محمد عبدالرحمن عريف
جاءت البداية لعشرات السنوات التي خلت، وإبان الثورة الإيرانية عام 1979، بعدها ظل يتكرر لفظ «الشيطان الأكبر» بين إيران وأمريكا، وخاصة من الجانب الإيراني على ما تسميها إيران العدو الأول، ولكن واقع ما تخفيه السياسة من دهاء، جاء مؤخراً ينفي ذلك. رغم أن «أمريكا الشيطان الأكبر»، عُرف عند من يستخدمه أنه يعادي سياسات الولايات المتحدة، خصوصاً في داخل الجمهورية الإسلامية، وتعبيراً عن غضب الإيرانيين لممارسات الأمريكان المنحازة. ورغم أنه مصطلح «خميني» إلا أن العديد من التنظيمات الإسلامية رفعته، على أساس تشبيه النفوذ الأمريكي بوسوسة الشيطان، الذي يسيطر على الإنسان الضعيف ويجعله مكبلاً لرغباته الشيطانية، وكذلك الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة.
الواقع أن المصطلح ظل يستخدم ليومنا هذا، رغم التقارب الأمريكي- الإيراني، خاصة في خطابات إيرانية، ولعل تأكيد "حزب الله" بعد الاتفاق النووي أن «أمريكا الشيطان الأكبر قبل الاتفاق النووي وبعده»، ما هو إلا رسالة صريحة أن "الحزب" يعتبر الولايات المتحدة هي من توسوس في المنطقة. وإن كان في ذات السياق، يمكن أن يعتبر هذا المصطلح لا يعدو كونه مجرد شعار ليس إلا، فمن يرفع الشعار هو أكثر من يتعاون مع الولايات المتحدة ويطبق أجندتها. فإيران التي رفعت هذا الشعار، دارت الأيام لتقوم بعقد اتفاقها النووي مع الولايات المتحدة، وبالتالي فإنها الآن لم تعد تستخدم الشعار كما كانت في السابق.
مؤخراً هناك من الوثائق الأمريكية التي -رفعت عنها السرية- كشفت أن الخميني كان يتلقى دعماً خاصاً من إدارة الرئيس الأسبق، جيمي كارتر؛ من خلال إجبار الشاه محمد رضا بهلوي، على مغادرة إيران، وصعود معسكر الخميني بدلاً عنه. وهنا تشير الوثائق إلى أن إدارة كارتر مارست ضغوطاً كبيرة أوصلت الشاه إلى طريق مسدود، قبل أن تجبره على التنازل عن الحكم، ودخول الخميني بدلاً عنه. وفي إشارة إلى مفاوضات جرت خلف الستار بين المقربين من الخميني والإدارة الأمريكية، ذكرت الوثائق أن الخميني لم يكن معارضاً لبيع النفط لـ"إسرائيل". لقد كشفت الوثائق الجديدة لوكالة الاستخبارات الأمريكية «سي آي إيه» تفاصيل ما جرى في أروقة البيت الأبيض من جهة، والسفارة الأمريكية بطهران من جهة أخرى، خلال الأسابيع القليلة التي سبقت الإطاحة بنظام الشاه. وأظهرت أن الخميني بدأ في 15 كانون الثاني (يناير) 1979 مفاوضات مباشرة مع ممثلين عن إدارة الرئيس جيمي كارتر في ضواحي باريس، دامت أسبوعين؛ تمهيداً لمغادرته العاصمة الفرنسية باتجاه طهران؛ لإعلان نظام الولي الفقيه. بالتوازي مع ما أسلفناه كانت السفارة الأمريكية في طهران تسابق الزمن، وتنسق بين مهدي بازركان، ومحمد بهشتي، مساعدي الخميني من جهة، وقادة السافاك (جهاز المخابرات) وجنرالات الجيش من جهة أخرى.
وهنا تكشف الوثائق عن محضر اجتماع سري للرئيس كارتر مع كبار مساعديه في البيت الأبيض، تم خلاله اتخاذ قرار الإطاحة بالشاه، وخلال الاجتماع اعترض مستشار مجلس الأمن القومي، زبغنيو بريجينسكي، على الأمر، إلا أن وزير الخارجية، سايروس فانس، ورئيس «سي آي إيه»، استانسفيلد تيرنر، تمكنا من إقناع الرئيس بضرورة تغيير النظام، ومطالبة الشاه بمغادرة البلاد، وقال وولتر مانديل، نائب الرئيس، خلال الاجتماع: «يجب تشجيع الشاه على الرحيل بطريقة لا يعرف أن أمريكا وراءها». لسنوات مضت ارتفع سقف التوقعات بضرب إيران، سيناريو تكرر كثيراً كلما واجه البلدان (أمريكا و"إسرائيل") مشاكل داخلية، خاصة مع السابق اوباما، الذي انخفضت شعبيته لأدنى مستوى لها منذ دخوله البيت الأبيض، ونتنياهو عندما واجهت بلاده مشاكل اقتصادية وحركة إضراب يومي ظهر ليغتنم فرصة نشر تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويهدد بضرب المفاعل النووي الإيراني. في حين نجد علاقة إيران كدولة حديثة مع أمريكا أكبر من علاقتها بجيرانها، كذلك فالتعاون العسكري الإيراني- "الإسرائيلي" مستمر منذ عهد الشاه، عندما كان الجيش المصري يتحرك لتحرير سيناء كانت الدبابات والآليات العسكرية "الإسرائيلية" تتحرك بوقود إيراني. ورغم الحصار والعقوبات على مبيعات السلاح لإيران تعتبر "إسرائيل" المزود الرئيسي لإيران بالسلاح.
في الأشهر المقبلة ستأتي (إلى طهران) وفود عدة لمناقشة مواضيع مختلفة، لا حقوق الإنسان فقط، وسيحصل هذا وسط أجواء أكثر إيجابية، فالاتحاد الأوروبي الذي قرر أن يمدد لعام عقوبات يفرضها على 82 شخصية وكيان واحد في إيران، يتهمهم بـانتهاكات خطرة لحقوق الإنسان، منفصلة عن عقوبات اقتصادية وفردية شديدة فُرضت على طهران، بسبب أنشطتها النووية المثيرة للجدل، وجرى رفعها في كانون الثاني (يناير) 2016، بعد 6 أشهر على إبرام الاتفاق النووي بين طهران والدول الست (الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا). وتسعى بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى الحؤول دون تنفيذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهديده بالانسحاب منه، ما لم يتم إصلاح عيوب جسيمة فيه، بحلول 12 أيار (مايو) المقبل.
إن العلاقة ما بين إيران وأمريكا علاقة عميقة وممتدة لعشرات السنين إلى الوراء لذلك من المستبعد ان تفكر "إسرائيل" او امريكا بضرب ايران، ولقد رأت إيران أن عقوبات يفرضها عليها الاتحاد الأوروبي، على خلفية ملف حقوق الإنسان فيها، نابعة من «اختلاف القيم»، لكنها استدركت أن ذلك يجب ألا يوقف الحوار بين الجانبين. وسبق وأكد بهرام قاسمي، الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، وجود اختلافات في وجهات النظر مع دول أوروبية، ومع الاتحاد الأوروبي، واعتبر أنها تعود جزئياً إلى اختلاف القيم بين إيران والمنطقة وبين الاتحاد الأوروبي، لا سيما في ما يتعلق بحقوق الإنسان. وشدد على ضرورة أن يتواصل الحوار القائم منذ فترة مع الاتحاد، وأن يركز على قواسم مشتركة، ضمن أجواء بنّاءة من النوايا الحسنة.
كاتب وباحث في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية
المصدر : "القدس العربي"
1/11/1439
14/7/2018