أم المؤمنين السيدة عائشة [رضي الله عنها] في قائمة أسوء عشر شخصيات في تاريخ الإسلام، وذلك أمر طيب. وشكّل المجمع لجنة لتكوين رأي شرعي وقانوني لعرضها على شيخ الأزهر لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق الصحيفة، وهو أمر طيب كذلك.
على افتراض إدامة هذا الزخم والحزم في التعامل مع الأزمة؛ يبدو أن مجمع البحوث أو قاعة المحكمة سيكونان المحطة الأخيرة في الأزمة.
الجهة الخارجية التي أوعزت أو شجعت أو مولت الإساءة في بلد ليس فيه شيعة، وتحسن استخدام الإعلام، واختيار الجرعة الاستفزازية العالية في إحداث الصدمة الأولى، والتي ما يليها سيكون أقل استفزازًا وأقل رفضًا في النفوس، هذه الجهة لا يمكن أن تكون وزارة أوقاف أو مؤسسة دينية عادية، وإنما دائرة متخصصة بالتوجيه الآيديولوجي الخارجي.
التعامل مع هذه الأزمة ينبغي أن يكون بتخصصات متكافئة، يتعدى الفتوى الشرعية والقضائية وتوبيخ الفاعل وتعطيل الصحيفة.
قطع الطريق أمام هذه الإساءات لا يحسم في قاعة المحكمة؛ لأن المسيء سيعود إلى الإساءة من جديد بعد انقضاء فترة الحكم، ما لم تحاصر هذه الإساءات في محاجر الأقليات الفكرية الشاذة، مكانها الطبيعي والدائم، وينبذ المجتمع حملتها.
هذه الإساءة ليست فقهية المنبت. نعم، الشعب المصري والعالم الإسلامي ينتظران، أكثر من أي وقت مضى، فتوى قاطعة من مؤسسة إسلامية مرموقة بحق كل من يعتقد أو يروّج لهذه الإساءات، بل وتعزير يسن ويلحق بقانون العقوبات الرسمي للدولة.
هذه الإساءة شعوبية المنبت، تدل عليها سهامها التي تطلقها نحو رموز الإسلام والعروبة كل مرة، وفي كل مكان، وتهز بها ثقة المجتمعات بساداتها ورموزها التاريخية.
هل من التجاوز وقد وصلت الأمور إلى هذا الحد أن نقول: إن جرح فارس عصيّ على الاندمال، حقدًا على الإسلام الذي حمله العرب المسلمون إلى آفاق الدنيا وهدموا به أمجاد كسرى وهرقل، تنبجس دمامله قيحاً وسموماً بين الفينة والأخرى؟
الصحابة رضوان الله عليهم كلهم مرتدون في عقائد الشيعة، وقد تعودنا أن يصيب صدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحظ الأوفر من السهام، أو صدر صاحبه الذي جلبه إلى أروقة السياسة، كما يقول القوم، أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فلماذا أم المؤمنين رضي الله عنها؟
لا شك أن هذا سؤال ساذج.
إذا كانت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها هي من بين عشرة من الصحابة الذين رووا أكثر من 60% من الحديث الشريف، فكم أبقت هذه السبة من مصادر التشريع؟ وما حال المذهب الذي تنهض أحكامه على مصادر مطعون في عدالتها، بل أشرار، تعالت أم المؤمنين عن ذلك علواً كبيرًا؟
مع ذلك فإن هذه الإساءة تبقى جزئية إذا ما قرئت خارج إطار الصورة الكبيرة التي نقشتها السهام الأخرى. صورة الانحراف السياسي ـ كما يزعمون ـ الذي ابتدأه الخليفة الأول أبو بكر الصديق [رضي الله عنه] مروراً بعمر وعثمان، وانتهاءً بابنة الصديق رضوان الله عليها، وما مذهب أهل السنة إلا تجسيد لذلك الانحراف السياسي.
'الانحراف السياسي' هذا صار حقيقة مسلماً بها في اللاشعور عند كثير من المسلمين، ومداراً للتحليلات السياسية كلما تعرضت المنطقة إلى هزة سياسية، وخروجاً منه صار يردد قطاع من العوام، ومعهم العلمانيون، بحسن أو سوء نية، مقولة أنا 'سني فقهياً، شيعي سياسياً'، أو 'سني، لكن إمامي نصر الله'، أو 'سني، لكن قدوتي إيران'، وأن إيران التي قدّمت الدعم لحزب الله لديها القدرة وعندها الحل.
هذه الأزمة أمنية قبل أن تكون فقهية. المصريون غير قابلين للتشيع، وبالتعبير المصري العامي 'كان غيرهم أشطر'، فالدولة العبيدية الإسماعيلية [المسماة الفاطمية] تمكنت سياسياً من مصر زهاء قرنين، تمكّنت من أرضها لكنها لم تتمكن من عقولها، وما أن أسقط الناصر صلاح الدين الأيوبي النظام السياسي للدولة العبيدية حتى علت أصوات المصريين بالتكبير والتهليل، كما يقول المؤرخون؛ ابتهاجاً بعودة مصر إلى الحظيرة السياسية لأهل السنة.
قرنان من الزمان دليل كافٍ على أن التشيع لا يمكن أن ينتشر في بيئة ثقافية متعافية، ولا يستمر من دون حراسة أمنية، هو، بعبارة أخرى، 'باروميتير' للحالة الثقافية التي عليها الأمة، ارتفاعاً وهبوطاً بعلاقة عكسية.
التمدد الإيراني في العمق العربي مستمر، وهو يمتد من خراسان شرقاً إلى شواطئ المتوسط غرباً دونما انقطاع، بعد سقوط العراق. ما تريده إيران ليس بالضرورة التشيع الآني، والشروع الفوري بلعن الصحابة من فوق المنابر، واللطم، والضرب بالسلاسل.
ما تريده إيران هو مواطئ أقدام اجتماعية، تتسلل منها إلى قلب المجتمع، وربط مصالح الفرد العربي المنهك بالمصالح الإيرانية.
المراقب لتحركات إيران على الساحة العربية، يلحظ أن القبور والأضرحة هي محطتها الأولى، إن وجدت، وإن لم توجد أوجدتها هي وأنفقت عليها الملايين؛ ليتدفق بعدها الحجاج الإيرانيون على القبور، يتملكون في محيطها البيوت والعقارات، ويتزوجون العربيات وينجبون، يبيعون ويشترون.
مواسم ’’الحج‘‘ هذه وما توجده من حراك اقتصادي في أسواق كاسدة وبطالة عالية، تشكل رئة اقتصادية للناس المحليين الذين يحضرونها ليشهدوا منافع لهم، ينتظرون وقت حلولها، ويقولبون أنماط عيشهم على أساسها، وتنتعش الصناعات المحلية التي لها علاقة بطقوس الإيرانيين من صور وتماثيل، وتتداخل الطقوس مع أسباب الرزق ولقمة العيش، وإن لم يعتنقها التاجر، ولا يلبث أن يتحول القبر إلى مركز تجاري واجتماعي وطبي وتعليمي ضخم، ومصدر للخدمات التي تعجز الدولة عن توفيرها لمواطنيها [ كما في مجمع السيدة زينب في دمشق].
المكاسب التي تبدأ فردية تتحول إلى مصالح عامة، ثم تصبح أمراً واقعاً تغض الدولة الطرف عنه، ثم يتطور الأمر الواقع ليصبح حلولاً وطنية لمشاكل اجتماعية متفاقمة ومزمنة [كالعنوسة]، وأخرى اقتصادية تحت عنوان السياحة الدينية وجلب العملة الصعبة، وأخيراً يصبح الإبقاء على الورم الصفوي المتضخم في الجسد العربي مطلباً شعبياً؛ لأن آلام البقاء أهون من عملية الاستئصال.
في أجواء السياحة الدينية هذه تنشأ جمعيات الصداقة مع الشعب الإيراني، والزيارات إلى الجامعات والمعاهد الإيرانية المدفوعة التكاليف، والمنح الدراسية السخية، والسفرات الشبابية إلى المنتجعات الإيرانية.. إلخ.
لا نريد الغوص كثيراً في السيناريوهات الواقعية لنقول: الشباب المتأثر بإيران أو العائد منها، والسائر وفق بوصلتها، والحائز على المؤهلات الثقافية، سينخرط في العملية الديمقراطية المحلية، ويحصد أصوات 'محبي آل البيت' من المتصوفة والبسطاء، ويدخل البرلمان، ويكون المدلل الذي له القدح المعلى عند الأحزاب الكبيرة، لسببين: الأول؛ عدده المنخفض الذي لا يشكل خطورة مباشرة على حظوظ الأحزاب، والثاني؛ وهو الأهم، وصولهم السهل إلى ميزانية التدخلات الخارجية الإيرانية الجاهزة للمضاربة في أي شأن سياسي داخلي عربي.
يذكر في هذا السياق أن أحزاباً فرنسية كانت تتردد على السفارة العراقية في باريس زمن الانتخابات الفرنسية في زمن صدام حسين، وتحصل على تمويل سخي لحملاتها الانتخابية مقابل تبني مطالب الحكومة العراقية في البرلمان الفرنسي.
الاهتمام بهذا الطيف سيمتد إلى خارج البلاد، وسيكون ورقة 'تنغيص' بيد القوى الخارجية كلما أرادت شيئاً من النظام الحاكم، ولا ننسى هنا قضية مدير معهد ابن خلدون ومشروعه الطارئ على ثقافة الشعب المصري، الذي اعتقل مداناً بتلقي أموال من جهات خارجية، لكن أطلق سراحه بضغوط أمريكية وأوربية.
النتيجة هي لوبي الأقلية الذي يدير شؤون الأكثرية. من يستعظم الأمر، فليعد إلى نشأة لوبي الأقلية اليهودية في بلاد الـ 270 مليوناً، أمريكا، الذي شق طريقه إلى القمة رغم رسالة الرئيس براهام لينكولن الشهيرة التي حذر فيها الشعب الأمريكي من تآمر اليهود على بلادهم، وهي رسالة لا يقابلها شيء في مصر أو البلاد العربية في التحذير من التآمر الصفوي، بل يقابلها تهوين من قِبل الإسلاميين والقوميين واللبراليين على حد سواء.
لا ننسى في هذا السياق لبنان الذي يتردد في أروقة برلمانه صدى الصوت الإيراني ومطالبه على ألسنة أحزاب وحركات لم يكن لها وجود يذكر في البلاد قبل ثلاثة عقود فقط، لكنها اليوم تدير المشهد السياسي.
بهذا يكون النظام السياسي الصفوي الإقليمي قد نافس ـ وبجدارة ـ النظام السياسي العربي المحلي على قوامته على شعبه، وهو يرى لنفسه عند الشعب استحقاقاً روحياً يعطى إليه ولا ينتزع انتزاعاً، وهو تغيّر نوعي في استراتيجية الانتشار الصفوي في الوسط السني المطلق، مقابل استراتيجية حمامات الدم التاريخية في وسط الحضور الشيعي الكثيف.
هذا الاستحقاق الروحي هو في حقيقته سحب للبساط وتحييد للمؤسسة الدينية السنية الرسمية المؤممة، والحاملة لأوزار النظام، والعاجزة أصلاً.
نلاحظ هنا: أن المواطن العربي لا زال إلى هذا الحد عربياً لم 'يتفرس'، وسنياً لم يتشيع، لكنه خارج مدار الجذب المحلي، مذهبياً ووطنياً، يعيش في وطنه لكن القوامة المعاشية والتعليمية والروحية في إيران.
حصل هذا في سوريا التي قطعت معها إيران أشواطاً مهمة، وتمسك اليوم بمفاصلها الأمنية والثقافية والعسكرية، وأهل السنة هناك يئنون من وطأة حملات التشييع ونشر اللغة الفارسية، والكتب والمنشورات التي تطعن في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه التي توزع مجاناً على بعد أمتار من مسجد بني أمية، ومن الفاحشة المسماة زواج المتعة، ومن انتشار المخدرات التي يجلبها الإيرانيون. مع ذلك فإن إغلاق المجمع التجاري والخدمي والتعليمي لقبر السيدة زينب يعتبر كارثة اجتماعية للكثير!
لإيران مخططات مشابة في الأردن، حيث قبر جعفر الطيار، وفي فلسطين، ولا يكون قد تبقى من المشرق العربي خارج النفوذ الصفوي المباشر سوى قلب الجزيرة العربية.
وأهم من يستهين بقدرة الطاعون الصفوي على الانتشار في البلاد العربية بدعوى أن أهل السنة هم سوادها الأعظم، كمصر والمغرب العربي، فالانتشار الصفوي ليس بحاجة إلى أكثرية أو أقلية شيعية، مثلما أن النفوذ الاقتصادي والسياسي الصهيوني ليس بحاجة إلى حضور يهودي لكي يفرش جناحيه من المحيط إلى الخليج، أما شعار 'من الفرات إلى النيل حدودك يا إسرائيل' فله تفسيرات متعددة، ليس بالضرورة أن يكون الحضور العسكري والإمساك بالجغرافيا أحدها.
معالم انهيار الدولة في العراق وتلاشي مفهوم المواطنة، والدوران في أفلاك خارجية على حساب الدين والوطن تلقي بظلالها الكثيفة على الجوار العربي، التي لا تبدو أكثر أهبة وأوضح رؤية أمام الحمّى الطائفية من العراق المحتل.
إنها حمى صفراء، أعراضها الأولية تتعدد لكن النهاية واحدة، هذه الأعراض تظهر هنا وهناك، تارة على شكل علم إيراني أو عبارات 'إيران موطني' ينقشه تلامذة المدارس على أغلفة الدفاتر في مناطق التداخل المذهبي في السعودية، وتارة أخرى بالطقوس الصفوية التي باتت تؤدى في قلب الحرم المكي وعلى صعيد عرفات والبقيع، وثالثة بمؤسسات خليجية ملأها مدراؤها الطائفيون ببني جلدتهم أو بالإيرانيين لا على أساس الكفاءة المهنية وإنما على حساب نظرائهم العرب، ورابعة من خلال السفارات العراقية الجديدة التي تشعل الفتن الطائفية في محيط عملها كما في اليمن، وخامسة بالآراء المسيئة للإسلام وشخوصه التي تنشر في عقر ديار أهل السنة وفي مصر الكنانة، وسادسة بملايين الدولارت التي تدفعها إيران إلى العوائل المعدمة في عرين بني أمية [سوريا] لنشر التشيع في أوساطهم، وسابعة وثامنة وعاشرة..
لقد عرف النظام السياسي للحضارة العربية الإسلامية سقوط مؤسسته الثقافية والفكرية إبان المد البويهي الشعوبي في العهد العباسي الوسيط، لكنه استرد عافيته الثقافية بثورته الثقافية الأولى المسماة 'المدارس النظامية' التي أنشأها السلاجقة وأعادوا بها تصحيح المفاهيم.
وعرف النظام السياسي السقوط العسكري المطلق لرقعة نفوذه إبان الاحتلال المغولي، لكن الحضارة المنكسرة عسكرياً أذابت الغزاة واستوعبتهم في بوتقتها الدينية.
أما أن يتزامن نوعا السقوط، وتلتقي مصالح المشروع الطائفي الشعوبي بمصالح المشروع [الصهيو ـ مسيحي ـ رأسمالي] في حلف استراتيجي، فهو ما أظهرت سني احتلال العراق واضطراب الجوار العربي عدم جاهزية أهل السنة للتعامل معه.
إذا كان عصرنا هذا هو غير عصر السلاجقة المخلّصين، فإن شعوب المنطقة أمام مسؤولية صيغة خلاص ذاتية مشتركة بديلة، لا زالت مفقودة. هذه الصيغة مهما سيكون شكلها، لا بد أن يصاحبها مشروع يقظة ثقافية على نطاق المنطقة، يحيي الحس بالهوية المهددة، ويحل اسمه محل الاسم الأرشيفي 'المدارس النظامية' بعد عشرة قرون على تأسيسها، والتي لم تتكرر تجربتها الرائعة في انتشال الأمة رغم تكرار الظروف.