الفلسطينيون في العراق والبحث عن الخلاص
أحمد سعيد نوفل
نشأت عن الاحتلال الأميركي للعراق صعوبات كثيرة للفلسطينيين المقيمين في الأراضي العراقية منذ عام 1948. وأجبروا على ترك المنازل التي كانوا يعيشون فيها تحت التهديد بالقتل والخطف، ومداهمة المنازل والتعرض للتعذيب. ويدل ذلك على أن الاحتلال لم يؤثر سلباً على العراقيين فقط، الذين دمرت دولتهم وتباعدت طوائفهم، بل تعداهم إلى من يسكن العراق كالفلسطينيين الذين لجأوا إلى هذا البلد العربي قبل حوالي ستين عاما، هربا من ممارسات ومجازر التنظيمات الصهيونية ضدهم في ذلك الوقت، ولحق بهم إرهاب فرق الموت العراقية لإجبارهم على الرحيل عن أماكن لجوئهم في عام 2007.
كان عدد الفلسطينيين عند وصولهم إلى العراق خمسة آلاف فلسطيني، ارتفع حاليا ليتجاوز العشرين ألفاً بقليل. وجاء معظمهم من قرى منطقة مثلث الكرمل في شمال فلسطين، بعد استيلاء العصابات الصهيونية عليها. وتعاطفت القوات العراقية التي شاركت في حرب فلسطين، مع مأساة الفلسطينيين الذين هاجروا إلى مدينة جنين، ورحبت بهم لكي يكونوا ضيوفا على الحكومة العراقية.
ونقلت العائلات الفلسطينية بآليات عراقية إلى بغداد، بينما بقي الشباب منهم يقاتلون تحت إمرة الجيش العراقي، والتحقوا بعد انتهاء الحرب بعائلاتهم.
وبعد وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق، أصبحوا تحت رعاية وزارة الدفاع العراقية، حيث تم توزيع سكنهم على المقرات الحكومية، وعلى مناطق بغداد والموصل والبصرة. وصدر في عام 1964 قرار بمعاملة الفلسطينيين في العراق كمعاملة العراقيين في الوظائف الحكومية من حيث الرواتب والعلاوات.
وبعد وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1968، أصدر مجلس قيادة الثورة العراقي قراراً بإنشاء مجمعات سكنية شعبية تتوفر فيها كل الشروط الصحية، وتبقى تلك المنازل ملكاً للدولة يتمتع الفلسطيني بمنفعتها ما دام موجوداً في العراق، وبمساواة الفلسطينيين بالعراقيين عند التعيين والترفيع في الوظائف إلى حين عودتهم إلى ديارهم.
وفي عام 1980 صدر قرار عن مجلس قيادة الثورة أعطى بموجبه الحق للفلسطينيين في العراق بتملك المسكن بشكل دائم بعد التدقيق وأخذ موافقة وزارة الداخلية والموافقات الأمنية اللازمة، على أن تسجل الدار التي اشتراها الفلسطيني المقيم باسم وزارة المالية العراقية.
وفي عام 1987 صدر قرار آخر عن مجلس قيادة الثورة سمح للفلسطيني المقيم إقامة دائمة في العراق بتملك قطعة أرض أو دار للسكن أو قطعة أرض زراعية. إلا أنه صدر قرار في 1994 نص على وقف العمل بالقوانين والقرارات التي تجيز تملك غير العراقي العقار أو استثمار أمواله في الشركات داخل العراق. وعومل الفلسطينيون، الذين مضى على وجودهم في العراق في ذلك الوقت خمسة وأربعون سنة، معاملة الأجنبي الذي وصل منذ أيام. واستمر الوضع على هذا الحال، حتى نهاية عام 2001، إذ صدر قرار جمهوري بمعاملة الفلسطينيين المقيمين في العراق إقامة دائمة، معاملة العراقيين في جميع الحقوق والواجبات باستثناء الحق في الحصول على الجنسية العراقية. إلا أن الفلسطينيين في العراق لم يقدر لهم أن يتمتعوا بأول امتيازٍ قانوني لهم منذ عام 1948، إذ وقع احتلال العراق بعد عامين، وبدأت معاناة جديدة للفلسطينيين بسبب الاحتلال الأميركي الذي أراد مع بعض الفئات العراقية الحاقدة، معاقبة الفلسطينيين على وجودهم في بلاد الرافدين، وفقدوا بذلك جميع المكاسب التي حصلوا عليها منذ لجوئهم.
وعاش الفلسطينيون منذ الاحتلال الأميركي للعراق في محنة قاتلة، وتعرضوا فيها إلى شتى أنواع التعذيب والقتل والخطف والتهديد بالطرد والخوف، وأصبحوا مستهدفين لكونهم فلسطينيين من قبل فرق الموت العراقية. وتدهورت حياتهم وبشكل خاص، في ظل حكومة الجعفري، بسبب سياسة التحريض المبرمجة ضدهم من قبل بعض المسؤولين العراقيين القياديين، بحجة أنهم (أي الفلسطينيين) محسوبون على النظام العراقي السابق، مما أدى إلى قتل وتشريد وفقد العشرات منهم، فقد بلغ عدد القتلى والمفقودين في العراق من الفلسطينيين في العام الماضي، ما يقارب 536 مواطنا فلسطينيا، واعتقال 62، واختطاف 22، وجرح وإعاقة 140 فلسطينياً. ولم يتحدث أحد في العراق بكلمات دافئة عن الفلسطينيين، الذين ظهروا وكأنه ليس مرغوبا بقاؤهم في العراق، بل اتهموا بتنفيذ عمليات مع المقاومة ضد الاحتلال.
ووجد الفلسطينيون أنفسهم بين الميليشيات العراقية وقوات الاحتلال التي اتهمتهم بالمشاركة في المقاومة، وبين الجماعات الإسلامية الأخرى التي أدانت سوء المعاملة التي لقيها الفلسطينيون في العراق. وصدرت نداءات عن هذه الجماعات من أجل مساعدة الفلسطينيين، بسبب المعاناة والعذاب الذي تعرضوا له. بل إنها دعتهم إلى اللجوء إلى منطقة الأنبار وديالى وصلاح الدين التي يدعون السيطرة عليها.
ولم تأت تلك الممارسات ضد الفلسطينيين من قبل بعض الميليشيات العراقية فقط، بل تعرضوا كذلك في أماكن سكنهم في بغداد، إلى المداهمات والتفتيش على يد قوات الاحتلال الأميركي. وقام جنود أميركيون بتحطيم أثاث المنازل التي فتشوها واعتقال فلسطينيين من بينهم نساء، مما يذكر الفلسطينيين بممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد إخوانهم الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية.
ودفعت تلك السياسات المبرمجة والممارسات، الفلسطينيين في العراق إلى ترك منازلهم ومناطق سكنهم، والهرب إلى خارج العراق، بانتظار إيجاد مكان آمن لهم للعيش، الى حين حل مشكلتهم، تماما كما حدث معهم قبل عشرات السنين على أيدي الإسرائيليين. وهذا يتناقض مع الإشاعات التي ظهرت في السنوات الأخيرة، والتي تتحدث عن احتمال توطين اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في لبنان ومناطق أخرى في العراق. ولكن يبدو أن تلك الإشاعات لم تكن على علم بالمصير الذي سيلاقيه الفلسطينيون في العراق، الذين طالبوا بنقلهم إلى الأراضي الفلسطينية، هربا من الاعتداءات التي يتعرضون لها. إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ترفض عودتهم إلى ديارهم، أو السماح للسلطة الوطنية الفلسطينية باستقبالهم في الأراضي الفلسطينية.
وعلى عكس أكثر من مليون لاجئ عراقي، الذين غادروا وطنهم منذ بداية الاحتلال الأميركي إلى الدول العربية المجاورة، خوفاً من التعرض للقتل أو الخطف أو الاغتصاب، فإن أغلبية الفلسطينيين لا تملك شهادات تدل على أنهم مواطنون عراقيون، أو بطاقات تسمح لهم بدخول قانوني إلى الدول العربية أو السفر إلى الدول الأجنبية. وكأن المأساة تلاحق الفلسطينيين باستمرار، من الصحراء الليبية حيث مكث الفلسطينيون الذين طردوا من ليبيا سنوات في الصحراء الحارقة في ظروف صعبة، ولجأ البعض منهم إلى العراق، إلى الفلسطينيين الذين كانوا في الكويت ولجأ البعض منهم أيضا إلى العراق، والفلسطينيون في العراق الآن الذين لم يجدوا لهم مكانا آمنا يلجأون إليه. وبدلاً من إعادتهم التي طال انتظارها إلى ديارهم في فلسطين، يقترح البعض نقلهم إلى منطقة كردستان في شمال العراق.
ولا شك أن منظمة التحرير الفلسطينية تتحمل مسؤولية حماية الفلسطينيين في العراق، وعليها الطلب مباشرة إلى السلطات الأميركية لحمايتهم، أو الضغط على إسرائيل لإعادتهم إلى ديارهم، بدلا من البحث عن أماكن جديدة لهم للجوء في الولايات المتحدة أو كردستان العراقية. أما الطلب من الحكومة العراقية لحماية الفلسطينيين، فهذا بعيد عن الواقع، لأن الحكومة العراقية عاجزة عن حماية العراقيين أنفسهم. ولن تنفع الدعوات لإطلاق الفتاوى بتحريم قتل الفلسطينيين، لأن تلك الفتاوى لم تنفع بوقف الاقتتال بين العراقيين أنفسهم. وكذلك الأمر، دعوة البعض إلى نقل الفلسطينيين من بغداد إلى كردستان في شمال العراق، لأن ثمن ذلك سيكون فتح مكتب قنصلي للمنظمة في كردستان، مما يعني اعترافاً فلسطينياً بانفصالها عن الأراضي العراقية. وفي حال حدوث ذلك، من المؤكد أنه سيؤدي إلى اتهام الفلسطينيين ومنظمة التحرير، بأنهم اعترفوا بالوضع القائم في تلك المنطقة، وبانسلاخها عن الوطن العراقي، وهو ما لم تقم به أي دولة عربية.
مأساة الفلسطينيين في العراق لم تحرك المنظمات الدولية التي تهتم بقضايا حقوق الإنسان، ولا الدول التي تدعي حرصها على احترام هذه الحقوق، مما يدل على عدم مصداقيتها في دعواتها. كما أن إسرائيل تتحمل المسؤولية المباشرة عن مأساة الفلسطينيين ومعاناتهم في الشتات. وكان من المفروض أن تمارس ضغوطاً عليها، كي تعيد اللاجئين الفلسطينيين في العراق إلى ديارهم، أو إلى أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كبادرة حسن نية تجاه الفلسطينيين الذين احتلت إسرائيل وطنهم وأقامت دولتها على أنقاض قراهم ومدنهم ، بدلا من دعوة اليهود في دول العالم والذين يعيشون حياتهم الطبيعية، بالهجرة إلى فلسطين. وكأن المأساة تلاحق الفلسطينيين باستمرار.
الفلسطينيون في العراق هربوا من ديارهم قبل أكثر من نصف قرن، خوفا على حياتهم من العصابات الصهيونية، وكانت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، وهاهم الآن يهربون من منازلهم، هربا من التهديدات بقتلهم والاعتداء عليهم، والعراق خاضع للاحتلال الأميركي. والمأساة أنهم في المرة الأولى وجدوا من استقبلهم ورحب بهم، ولكن في هذه المرة أغلقت الحدود في وجوههم، ولم يجدوا من يستقبلهم، وهذا في حد ذاته مأساة جديدة تضاف إلى المآسي التي يعاني منها اللاجئون الفلسطينيون.