د. طه الدليمي
بعد الأحواز سنة 1924 كانت بيروت سنة 1976. ثم تبعتها بغداد سنة 2003 لتلحق بها دمشق بعد ثماني سنوات. وها هي صنعاء تسقط اليوم بيد إيران في مشهد باهت لا طعم له.
استسلام سريع على جميع الصعد! كيف حصل هذا؟ أين القبائل التي تناطح أنوفها السماء؟ وأين الخناجر التي تزين المغابن؟ أين الأسلحة التي تملأ البيوت والقرى والمنتجعات؟ أين الجيش؟ أين طلاب العلم الذين خرجتهم دار الحديث في (دماج)؟ وأين رجال (جامعة الإيمان)؟ أين مقاتلو القاعدة؟ أين السلفية؟ أين الإخوان؟ أين الزنداني؟ أين دول الخليج؟ أين الناس؟ فالدور القادم قادم لا سمح الله، وزمن التداعي في تسارع؛ فبين الأحواز وبيروت نصف قرن، تضاءل إلى ربع بين بيروت وبغداد. واختصر هذا إلى ثلثه بين بغداد ودمشق.
ليتقزم إلى ثلاث سنوات بين دمشق وصنعاء! فكم سيكون بين صنعاء والمنامة أو الكويت؟ وما أبو ظبي أو الرياض – كما يبدو – عن طهران ببعيد.
وأسئلة كثيرة أخرى تبحث عن جواب.
وأجوبة كثيرة تبحث عمن ينفخ فيها الحياة. ومع الأسئلة والأجوبة تبرز أمامي معالم مهمة في الدين والسياسة والاجتماع تشكل منطلقات أساسية للفهم والعمل ورسم خطط الحل، ألخص أهمها:
طال ليل العلمانية حتى كاد يستوعب الأمة، وحتى شمل معظم الجماعات الإسلامية. وصار تحكيم شريعة محمد e بين أمة محمد نكرة وتهمة. وتكلل هذا الانحراف باعتبار الشيعة من المسلمين حتى صار أمراً مسلماً به؛ وذلك لضياع معالم الدين: عقيدة وشريعة عن جمهور المسلمين! فحل عقاب الله سبحانه على هذا الجمهور في فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة.
توالي السقوط المدوي للفكر الوطني المسلوب العقيدة السنية في منطقة المشرق العربي المهددة بعدو يغزوها باسم العقيدة الشيعية. فالعقيدة الوطنية للجيش اليمني، وغياب العقيدة السنية الإسلامية مع وجود عدو يقاتل بجيش مدجج بالعقيدة الشيعية الاستئصالية، هي أحد الأسباب الرئيسة وراء الانهيار السريع لهذا الجيش الكارتوني. والسبب نفسه هو الذي أتاح المجال أمام الشيعة لاحتلال المنطقة السنية في العراق وسوريا ولبنان. وهذه النهاية متوقعة لبقية الجيوش العربية المهددة بالشيعة وظهيرها إيران، ما لم تشحن هذه الجيوش بالإيمان والعقيدة السنية.
امتناع الحكومات العربية عن صنع أي ظهير شعبي للجيش في حال تخلخله أو هزيمته، ومنع الشعوب من تكوين ذلك ولو برعايتها وإدارتها. فإذا سقط الجيش سقطت الدولة وانتقل السلاح وقيادة المؤسسات إلى العدو ليقع الشعب في ورطة تتكرر باستمرار.
على العكس من إيران والأنظمة المستنسخة عنها؛ فالجيش الإيراني له ظهير شعبي هو الحرس الثوري. والجيش الرسمي الشيعي في العراق له ظهير شعبي هو المليشيات، والجيش السوري ظهيره الشعبي هو (حزب الله). ودور هذه الجيوش الشعبية العقائدية الظهيرة واضح في إسناد تلك الأنظمة والدفاع عنها ومنعها من السقوط. إن غياب الجهد الشعبي السني عن المشهد اليمني أوجد فراغاً تمدد فيه الحوثيون ليصلوا بأقدامهم إلى عقر العاصمة صنعاء. وإن تخلف السياسة العسكرية العربية وجمودها يقف حاجزاً أمام سعي الشعوب لحماية نفسها بنفسها. وجعل شبابها يعيش حالة مزمنة من الترهل والكسل والشيخوخة المبكرة. بل صار شيخ الدين يُسأل عن كارثة احتلال الشيعة لصنعاء: ماذا نصنع؟ فيجيب: عليكم بالدعاء! وهل يجهل الشيخ أن أوامر الدين منظومة بناء متكاملة، لا قطع مفككة مبعثرة! فالدعاء بلا إعداد في صورته النهائية تقصير يستجلب عقوبة الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45). فالذكر والدعاء لا يستجاب للقاعدين والجبناء.
التنازلات أمام الشيعة لا تؤدي إلا إلى زيادة خطرهم. وهذا شيء تجهله الأنظمة السياسية، والمنظومات الدينية، وكل المنظومات والشرائح العربية جهلهم بالتركيبة النفسية وإطار العقلية الشيعية. إنهم يسيرون على نمط جامد من التفكير الإسقاطي المتخلف؛ فيقيسون الشيعي على السني في دوافعه النفسية وطريقة تفكيره ومسارات سلوكه. وهذا يجعلهم يتبعون أسلوب التسامح والترغيب والاستجابة للمطالب الشيعية، متوهمين أن هذه الإجراءات تؤدي إلى علاج الحالة.
ولا يدركون أن ذلك يغري الشيعة بالمزيد والمزيد من المطالب إلى ما لا نهاية. ولا ينتبهون إلى أن منحنى جدوى التنازلات في هبوط وليس في صعود؛ فمن حالة الترغيب والاستجابة إلى حالة التنازلات والتراجع، إلى حالة السقوط، في ثلاثية مكررة. جرت في العراق على عهد صدام والحكومات التي سبقته، وكانت في سوريا ولبنان، ونسختها جارية إلى نهاياتها في البحرين والكويت والسعودية. وسقوط صنعاء اليوم شاهد على هذا.
ولن تنفع اليمنيين تلك المفاوضات البائسة برعاية الأمم المتحدة في إيقاف التدهور. سيجد الشيعة ألف حجة وحجة لنقض الاتفاقات وتجديد المطالبات. فالشيعي يفهم كل إحسان على أنه ضعف، وكل حل وسط يغريه بالعبور إلى نهاية الطرف دون اعتبار لحقوق الآخرين. فكل شيء له، وغيره لا شيء له.
في علاقة عدمية تقوم على قاعدة (إما أنا أو أنت). وهذا بسبب عقد نفسية جمعية أساسها (عقدة النقص)، تسندها أساطير وفتاوى دينية. ومن المؤسف المؤسي أن السياسيين وشيوخ الدين بعيدون كل البعد عن فهم النفسية الشيعية. ومعظمهم يجهلون حقيقة الدين الشيعي. وما لم تعرف عدوك فمن الصعب أن تنتصر عليه. فكيف وهؤلاء لا يعتبرون الشيعة عدواً من الأصل!
لا نرى ضرورة بقيت لربط مصير اليمن الجنوبي باليمن الشمالي الذي أثبت قادته ضعف مقدرتهم على الحفاظ على أمن وسيادة وإدارة وعدالة واقتصاد البلاد. وإذا كان الفشل نصيب دولة الوحدة القشرية التي أدت إلى كوارث تكللت باحتلال صنعاء، فقد جاء دور اليمن الجنوبي لاستلام زمام المبادرة.
وإن الحدث يفتح الباب أمام الثقافة العربية لتغيير نظرتها القاصرة عن (الفدرالية أو الأقلمة)؛ فقد يكون التقسيم هو البديل عن غياب العدل وسوء التنظيم.
آن الأوان للتنبه إلى خطورة نظرية (القضية المركزية).
فما دامت الأمة لا يجمعها كيان سياسي فإن لكل كيان صغير قضيته المركزية، وهي أهم إليه وأوجب عليه من أي قضية أخرى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأنفال:75) حتى يقوم الكيان الكبير.
وفي تقديري أن الغرب وإيران وراء إشاعة هذا المفهوم، واتخاذ فلسطين رمزاً له وتضخيمها مع تضخيم الخطر اليهودي أضعافاً مضاعفة؛ وذلك من أجل إشغال شعوب المنطقة عن قضاياها الخاصة، وانصرافها عن نصرة أي قضية غير فلسطين إلا بنسبة محدودة لا تكاد تذكر؛ كي تتمدد إيران في أي دولة تستهدفها من دول المنطقة دون صعوبة تقف حائلاً أمامها، ولا ضجيج يفضحها ويجلب الدعم لتلك الدولة، ويولد ضغطاً شعبياً على الحكومات للوقوف معها.
حتى تحولت فلسطين إلى (ثقب أسود) يستنزف طاقات الشعوب العربية والإسلامية، بل وكثير من دول العالم ومنظماته إليها دون غيرها. ثم لا ندري أين تذهب تلك الطاقات؛ فالفلسطيني البسيط ما زال يعاني ولا يستفيد إلا القليل. هل فكرتم لماذا يتم التأكيد في كل قمة على أن "فلسطين هي قضية العرب الأولى"؟ وهل أدركتم الآن السر في إلحاح إيران على تبني هذه المقولة، ورفع شعار "الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود" وذبح العرب تحت هذا الشعار؟
إن فلسطين إحدى قضايا الأمة وليست قضيتها: لا الوحيدة ولا المركزية. وإن خطر اليهود وإسرائيل لا يساوي كثيراً أمام خطر الشيعة وإيران؛ فاليهود لم يسقطوا عاصمة عربية واحدة، وها هي إيران وشيعتها يسقطون العواصم العربية الواحدة تلو الأخرى!
إن الشيعة وإيران وحدة واحدة؛ فحيثما تمكن الشيعة مكنوا إيران من ذلك المكان. فهل وعت الأنظمة العريبة أن "وطن الشيعي طائفته"، وأن إيران أمه وأمته؟ وإذا كان الأمر كذلك فعليهم اتباع وسائل استثنائية في معالجة خطر الشيعة، ومنه العزل الاجتماعي بإظهار حكم الإسلام فيهم، والعزل السياسي بالإقليم أو الجغرافي بالتقسيم. ولن يقر لدول المنطقة قرار ما لم يعيدوا النظر في شروط الجنسية والهوية الوطنية.
وفي التجربة الماليزية والإندونيسية إفادة.
من بين غبار المعركة يلوح في أفق المستقبل النهاية المخيفة التي تنتظر الشيعة ومن ورائها إيران يوم تبلغ تداعيات التوسع الأفقي آماداها ليتردوا في نفق السقوط العمودي! واليمن ليست صعدة فعمران فصنعاء، إنما دون ذلك بحر من الأرض والبشر. والسنة هم الأمة غير أنها تنظر الآن إلى ما يحدث من تغول الشيعة بتثاؤب، وعقلية تقليدية لا ترى في الكون غير قضية واحدة قيل لها: إنها "القضية المركزية". فهي في حاجة - لكي تستيقظ وتنتبه وتنتفض - إلى (سياط القدر) عبر دريلات وبراميل الغجر. وها هي قادمة إليهم؛ فويل للعرب – إن لم يثوبوا - من شر قد اقترب!
وعلى طول هذه المعالم يبرز سؤال واسع وعميق: أين دول الخليج من هذا الحدث الجلل؟! ونخاطب في مقدمتها المملكة العربية السعودية: أنتم تحاصرون الآن من ثلاث جهات: فالعدو من فوقكم وعن أيمانكم ومن أسفل منكم، وليس إلا البحر من غربكم. وقد سقطت صنعاء؛ فماذا أنتم صانعون؟
المصدر : موقع القادسية