القصة الكاملة للعرض الإيراني السري 2/3
بقلم: علي حسين باكير
العرض الإيراني السري: نعترف بإسرائيل ونتنازل عن النووي ونوقف دعم حزب الله، مقابل منحنا الوصاية على الخليج، والاعتراف بنا: قوة إقليمية شرعية.
تم إرسال العرض الإيراني أو الوثيقة السرية إلى واشنطن، في الوقت الذي كان يجتمع فيه كل من مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة، جواد ظريف، مع خليل زاد في جنيف ـ سويسرا في 2 مايو 2003م، وقد وصلت نسخة من الاقتراح-الوثيقة إلى وزارة الخارجية الأميركية عبر الفاكس, ونسخة أخرى تم تسليمها لوسيط أميركي شخصيا.
عرضت إيران أيضا في هذا الاجتماع الثنائي الخاص، قيامها بعمل حاسم وسريع ضد أي مجموعات إرهابية توجد على أراضيها، وخاصة فيما يتعلق بالقاعدة. ومقابل ذلك طالبت إيران الولايات المتحدة بعمل حاسم ضد المجموعات الإرهابية الإيرانية، سيما منظمة مجاهدي خلق (منظمة مجاهدي خلق المعارضة للنظام الإيراني الحالي، وكانت الولايات المتحدة أدرجتها على قائمة المنظمات الإرهابية خلال فترة كلينتون، وذلك في محاولة لتحسين العلاقات الثنائية آنذاك, ومازالت على القائمة)، التي قاتلت إلى جانب الجيش العراقي في الحرب مع إيران, وأن تقوم الولايات المتحدة باتخاذ الإجراءات المناسبة السريعة فيما يتعلق بأعضاء المنظمة الموجودين على أراضيها.
وفي هذا الاجتماع الخاص, اقترح جواد ظريف تبادل المعلومات بين الطرفين حول تنظيم القاعدة ومنظمة مجاهدي خلق في اتفاق منفصل. ووفقا لـ فلاينت ليفيريت, فإن ظريف عرض على خليل زاد، تسليم الولايات المتحدة قائمة بأسماء قياديي القاعدة المحتجزين في إيران, مقابل الحصول على لائحة بأسماء أعضاء منظمة مجاهدي خلق، الذين أسرتهم أميركا في العراق.
أما بالنسبة إلى العرض الإيراني السري, فقد كانت الدائرة المطلعة عليه، سواء من الجانب الإيراني أو من الأميركي، ضيقة جدا, والسبب في ذلك، حسبما أشار أحد المسؤولين الإيرانيين، حتى لا تتحول الصفقة إلى فضحية إيران-غيت ثانية.
يقول غارثر بورتر، وهو مؤرخ وصحافي متخصص في الكتابة عن السياسة الأميركية تجاه إيران, ويبدي تعاطفا شديدا تجاهها، وانتقادا لاذعا للإدارة الأميركية لعدم التعاون معها وتنمية العلاقات المشتركة للبلدين, وهو أحد القلائل الذين اطلعوا شخصيا على الوثيقة، إلى جانب المتخصص في السياسة الخارجية الإيرانية في جامعة جون هوبكنز للعلاقات الدولية المتقدمة، تريتا بارسي: "تعترض الوثيقة المؤلفة من صفحتين على الخط السياسي الرسمي لإدارة جورج بوش، باتهام إيران بالسعي إلى تدمير إسرائيل، ودعم الإرهاب في المنطقة..
لقد عرض الاقتراح الإيراني السري مجموعة مثيرة من التنازلات السياسية، التي ستقدم عليها إيران إذا تمت الموافقة على الصفقة الكبرى، وهو يتناول عددا من المواضيع منها: برنامجها النووي, سياستها تجاه إسرائيل, ومحاربة القاعدة.
كما عرضت الوثيقة إنشاء ثلاث مجموعات عمل مشتركة أميركية-إيرانية بالتوازي، للتفاوض على خارطة طريق بخصوص ثلاثة مواضيع: أسلحة الدمار الشامل, الإرهاب، الأمن الإقليمي, والتعاون الاقتصادي".
وفقا لـ"بارسي", فإن الورقة مجرد ملخص لعرض تفاوضي إيراني أكثر تفصيلا، كان قد علم به في العام 2003م عبر وسيط سويسري، نقله إلى وزارة الخارجية الأميركية، بعد تلقيه من السفارة السويسرية أواخر ابريل وأوائل مايو من العام 2003م.
وتضمنت الوثيقة السرية الإيرانية لعام 2003م، والتي مرت بمراحل عديدة منذ 11 سبتمبر 2001م، ما يلي:
1- عرض إيران استخدام نفوذها في العراق لـ (تحقيق الأمن والاستقرار, إنشاء مؤسسات ديمقراطية, وحكومة غير دينية).
2- عرض إيران شفافية كاملة لتوفير الأمان، والتأكيد بأنها لا تطور أسلحة دمار شامل, والالتزام بما تطلبه الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل كامل ودون قيود.
3- عرض إيران إيقاف دعمها للمجموعات الفلسطينية المعارضة، والضغط عليها لإيقاف عملياتها العنيفة ضد المدنيين الإسرائيليين داخل حدود إسرائيل العام 1967م.
4- التزام إيران بتحويل حزب الله اللبناني إلى حزب سياسي منخرط بشكل كامل في الإطار اللبناني.
5- قبول إيران بإعلان المبادرة العربية التي طرحت في قمة بيروت عام 2002م، أو ما يسمى طرح الدولتين، وتنص على إقامة دولتين والقبول بعلاقات طبيعية وسلام مع إسرائيل، مقابل انسحاب إسرائيل إلى ما بعد حدود 1967م.
واشترطت إيران مقابل تقديمها هذه التنازلات عددا من الشروط التي وردت في هذه الوثيقة السرية المقدمة العام 2003م إلى الإدارة الأميركية، منها:
1- إنهاء السلوك العدائي للولايات المتحدة تجاه إيران، بما فيه إلغاء تصنيفها ضمن محور الشر، وتسميتها دولة داعمة للإرهاب.
2- رفع العقوبات الاقتصادية والتجارية كليا عن إيران, والإفراج عن الأموال المجمدة لها في الولايات المتحدة، وإسقاط كافة الأحكام القضائية الصادرة بحقها، والمساعدة في تسهيل انخراطها في المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية.
3- اتخاذ موقف حازم ونهائي ضد من أسمتهم إرهابيي حركة مجاهدي خلق، المعاديين لإيران، خاصة الموجودين على الأراضي الأميركية, واحترام مصالح إيران القومية والشرعية في العراق وعلاقاتها الدينية في النجف وكربلاء.
4- السماح لإيران بالوصول إلى الطاقة النووية السلمية ومصادر التكنولوجيا البيولوجية والكيماوية.
5- والأهم من كل هذه المطالب, مطلب إيران، بالحصول على إقرار واعتراف أميركي بـ(شرعية مصالحها الأمنية في المنطقة كقوة إقليمية شريعة)، والتي تعني وفق نفس المصدر الذي اطلع على الرسالة السرية، منحها الوصاية أو اليد العليا في الخليج، والاشتراك في الترتيبات الأمنية المستقبلية للمنطقة, بالإضافة إلى الحصول على ضمانات بعدم التعرض لعمل عسكري.
المفاجأة الكبرى في هذا العرض، تمثلت في استعداد إيران اعترافها بإسرائيل كدولة شرعية!!
وقد سبب ذلك إحراجا كبيرا لجماعة المحافظين الجدد والصقور، الذين كانوا يناورون ويراهنون على مسألة تدمير إيران لإسرائيل و"محوها عن الخريطة".
بالنسبة لعدد من الأكاديميين الأميركيين المختصين في الشؤون الإيرانية، وحتى العديد من الأوساط الإسرائيلية البحثية، فإن ذلك لم يكن مفاجئا، إذ إنهم يعرفون أن التهديدات الإيرانية لإسرائيل ومسألة العداء، أمر مصطنع وموجه للعوام من الناس، بغرض كسب التعاطف والدعم, وليس أدل على ذلك من الرسائل التي تشير دائما إلى وجود علاقات سرية وتعاون بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل.
فعلى سبيل المثال, يقول افرايم كام، وهو أحد أشهر الخبراء في مجال الاستخبارات، والباحث في مركز جافي للدراسات الإستراتيجية في جامعة تل أبيب", في دراسة له أعدها بتكليف من وزارة الدفاع الإسرائيلية: إن إيران من الناحية العملية، لا تعتبر إسرائيل العدو الأول لها، ولا حتى الأكثر أهمية من بين أعدائها...وعلى الرغم من الخطاب السياسي الإيراني المناكف لإسرائيل إعلاميا, إلا أن الاعتبارات التي تحكم الإستراتيجية الإيرانية، ترتبط بمصالحها ووضعها في الخليج، وليس بعدائها لإسرائيل, وهي تبدي حساسية كبيرة لما يجري في دول الجوار".
ومثله، نقل معهد Omedia البحثي الإسرائيلي، في تقرير مهم له بعنوان "إيران بحاجة إلى إسرائيل"، للباحث زيو مائور، ما يلي: أن إيران لا تشكل أي خطر على إسرائيل ولا تريد تدميرها, بل هي في حاجة لإسرائيل وتعتبرها مكسبًا إستراتيجيا مهما حتى تظل قوة عظمى في المنطقة... وهي تستغل وتستخدم إسرائيل كذريعة لتحقيق أهدافها، ولدعم مكانتها الإقليمية ولنشر مبادئ الثورة الإيرانية تحت شعار معاداة إسرائيل.. وأما التصريحات الدعائية الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأميركية، فهي من باب الاستهلاك الإعلامي فقط".
مثل هذه الخلاصات عن حقيقة العلاقة بين إيران وإسرائيل ليست يتيمة, وهناك شواهد كبيرة جدا تؤكد وتدعم هذا التوجه لدى عديد من الأطراف، بما في ذلك الإيرانية والإسرائيلية والأميركية.
تم إهمال العرض الإيراني التاريخي الكبير من قبل صقور الولايات المتحدة في البيت الأبيض. لكن إذا كانت إيران عرضت الاعتراف بإسرائيل، وقدمت كل هذه التنازلات, فما الذي حال دون موافقة الأميركيين على عقد مثل هذه الصفقة?
تشير بعض المصادر إلى أن سبب الإهمال أو الرفض الأميركي، هو أن العرض لم يكن رسميا، ولم يكن باستطاعة الجهات الأميركية التمييز بين ما قامت إيران بطرحه وبين ما أضافه السفير السويسري الوسيط، "تيم غولدمان", معتبرة أنه كان مجرد بالون اختبار لابتزاز الولايات المتحدة مقابل الحصول على مكتسبات كبيرة جدا.
هذا فيما يعتقد البعض الآخر، أن السبب هو المناورة الإيرانية، وأن الأميركيين كانوا سيناقشون الطرح فيما لو تم بطريقة مباشرة ورسمية، وليس عبر وسطاء وتسريبات, فيما ترى مصادر أخرى أن السبب الحقيقي لإهمال العرض، يكمن في عنصرين أساسيين:
الأول: هو أن إيران منحت نفسها قدرا أكبر من الوزن والقوة والمكانة الإقليمية والدولية، عندما ساوت نفسها بالولايات المتحدة، وهو الأمر الذي ما كان يتم قبوله بالنسبة للاتحاد السوفيتي، فكيف بإيران!! وهو الأمر الذي لم يعجب صقور الإدارة، الذين كانوا يرون أن الولايات المتحدة قادمة لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط، بدءا من أفغانستان وليس انتهاء بالعراق، وقد يكون الدور على النظام الإيراني تاليا, خاصة وأن أميركا كانت في موقع قوي عسكريا وسياسيا، إذ لم تكن المقاومة العراقية قد بدأت أعمالها بعد.
الثاني: وهو العامل الأهم, أن المشكلة تكمن في المطلب الإيراني، بإعطائها الوصاية على الخليج، والاعتراف بها قوة شرعية. إذ إن الاستجابة لمثل هذا الطلب، يعني تحويل إيران إلى قوة عالمية تسيطر على نفط العالم عبر الخليج، وتتحكم بالممرات وعوامل القوة، وتبتز الآخرين متى تشاء, وهذا أمر مرفوض بتاتا في السياسة الأميركية، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت قد حسمت أمرها في إخضاعه لإشرافها مباشرة، سيما بعد تجربة الشاه وصدام، التي كادت أن تحول هذين النظامين إلى قوة عالمية تتحكم بالدول العظمى.
أما بالنسبة إلى الاقتراح الثاني، الأقل أهمية، الذي ورد في اجتماع جواد ظريف مع خليل زاد في جنيف ـ سويسرا, فقد تمت مناقشته في الإدارة الأميركية، وعلى الرغم من أنه لم يقر بشكله المطروح, إلا أن الولايات المتحدة قامت باتخاذ خطوات محددة في ذلك الوقت تجاه جماعة مجاهدي خلق في العراق، مقابل الحصول على معلومات محددة من قبل الإيرانيين عما هو متوفر لديها من تحركات للقاعدة. وقد أجاز البيت الأبيض عبر الرئيس بوش لوزارة الخارجية، متابعة الاتصالات مع الإيرانيين في جنيف.
في هذه الأثناء, كان جناح تشيني, رامسفيلد, وفايث، غير مرتاح للنوايا الإيرانية, وحصلت حينها تفجيرت في الرياض، أدت إلى مقتل (8) أميركيين وعدد كبير من السعوديين, وقد اتهمت المخابرات الأميركية حينها إيران بإيوائها المخططين لهذه التفجيرات, في حين أن إيران كانت قد أعلنت أنه لو كان هناك فعلا عدد من التابعين للقاعدة على أراضيها, فإن هذا لا يعني أنها تؤويهم, إذ لا يمكن مراقبة الحدود الشاسعة أو السيطرة عليها كليا.
وبغض النظر، سواء أكان هذا صحيحا أم لا, فقد استغل الجناح الأميركي المتشدد هذه الحوادث، وأقنع بوش بأن إيران تساعد القاعدة على استهداف الأميركيين, فقام بوش بإلغاء اجتماع كان من المقرر للأميركيين أن يجتمعوا خلاله بوفد إيراني في 21 مايو 2003م، وبذلك جمدت قناة الاتصال الدبلوماسية الوحيدة مع الإيرانيين.
* جناح الحمائم الأميركي يصطدم بصقور المحافظين الجدد.. منعا لتغيير النظام الإيراني:
حاول فريق وزير الخارجية الأميركية كولن باول، التحرك لإبقاء قناة الاتصال مع الإيرانيين مفتوحة, فقرر متابعة موضوع وملف مجاهدي خلق، والالتزام بما تم طرحه في الاقتراح الثاني خلال اجتماع كل من مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة جواد ظريف مع خليل زاد في جنيف ـ سويسرا في 2 مايو 23م، وقام كولن باول بتوجيه رسالة إلى رامسفيلد، الذي سمح لمجموعات مجاهدي خلق بالتنقل من وإلى المخيم بحرية، يذكره فيها بأن مجموعات مجاهدي خلق الموجودون في العراق، هم اسري لدى القوات الأميركية وليس حلفاء, وأنه لا يجوز السماح لهم بالتنقل بحرية من وإلى المخيم الذي يقيمون فيه.
ونتيجة للتجاذب الأميركي الداخلي, وافقت الإدارة الأميركية على إعادة فتح أبواب الحوار مع إيران، شرط أن تقوم ابتداء بتسليم الولايات المتحدة قيادات القاعدة الموجدين لديها، أو إعطاء معلومات مهمة عنهم.
فنقل ريتشارد أرميتاج، الذي أعرب المسؤولون الإيرانيون عبر قنوات خلفية عديدة، عن تمنياتهم بأن يرأس أي وفد للحوار أو الاتصال مع طهران، لكونه مهتما جدا بالانفتاح على إيران، وعاش فيها عدة السنوات، ولديه خلفية جيدة عنها، هذه الرسالة في شهادة له أمام الكونغرس الأميركي في أكتوبر 2003م، قائلا: الولايات المتحدة ستكون مستعدة لإجراء حوار واسع النطاق مع إيران، لكن بعد أن تقوم الأخيرة بتسليم قادة القاعدة الموجودين لديها، أو إشراكنا في معلومات مهمة عن جميع قادتها المهمين".
أصر صقور الإدارة الأميركية على تطبيق ما اصطلح على تسميه "قواعد هادلي" في الانفتاح على إيران، إذا كانت راغبة في فتح قناة اتصال, هذه القواعد كانت تفرض على إيران تنفيذ ما يطلب منها أولا، ومن ثم الحديث عن المواضيع التي سيتم النقاش حولها.
وبحلول الفصل الأخير من سنة 2003م، رأت إيران في برنامجها النووي فرصة لفتح نقاش وحوار مع الدول الأوروبية، وبالتالي توسيع أي إطار إقليمي ودولي، لمواجهة أي جهد أميركي يسعى لعزلها، بعدما شعرت الأخيرة أن المحافظين الجدد جادين في مسألة تغيير النظام الإيراني، أو على الأقل زيادة الضغط عليه في المرحلة المقبلة.
في ذلك الوقت، تسربت العديد من السيناريوهات الأميركية لإسقاط النظام في إيران عبر هجوم عسكري كبير, فيما طرحت بعض الأوساط اعتماد أساليب أخرى غير عسكرية لإخضاع النظام الإيراني.
فقد اقترحت مؤسسة "اميركان إنتربرايز"، أن يتم العمل على تطوير سياسة الحصار الاقتصادي ـ العسكري على إيران، ليصبح حصارا إيديولوجياً أيضا, من خلال مواصلة مشروع إدارة بوش في نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط, على أن يتم العمل على تحقيق هدفين:
ـ منع إيران من الحصول على دعم قوى كبرى. وبرغم أن قطع علاقات إيران بالصين سيكون صعباً, إلا أن الأمر ليس كذلك مع الهند، التي يمكن إغراؤها بقطع علاقتها مع طهران، مقابل إقامة تحالف إستراتيجي بينها وبين أميركا. (وهذا بالتحديد مع فعله بوش خلال زيارته الأخيرة للهند).
ـ أما الهدف الثاني، فهو أن تحتفظ الولايات المتحدة بالمبادرة في مشروعها الجديد للإصلاح والتغيير في الشرق الأوسط الكبير.
فالعزل الحقيقي للنظام الإيراني لن يتحقق إلا حين يغرق هذا الأخير في بحر أكبر من الحكومات الليبرالية القابلة للمساءلة في المنطقة. وإذا ما استقرت الديمقراطية في أفغانستان والعراق, برغم استمرار أعمال العنف فيهما, فستتعرض إيران إلى مخاطر مضاعفة في الداخل.
امتعضت إيران من التصرف الأميركي الذي لم يكافئها على دورها الإيجابي، وعمل على محاصرتها, فصرح محمد علي أبطحي، نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية آنذاك، في ختام أعمال مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية بإمارة أبوظبي في 15/1/2004م، قائلا: قدمنا الكثير من العون للأميركيين في حربيهم ضد أفغانستان والعراق....ولولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة!!... لكننا بعد أفغانستان حصلنا على مكافأة وأصبحنا ضمن محور الشر, وبعد العراق نتعرض لهجمة إعلامية أميركية شرسة".
حاول جناح الحمائم في الإدارة الأميركية التوصل إلى تسوية, فاقترحت بعض الأوساط الأميركية في تلك الفترة من العام 2004م، أن يتم انتهاج سياسة الانخراط الانتقائي في التعامل مع إيران, وذلك كحل وسط بين عقد صفقة كبيرة مع النظام الإيراني "تشرع" وجوده، وتعترف به قوة إقليمية لها كلمة ووزن فيما يحصل في الخليج, وبين خيار الإطاحة بالنظام الإيراني وإسقاطه بعمل عسكري, وبالتالي تفادي ما يمكن ان ينتج عن أحد هذين الخيارين من تداعيات إقليمية ودولية.
ويعد كل من روبرت غيتس، مدير وكالة المخابرات المركزية سابقا في عهد إدارة جورج بوش الأب ومدير جامعة تكساس, ورد اسمه في فضيحة إيران-كونترا (أصبح وزيرا للدفاع في العام 2006م), وزبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد كارتر، والذي يعمل مستشارا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، وأستاذا للسياسة الخارجية في جامعة هوبكنز, من أبرز الداعين إلى اعتماد سياسة الانخراط الانتقائي مع إيران.
وقد شارك الاثنان في إعداد تقرير أصدره مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في يوليو 24م على شكل توصية للإدارة الأميركية، بعنوان: "إيران.. حان الوقت لمقاربة جديدة"، اقترحا فيه اعتماد مواضيع محددة في الحوار المباشر بين أميركا وإيران، مع استبعاد خياري الصفقة الكبرى من جهة وتغيير النظام من جهة أخرى. وقد جاءت أبرز توصيات التقرير باختصار على الشكل التالي:
1- تقديم عرض لإيران بقبول الحوار المباشر معها حول مواضيع تحقيق الاستقرار الإقليمي، وذلك عبر تصريح أو بيان يتبعه خطوات عملية في هذا الإطار, لأن من شأن هذا التحرك أن يؤسس لتعاون إيراني بناء في دعم حكومتي العراق وأفغانستان، وبالتالي يعزز الثقة في الحديث عن الهواجس المتأتية من تحركات إيران الإقليمية، ومناقشتها بشكل إيجابي.
2- دفع إيران إلى توضيح وضع قيادات القاعدة، الذين ألقت القبض عليهم عندها, وفتح حوار حول الموضوع الأمني، بشرط أن لا يكون لإيران أي دور مشبوه في قضايا العنف والإرهاب, ومقابل ذلك، تعمل الولايات المتحدة على تفكيك قواعد مجاهدي خلق في العراق بشكل نهائي، تمهيدا لتقديم قياداتهم للعدالة.
3- تطوير إستراتيجية أكثر فعالية بخصوص البرنامج النووي الإيراني، بالتعاون مع الحلفاء في أوروبا وروسيا, والتوصل إلى اتفاق مقبول، مقابل أن تقوم إيران، بالتخلي كليا عن تخصيب اليورانيوم ودورة الوقود الكاملة.
4- العمل على إعادة إحياء عملية السلام، كي لا تقوم أي أطراف، ومن ضمنها إيران، باستغلال الوضع.
5- تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع الشعب الإيراني، والسماح للمنظمات غير الحكومية الأميركية بالعمل في إيران, والبدء في محادثات انضمام إيران إلى منظمة التجارة العالمية.
حاولت إيران استدراك هذا الحراك الداخلي الأميركي، الذي يدعم الانفتاح معها, فلجأت إلى "الدبلوماسية الثقافية", وقامت بتوجيه دعوة رسمية إلى رئيس المكتبة القومية الأميركية والأرشيف، الدكتور جميس بيلينغتون، والذي يعد أيضا من المسؤولين الكبار في السلطة القضائية الأميركية, فقام بزيارة إلى إيران في نوفمبر 24م، بعلم وموافقة كل من وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأميركي، ليكون بذلك ثاني أكبر مسؤول أميركي يزور إيران منذ اندلاع الثورة الإيرانية، بعد زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، روبرت ماكفرلين السرية إلى إيران، والتي تم الكشف عنها فيما بعد في إطار فضيحة إيران-جيت والمثلث الإسرائيلي-الإيراني-الأميركي.
حاولت إيران توجيه رسالة واضحة من خلال هذا النوع من الدبلوماسية، على أمل أن تكون على منوال دبلوماسية البينغ-بونغ الأميركية-الصينية. لكن الواقع في الداخل الأميركي، كان قد تجاوز هذا الطرح تماما، وذلك لأن فوز الرئيس جورج بوش بولاية ثانية، أدى إلى تقوية المحافظين الجدد، خاصة بعد أن تم العمل على تصفية الحمائم الموجودين داخل الإدارة الأميركية، سيما في وزارة الخارجية، وخاصة من أولئك المهتمين بالانخراط مع إيران في محادثات مباشرة مفتوحة.
وقد رأت الإدارة الأميركية الجديدة أن مثل هذا الطرح لن يفيد ولن يوقف إيران عن تحقيق مشروعها النووي العسكري, إذ إن اعتماد مثل هذه السياسية، سيؤدي إلى نفس العواقب، التي أدت إليها سياسة واشنطن المتساهلة مع كوريا الشمالية إبان فترة كلنتون, حيث لم تنفع المحادثات، ولا حتى سياسة الجزرة، في إبعاد كوريا الشمالية عن تحقيق برنامج نووي عسكري خاص بها.
وعندما أصبح النقاش الأميركي والدولي يدور حول برنامج إيران النووي والسلاح النووي, انتقل الملف داخليا من يد الحمائم في الخارجية الأميركية إلى يد الصقور فيها، وتحديدا إلى يد جون بولتون، نائب وزير الخارجية لشؤون الرقابة على التسلح والأمن الدولي، والعضو البارز في تيار المحافظين الجدد.
لقد كانت سياسة جون بولتون، تقتضي زيادة الضغوط على إيران عبر التصويت على نقل ملفها من وكالة الطاقة الذرية إلى مجلس الأمن، من أجل دفعها إلى إيقاف دورة الوقود النووي بشكل كلي.
في هذه المرحلة بالذات، قامت إيران بالتواصل مع الدول الأوروبية من أجل منع الولايات المتحدة من تحقيق هدفها في نقل الملف إلى مجلس الأمن، أو إيقاف إيران عن إكمال عملها في تحقيق دورة الوقود النووية الكاملة.
لكن جميع المؤشرات في تلك الفترة كانت تشير إلى أن إيران قد غيرت فعلا توجهها، وباتت لا تفضل مناقشة أي طرح أو اقتراح أو تسوية مع الولايات المتحدة, والسبب في ذلك ـ وفقا لمصادر رفيعة المستوى ـ أن إيران رأت في ذلك الوقت، أن الولايات المتحدة قوية جدا، وتمتلك جميع أوراق اللعبة في الشرق الأوسط، وأن هذا سيضعف الموقف الإيراني في أي مفاوضات مباشرة، ولن يكون لدى إيران ما يمكن أن تستخدمه فيها في تلك المرحلة.
وعليه, فقد قرر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي ـ حسب المصدر نفسه ـ إرجاء هذا الموضوع إلى حين حصول تغييرات لصالح إيران، تمكنها من دخول أي مفاوضات مباشرة من موقع القوة, ومن أجل ذلك قام بالإيعاز إلى أجهزة الدولة الإيرانية من الباسيج و"الباسدران"، حرس الثورة وعناصر حزب الله وأجهزة المخابرات والجيش، بالتصويت للمرشح الرئاسي أحمدي نجاد، لأن المرحلة تتطلب تصعيدا ورفسنجاني ليس رجلها.
فأصبح أحمدي نجاد الرئيس في العام 2005م، وشهدت هذه السنة تصعيدا كبيرا في علاقة إيران مع جيرانها ومع المنظومة الدولية، نتيجة لتشدد الرئيس الجديد، وإتباعه نهج تصدير الثورة الإيرانية وأفكارها.
وقد نقل وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي، في مذكراته، التي أصدرها أخيرا، كلاما مهما عن الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد، يعبر عن هذا التوجه الثوري ومداه، قوله في سبتمبر 2005م: "علينا أن نتمنى أن تعم الفوضى بأي ثمن, لنرى عظمة الله".
(يتبع)