الشنقيطي يشوه صورة نور الدين.
أي قارئ مسلم لا يعرف سيرة نور الدين وتاريخه ، ويقرأ كتاب الشنقيطي " أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية " يخرج بصورة مشوهة مزيفة بالغة السوء عن نور الدين ويبقى في وجدانه انطباع سيء عن هذا المجاهد الزاهد الورع العادل المتمسك بالكتاب والسنة. لأنه صوَّرهُ بصورة "المصفي لجميع الشيعة من باطنية وإمامية تصفية شاملة بدافع الحقد والثأر والانتقام ، لانهم قتلوا جده - آقسنقر البرسقي ، الذي زعم الشنقيطي - زورا وبهتانا - أنه جد نور الدين ووالد أبيه عماد الدين زنكي ، في حين أن جد نور الدين ووالد والده زنكي هو آقسنقر الحاجب الذي مات قبل ثلاث وثلاثين سنة من إغتيال الباطنية لآقسنقر البرسقي" وهي صورة كاذبة مزيفة جملة وتفصيلا. وهذه الصورة جاءت في كتابه في أربع صفحات فقط ، من ص 168 حتى ص 171 وراجعوا هذه الصفحات في كتابه. بينما رسم صورة بطولية للخائن الشيعي ابن عمار في ستة عشرة صفحة من ص 141 حتى ص 156. مع العلم أن أثر خيانة ابن عمار تفوق - في الأثر - بمئات المرات خيانة ابن العلقمي للخليفة العباسي ومدينة بغداد سنة 656 هجرية. وهذه حقيقة يجهلها عامة المسلمين الذين لا يعرفون إلا قصة خيانة ابن العلقمي.
وسأبين لكم هذا الأمر الآن بعقل المؤرخ وفكر المؤرخ وروح المؤرخ.
خيانة ابن العلقمي عجّلت بسقوط بغداد فقط ولو لم يقترفها ابن العلقمي ، لسقطت بغداد لا محالة ولكن سيطول حصارها. والدليل الحاسم على هذا أن مدينة ميافارقين الأكثر حصانة ، من الناحية الطبيعية من بغداد ، والتابعة لأحد ملوك بني أيوب حاصرتها إحدى الفرق من جيش هولاكو مدة سنتين كاملتين بينما سار هولاكو بجيشه الكبير إلى الشام. وسقطت ميافارقين بعد أن أبدى المدافعون عنها من ضروب البسالة والشجاعة ما لا يوصف. ومع ذلك سقطت أمام فرقة مغولية.
أما هولاكو فبعد اقتحام حلب وتدميرها وبيع سكانها جميعا في أسواق الرقيق. فقد وصلته الأنباء من الصين - المحتلة من جانب المغول - بوفاة أخيه الخان الأكبر منكوقاآن ، وتنازُع أثنين من أخوته على العرش. فقرر العودة بكل جيشه إلى الصين بهدف إعادة الترابط والوحدة لبيت جنكيزخان. ولكن ملك الأرمن هيثوم -حليف المغول - توسل لهولاكو وتذلل له أن يُبقي فرقة عسكرية تساعد الأرمن والصليبيين على استرداد القدس من المسلمين. فأجاب هولاكو طلب حليفه هيثوم فأبقى قائده كتبغا وزوجة هولاكو دوقوز خاتون لتكون مستشارة لكتبغا . وعدد تلك الفرقة المغولية التي أبقاها هولاكو مع كتبغا عشرة آلاف فارس . ومعها الكتيبة الأرمنية وكتيبة أمير انطاكية الصليبية بوهمند السادس زوج بنت هيثوم.
ولولا وفاة خان المغول الأكبر - بقدر الله وسنته في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ووعده لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أن لا يُسلط على أمته عدواً يستأصل شأفتها ويزيلها بالكلية . لو لا هذا الوعد الإلهي لوصل هولاكو بجيشه العرمرم إلى ساحل المحيط الأطلسي ولعبروا منها إلى الاندلس وإلى أوروبا!!!
فهذا الجيش القليل مع كتبغا هو الجيش الذي انتصر عليه المسلمون بقيادة السلطان قطز في معركة عين جالوت في 25 رمضان 658 هجرية / 1260م.
وعن هذه المعلومات راجعوا الكتب التالية
١ -الباز العريني : المغول.
٢- فؤاد عبدالمعطي الصياد : المغول في التاريخ.
٣ - سعيد عاشور : الحركة الصليبية ؛ الجزء الثاني
٤ - سعيد عاشور : العصر المماليكي في مصر والشام
٥ - أيضا عاشور : الأيوبيون والمماليك.
٦ - رنسيمان : الحروب الصليبية الجزء الثالث.
فالمغول عند بغداد كانوا في قمة اندفاعتهم المتوحشة - مثل السونامي في ذروته الاولى على اليابس - وبغداد كانت ستسقط لامحالة سواء وُجَد ابن العلقمي أم لم يوجد. فهذا منطق التاريخ لمن يعرف كيف تسير حركة التاريخ. وليس منطق من يزور التاريخ ويبني ماض جديد - كما قال الشنقيطي في مقدمته ومدخله لكتابه هذا.
أما خيانة ابن عمّار - الذي جعل منه الشنقيطي بطلاً اسطورياً صلباً ورمزاً فريداً - فإنها أنقذت المشروع الصليبي من الدمار وهو في بدايته ، وكفلت للحركة الصليبية البقاء وحالت بين المسلمين وبين القضاء عليها وهي في فجر تاريخها. وهو ما رأيناه في نقدنا لما كتبه الشنقيطي عن ابن عمار الذي سمّى خياناته المتكررة بالشوائب!!!
وبهذه النظرة التاريخية الفاحصة يتبين لكم أن خيانة ابن عمار تفوق خيانة ابن العلقمي.
قال الشنقيطي ص 166 ما نصه : ( وحينما سيطر نور الدين محمود على حلب عام 543 هجرية1146م - وهو حفيد الأمير المغدور آق سنقر - بدأ حملة تصفية شاملة ضد الشيعة الإمامية والنزارية على حد سواء ).
وعندما يقرأ القارئ هذه العبارة يتبادر إلى ذهنه أن هناك تصفية تشبه التصفية الشاملة التي قام بها الشيعي تيمورلنك ضد السنة محتجا أنه يقوم بذلك ثأراً لمقتل الحسين في كربلاء أو تشبه التصفية الشاملة التي قامت بها الدولة الصفوية ضد السنة في إيران وكردستان والعراق. أو التصفية الشاملة التي قامت بها الخمينية الحالية في ديالى والانبار والموصل وكل انحاء العراق التي فيها أهل السنة أو ما فعلته الخمينية في سوريا طوال هذه الكارثة التي أنزلها بشار وأسياده الخمينيون والروس بسوريا وشعبها.
كنا ننتظر من الشنقيطي بعد عبارته الباغية المشوهة لنور الدين أن يُقدم الدليل على ما يقول. لكنه لم يستطع أن يُقدّم إسم قتيل واحد ، لأنه لم يجد - ولن يجد غيره - في المصادر إسم هذا القتيل المزعوم.
فلم نجد في بقية ص 166 وص 167 شيء من التصفية التي زعمها الشنقيطي. وإنما وجدناه يخبرنا أن نور الدين منع الشيعة من الآذان ب " حي على خير العمل ومنع الشيعة من سب الصحابة ولعنهم علنا داخل حلب ، ونفى أحد زعماء الشيعة من حلب. ونقل نصوصا تاريخية عن هذه الأمور. لكنه لم يُقدّم دليلا على التصفية الشاملة.
وفي آخر ص 167 وبداية ص 168 ينتقد الشنقيطي نور الدين على سياسته التي أوردها وعجز عن إيراد دليل واحد على التصفية ويكرر كذبه وزوره بأن نور الدين كان مدفوعا في سياسته تلك بدافع الثأر فيقول ما نصه : ( وكان في وسع نور الدين منع استفزاز الشيعة لبقية المسلمين بسبّ الصحابة ، دون أن يمنع شعائر تدخل في تفاصيل الفقه الاجتهادية مثل النداء في الأذان بحي على خير العمل ، لكن ثأره مع الإسماعيليين الحشاشين الذين اغتالوا جده آق سنقر وقادة سنة كباراً ، وروح عصره التي اتّسمت بالضيق بالمخالف لدى الفقهاء والأمراء ، دفعته إلى التشدد فيما يبدو ) فهل قرأتم او سمعتم من قبل مثل هذا الكذب والهراء.؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
والعجب أن الشنقيطي كرّر الصورة المشوهة التي رسمها لنور لدين في كتابه عدة مرات - كما سنرى - وهي صورة صاحب الثأر الحاقد الذي ينتقم من الشيعة ثأرأ لقتل الإسماعيلية لجده آقسنقر البرسقي حسب زعم الشنقيطي الكذوب. والهدف من هذا التكرار أن تبقى تلك الصورة المشوهة عن نور الدين عالقة في ذهن القارئ إذا قرأ كتاب الشنقيطي مرة واحدة لأنها مرت عليه في الكتاب عدة مرات.
فاحذروا من كل ما يكتبه هذه المزور الذي لايتورع فيما يكتب كما رأينا من بداية نقد كتابه وإلى الآن.
ولكي تعرفون سيرة نور الدين على حقيقتها : أقرأوا كتاب الدكتور عماد الدين خليل " نور الدين محمود ، الرجل والتجربة" وهو موجود بالنت يمكن قراءته وتحميله. وأيضاً كتاب الصديق الدكتور مسفر بن سالم بن عريج الغامدي وعنوانه : " الجهاد الاسلامي ضد الصليبيين في عهد الأسرة الزنكية " وهو موجود في النت أيضاً ويمكن قراءته وتحميله.
وسأريكم الآن دليلا تاريخيا ساطعا على تزوير محمد بن المختار الشنقيطي للتاريخ ، حين يأخذ قصة هامشية من حوادث خطيرة جرت سنة 552 هجرية / 1157م ليخرج منها بإستنتاج كاذب باطل ، مفاده أن الشيعة الإمامية كانوا لايزالون غالبية سكان حلب في تلك السنة.
ولكن لا بد أن أعرض لكم لمحة عن المشهد التاريخي الخطير في بلاد الشام سنة 552 هجرية. في هذه السنة شرع قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم"الأناضول" في الزحف على مملكة نور الدين من الشمال بهدف انتزاع حلب من نور الدين. وتزامن هذا التهديد لنور الدين - في السنة نفسها -بحدوث زلازل مدمرة في بلاد الشام سببت اضرارا كبيرة في أسوار بعض المدن الإسلامية التابعة لنور الدين مثل ، حماة وكفرطاب ومعرة النعمان وأفامية وحمص ، وشيزر التابعة لبني منقذ الذين ماتوا تحت أنقاض بلدتهم.
وقرّر ملك بيت المقدس الصليبي بلدوين الثالث وأمير أنطاكية أرناط " رينو دي شاتيون " وأمير طرابلس ريموند الثالث ، استغلال تلك الكارثة ومهاجمة نور الدين في عقر داره. لكن نور الدين جمع قواته وخرج من حلب لصد الصليبيين. وفجأه داهمه مرض خطير أشرف منه على الموت ، عندئذ أوصى بأن يخلفه على مملكته أخوه نصرة الدين ، ونائبه على دمشق قائده الشهير أسد الدين شيركوه ( ولم يكن نور الدين في تلك السنة قد أنجب ابنه الصالح إسماعيل ) ويكون شيركوه تابعا لنصرة الدين. وحُمِل نور الدين في محفة إلى قلعة حلب . وابتهج الصليبيون بمرض نور الدين ، لأنه كان كابوسا على نفوسهم. وجاء الصليبيون واستولوا على أنقاض شيزر وحارم وأفامية ، ولكن ملك بيت المقدس عاد إليها لحل مشكلات داخلية وقعت فيها. وقد كان لوصية نور الدين بأن يخلفه اخوه نصرة الدين أسوأ الأثر في نفس أخيه الآخر محمد الملقب " أمير أميران " الذي كان يتوق إلى أن يكون هو خليفة نور الدين. وقرّر العمل لتحقيق أمنيته ، فلم يجد من قادة نور الدين ولا من أفراد جيشه ولا من الغالبية السنية في حلب من يؤيده في هذا المسعى ، فحاول استمالة اهل حلب، واتصل بالأقلية الشيعية في حلب وطلب منهم تأييده في مسعاه ووعدهم بالسماح لهم بممارسة شعائرهم الباطلة التي منعهم نور الدين من ممارستها. انظروا عن تفصيل هذا المشهد التاريخي . ابن الأثير : الباهر في تاريخ الدولة الأتابكية ، وهو مصدر أساسي لنور الدين لم يعتمده الشنقيطي في كتابه. وانظروا أيضا الجزء الاول من كتاب ابن واصل : مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ، حيث خصص ابن واصل هذا الجزء بأكمله لتاريخ عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود ، ولم يعتمده الشنقيطي في كتابه. وأيضا حوادث سنة 552 هجرية في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي. ولم يعتمده الشنقيطي في كتابه
وانظروا أيضاً حوادث سنة 552 هجرية في الكامل لابن الاثير ؛ وتاريخ ابن القلانسي ، وزبدة الحلب لابن العديم ، وابو الفدا ؛ المختصر في أخبار البشر. وغيرها من المصادر. وقد اشرت هنا الى حوادث السنة لأن طبعات تلك الكتب مختلفة ، وحتى لا أشير الى صفحات معينة فيأتي القارئ الى طبعة مختلفة فلا يجد في الصفحة التي أشرت إليها هذه الأخبار.
أما المراجع الحديثة : فهي : سعيد عاشور ؛ الحركة الصليبية ج 2 ص 649 - 651 . رنسيمان ؛ تاريخ الحروب الصليبية ج 2 ص 553 - 555 ، 563 - 564 .
وهكذا استبعد الشنقيطي توضيح المشهد التاريخي كاملا. واكتفى بذكر قصة محمد أمير أميران ليخرج منها بزعم كذوب بأن الشيعة الإمامية هم غالبية سكان حلب!!!
قال الشنقيطي ص 168 ما نصه : وقد استمر سعي إمامية حلب لبعض الوقت للتحرر من سياسات نور الدين. فقد أورد مؤرخون محاولة إمامية فاشلة عام 554 هجرية/1157م " هكذا أورد التاريخ خطأ "للتحالف مع أخي نور الدين محمد الملقب أمير أميران، بعد أن وعدهم برفع القيود عن شعائرهم، مقابل دعمهم السياسي له ضد أخيه نور الدين في وقت كان فيه نور الدين مريضاً.
ثم ينقل الشنقيطي في بقية الصفحة نفسها عن زبدة الحلب لابن العديم قصة مرض نور الدين ومحاولة أمير أميران استغلال مرضه ، ومحاولته استمالة الحلبيين ، ووعوده للشيعة اذا وقفوا معه. وموقف الأخوان الكرديان ، اسد الدين شيركوه والي حمص ، ونجم الدين أيوب والي دمشق ، ومجيء شيركوه الى حلب حيث وجد نور الدين يتعافى فأظهره للناس من شرفة يراه أهل حلب فاطمأن الناس ، وهرب محمد الى حرّان ، فملكها.
ويستنتج الشنقيطي من محاولة محمد هذه أن غالبية أهل حلب كانوا حينذاك شيعة فيقول في ص 168 - 169 ما نصه : ( ويشير مسعى أخي نور الدين للتقرب من شيعة حلب إلى أنهم كانوا لا يزالون غالبية سكان المدينة حتى ذلك الحين ، وان وزنهم السياسي لا يزال راجحاً، بحيث أضطر اخو نور الدين المنشق عليه الى خطب ودهم).
وغاب عن الشنقيطي ان النص الذي اقتبسه من ابن العديم ينقض استنتاجه هذا حيث صرح ابن العديم بتفرق الناس عن هذا الأمير وهروبه الى حران . فلو كانوا شيعة تدفعهم عقيدتهم لما تفرقوا عنه.
كما غاب عن الشنقيطي - أو جهله - أن نور الدين منذ سيطر على حلب
سنة 541 هجرية شرع في بناء المدارس السنية على المذاهب السنية الأربعة، بهدف تعليم النشء العقيدة الصحيحة والقضاء على شركيات وبدع وخرافات وطقوس الشيعة التي لا صلة لها بالإسلام البتة. وكذلك فعل في دمشق بعد ضمها سنة 549 هجرية. ولم تكن توجد في مدن الشام ولا مدرسة واحدة عند وصول الحملة الصليبية الاولى سنة 490 هجرية. وقد سار صلاح الدين على خطى نور الدين في هذا الباب ، لدرجة أن عز الدين بن شداد أحصى في كتابه "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة " عدد المدارس - في نهاية العصرين الزنكي والأيوبي - فكان في حلب 46 مدرسة وفي دمشق 92 مدرسة ، وكتب عنها بالتفصيل. إضافة الى المدارس الأخرى في القدس وبقية مدن الشام. ولكن الشنقيطي لا يحفل بهذه الحقائق لأنه يريد فقط اثبات مزاعمه الباطلة " بالغالبية الشيعية وجهادهم المزعوم مع أهل السنة " بالكذب والاختزال والتزوير!!!
أنظروا عن هذه المدارس : عز الدين بن شداد : الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة . ج 1 - قسم حلب - تحقيق ، دومنيك سورديل ص 96 - 121 ؛ ج2 - قسم دمشق - تحقيق سامي الدهان ، ص 200 - 266
وانظروا ايضا : النعيمي : الدارس في تاريخ المدارس. وهو موسوعة في تاريخ مدارس الشام في عصر الحروب الصليبية.
وهنا سأريكم نصاً آخرا للشنقيطي ، يدل على انه لا يبحث بجد ولا يستقصي وإنما يرمي بالإستنتاجات والتحليلات على عواهنها.
يقول في نهاية حديثه عن مرض نور الدين وفشل محاولة اخيه محمد ، ومجئ اسد الدين شيركوه الى حلب وتدعيم نور الدين سنة 554 هجرية
يقول في ص 169 ما نصه : ( كما تدل الوقائع هنا على بداية ارتباط نور الدين بالأسرة الأيوبية واعتماده عليها، وهو أمر سيكون له مابعده في تاريخ الحروب الصليبية والعلاقات السنية الشيعية ). وهذا هو الهراء الذي ما بعده هراء . فبداية ارتباط الاسرة الزنكية بالأسرة الأيوبية بدات قبل هذا التاريخ بأكثر من ربع قرن من الزمان . بل استطيع القول : إنه لولا هذه الأسرة الأيوبية لما ظهرت الأسرة الزنكية على مسرح التاريخ بالشكل الذي ظهرت به.
فنجم الدين أيوب هو الذي أنقذ حياة عماد الدين زنكي سنة 526 هجرية وقبل ان يبدأ عماد الدين جهاده الفعلي ضد الصليبيين.
وأخوه أسد الدين شيركوه هو الذي أخذ نور الدين إلى حلب ونصّبه سلطانا عليها سنة 541 هجرية بعد مقتل والده المفاجئ خارج اسوار قلعة جعبر على يد خادمه.
وإليكم التفاصيل.
توفي السلطان السلجوقي محمود بن محمد سنة 525 هجرية1131م وتعرض ابنه داوود - الذي ورث السلطنة - لمنافسة أعمامه الثلاثة...وهو نزاع يطول شرحه انتهى باشتداد النزاع بين العم سلجوق شاة والعم مسعود. وأيد الخليفة العباسي المسترشد سلجوق شاة ، فاستنجد مسعود بعماد الدين زنكي أتابك الموصل ، ووقعت معارك شرسة بين قوات الخليفة وحليفه سلجوق وبين عماد الدين زنكي كان آخرها سنة 527 هجرية عند تكريت حيث حلّت بزنكي هزيمة ساحقة وحوصر على ضفة دجلة وكاد ببقية جيشه يقع في قبضة الخليفة وسلجوق ، ولكن حاكم تكريت نجم الدين أيوب أنقذ زنكي فنصب له جسراً عائما ونقله الى الضفة الأخرى من نهر دجلة مع بقية رجاله. انظروا التفصيل في الباهر لابن الاثير ؛ والمختصر في أخبار البشر لابي الفدا ، حوادث سنة 527 هجرية.
وحين قُتل زنكي سنة 541 اخذ الوزير جمال الدين الأصفهاني الأبن الأكبر سيف الدين غازي الى الموصل ونصّبه عليها
في حين أعلن اسد الدين شيركوه نور الدين (الابن الاصغر من سيف الدين) سلطانا على حلب.
فقد كان نجم الدين أيوب واخوه أسد الدين شيركوه من كبار قادة عماد الدين وظلوا كذلك في عهد ابنه نور الدين.وليس منذ سنة ٥٥٤ هجرية مثلما زعم الشنقيطي في استنتاجه.
انظروا التفاصيل في الباهر لابن الأثير ؛ وفي الكامل له حوادث سنة 541 وابن القلانسي حوادث سنة 541.
وهنا أهمس بنصيحة في اذن كل باحث مبتدئ في التاريخ ان لا يُصدر حكما أو استنتاجا أو تحليلا في أي واقعة تاريخية حتى يستكمل كل المعلومات عنها في جميع المصادر ولكي لا يقع فيما وقع فيه الشنقيطي في هذا الاستنتاج الخاطئ.
الحقيقة التي لا مراء فيها أنني لم أجد مزورا ومزيفا في تاريخ الحروب الصليبية مثل محمد بن المختار الشنقيطي في كتابه " أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية ". حين كرر الزعم الكذوب بالزور والتحريف في معظم صفحات كتابه أن الشيعة الإمامية ( الأثني عشرية ) هم غالبية سكان الشام في عصر الحروب الصليبية بهدف إيجاد شرعية تاريخية للحركة الخمينية متبعاً المقولة الشائعة " أكذب أكذب أكذب حتى يصدقك الناس - وهذا الزعم الذي دحضته بالحقائق التاريخية ، وسوف أواصل إن شاء الله تعالى دحضه حتى انتهي منه - .
ولكن دعوني أقف هنا وقفة قصيرة وأُفنَّدهُ بعلم الإحصاء .
كتاب ابن أبي أصيبعة (الميت سنة 668 هجرية/ 1269م ). "عيون الأنباء في طبقات الأطباء".
موسوعة في تاريخ الطب وعلمائه - وقد أفدتُ منه في رسالتي الماجستير والدكتوراة - . وقد ترجم ابن أبي أصيبعة - في كتابه هذا - لكثير من الأطباء في مختلف أنحاء عالم الإسلام ، وتوسع في ترجمة أطباء الشام ، وبخاصة الذين عاصروه وقابلهم بنفسه زمن الحروب الصليبية ، وقد قابل ابن أبي أصيبعة الطبيب والصيدلي المشهور ابن البيطار صاحب كتاب " الجامع لمفردات الأدوية والأغذية " والذي ظل يُدرس في الجامعات الأوربية حتى القرن الثامن عشر الميلادي. وقد استقر ابن البيطار في الشام وقضى بها بقية عمره ، وعيّنه السلطان الكامل محمد رئيسا لطائفة الصيادلة والعشابين في الشام ومصر ، وقد صحبه ابن أبي أصيبعة في عدد من رحلاته التي كان يبحث فيها عن مواقع النباتات ويتحقق من منافعها الطبية.
وعندما تقرأون تراجم هؤلاء الأطباء الشاميين الذين ترجم لهم ابن أبي أصيبعة زمن الحروب الصليبية ، تجدون غالبيتهم من أهل السنة مع عدد أقل من الأطباء النصارى - بمختلف مذاهبهم - والأطباء اليهود يتوازى عددهم مع عدد أقوامهم في بلاد الشام. ولو كان غالبية سكان الشام إمامية - حسب زعم الشنقيطي - لرأينا معظم أطباء الشام منهم ، سيما وإن هذا الشنقيطي نص عدة مرات في كتابه بأن غالبية السكان إمامية ، تحكمهم نخبة سنية. فإذا كان الغالبية إمامية ، ومحرومين من المشاركة السياسة - كما يزعم - فسيحفزهم هذا الحرمان إلى الاتجاه إلى علم الطب وتصبح غالبية الأطباء منهم!!!
وكذلك ما كتبه وزير حلب ، علي بن يوسف القفطي " الميت سنة 646 هجرية / 1248م. ( في العصر الأيوبي ، حيث زعم الشنقيطي أن غالبية سكان حلب ظلوا إمامية طوال العصر الأيوبي ). والوزير القفطي كان من كبار العلماء في عصره ، وكان له مكتبه قل نظيرها ، وحرص على جمع الكتب طوال حياته ولم يكن له نظير في حب الكتب وجمعها واقتنائها. وقد صنّف الكثير من الكتب التي تدل على طول باعه وسعة ثقافته. على أن معظم كتبه مفقودة. ويبدو أن مكتبته دُمّرت مع دمار حلب على أيدي المغول سنة 658 هجرية / 1260م.
وقد بقي من كتبه كتابان هما :
١ - تاريخ الحكماء ، أو إخبار العلماء بأخبار الحكماء. طبعة ليبزج 1903م.
٢ - أنباء الرواة على أنباء النحاة. طبعة القاهرة ، 1371 هجرية/ 1952م.
وحين تتأمل تراجم الحكماء " الأطباء " وتراجم النحاة في هذين الكتابين لاتجد بينهم احدا من طائفة الإمامية. فأين الغالبية المزعومة لهم في حلب؟؟؟؟؟؟؟
وانظروا أيضا كتب التراجم الأخرى التي حوت تراجم كثيرة لأعلام أمة الإسلام ، سيما العلماء الذين عاصروا الحروب الصليبية أو ظهروا بعدها فستجدون غالبية من ترجموا لهم من سكان الشام - زمن الحروب الصليبية من أهل السنة. ويستحيل أن أُورد هنا أسماء كل كتب التراجم التي أشرت إليها لأنها تستغرق صفحات كثيرة.
لكن أُشير أن على رأس تلك الموسوعات في ميدان التراجم:
- وفيات الأعيان ، لابن خلكان.
- ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات. وهو استدراك من الكتبي على الذين أغفلهم ابن خلكان.
- الصفدي : الوافي بالوفيات
- وللصفدي أيضا كتاب تراجم آخر بعنوان " أعيان العصر وأعوان النصر "
- المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي ، لابي المحاسن ابن تغري بردي.
- بغية الطلب ، لابن العديم.
- المقفى ، للمقريزي.
- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان ، لسبط بن الجوزي.
- ذيل الروضتين لابي شامة ويتضمن تراجم رجال القرنين السادس والسابع الهجريين.
الأدفوي الشافعي : الطالع السعيد الجامع نجباء الصعيد.
- السيوطي : بغية الوعاة في طبقات النحويين والدعاة.
- المنذري : التكملة لوفيات النقلة.
بالإضافة إلى كتب الذهبي وتراجمه الكثيرة لأعيان بلاد الشام الذين عاشوا فيها في عصر الحروب الصليبية.
وغيرها كثير.
ولا نعلم كتاب تراجم لعالم من الإمامية " الأثني عشرية " ترجم لمشاهيرهم في بلاد الشام. ولو كان غالبية سكان الشام إمامية كما يزعم الشنقيطي لتصدى أحدهم لهذا الموضوع وترجم لأعيان طائفته!!!
وهنا أوجه نصيحة للطلاب المتميزين في مرحلة الدكتوراة ليختار أحدهم موضوع رسالته بعنوان ( التوزيع الطائفي والعرقي في بلاد الشام زمن الحروب الصليبية طبقا لكتب التراجم ) وهنا سوف يساعده الكمبيوتر على الأحصاء والخروج بنتائج ونسب محددة بدقة بالغة لهذا التوزيع. كما أحث أساتذة أقسام التاريخ في الجامعات العربية ، على أن يكلف أحدهم أحد طلابه المقتدرين لدراسة هذا الموضوع ، وسيخرج بنتيجة رائعة وبحث غير مسبوق ، وفتح باب بكر في مجال الدراسات التاريخية.
وهنا أشير إلى دراسة اجتماعية في عصر الحروب الصليبية ، ظهرت وأُنجِزَت قبل ظهور الخميني بسنوات ، وقبل أن ينشر الرعب والإرهاب في عالم الإسلام ، وقبل أن يُجنّد نظامه القاتل ، محمد بن المختار الشنقيطي وأمثاله لخدمة أهدافه التاريخية والسياسية.
هذه الدراسة الاجتماعية ، للدكتور أحمد رمضان أحمد ، بعنوان " المجتمع الإسلامي في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية.
وهي في الأصل رسالته للدكتوراه . وقد طُبِعت في كتاب في القاهرة سنة 1397 هجرية / 1977م . قبل ظهور الخميني - وقد استخدمتُ هذا لكتاب في الماجستير والدكتوراه -.
فقد تحدث هذا الباحث عن أهل السنة بوصفهم غالبية سكان الشام ، ثم تحدث عن الأقليات العرقية والدينية في هذه البلاد ، مثل ، الأرمن ، والموارنة ، والإسماعيلية ، والنصيرية ، والدروز وغيرهم ، ولم يشر إلى طائفة الإمامية الأثني عشرية التي زعم الشنقيطي أنها غالبية سكان الشام!!!
وكتاب آخر ظهر قبل ظهور خميني الهالك بسنوات طويلة. هو كتاب الدكتور أحمد أحمد بدوي : الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام . طبعة القاهرة 1972 م
وحين تقرأ هذا الكتاب تجد عشرات وعشرات الأسماء من العلماء الذين أسهموا في تطور الحياة الفكرية في بلاد الشام في عصر الحروب في شتى ميادين المعرفة وكلهم من أهل السنة.
فأين الأغلبية الإمامية يا شنقيطي؟؟؟؟؟؟
وفي ص 169 يواصل محمد بن المختار الشنقيطي في كتابه " أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية " تزييفه لتاريخ المسلمين السنة وجهادهم الباسل ضد الصليبيين حتى طردوهم من بلاد الشام. فيزعم - زورا وبهتانا - أن الشيعة الإمامية ظلوا أغلبية سكان حلب بعد موت نور الدين وطيلة العصر الأيوبي كله.
وقبل أن أعرض قوله الزائف في هذه النقطة وأدحضها بالحقائق التاريخية. أُذكركم - بما فصلته سابقاً - أنه في ص 84 من هذا الكتاب طعن في النبي صلى الله عليه وسلم طعنا مُبطّناً ، معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ورّث لأمته تلك الفتنة ، التي سماها الشنقيطي "الأزمة الدستورية" ، وهذا اتهام لله جل وعلا بأنه لم يكمل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم دينها. - حين زعم أن "الأزمة الدستورية" - أي "الفتنة الكبرى" - بدأت بذرتها الأولى قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت بيعةالسقيفة هي البذرة الأولى لتلك "الأزمة الدستورية" التي جاء الشنقيطي مع أسياده من مجوس قم لحلها .
وبعد الطعن في كل الصحابة الذين شاركوا في بيعة السقيفة ، طعن الشنقيطي في جميع الصحابة الذي شاركوا في موقعة الجمل وصفين.
ثم يستعرض الشنقيطي أراء أئمته "العظمى" مثل الخميني والخراساني والكوراني في رؤيتهم الزائفة للإمامة ، التي يريد هؤلاء القوم ان تكون هي أساس دين المسلمين. فإذا كان الشنقيطي لم يتورع عن الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وفي خيرة صحابته رضي الله عنهم ، فهل سيتورع عن تزييف تاريخ المسلمين وجهادهم ضد الصليبيين.
يجب أن تنتبهوا يا معشر المسلمين فهذا الشنقيطي ضمن ذلك الفريق الذي يسعى لتحريف دينكم وتغييره حتى يتناسب مع ما يريده أعداء هذا الدين فاحذروا منه .
يقول الشنقيطي ص 169 ما نصه : ( وتوجد دلائل على أن الشيعة ظلوا أغلبية أهل حلب خلال حكم نور الدين وصلاح الدين ، بل طيلة عهد الدولة الأيوبية ، إذ يروي المؤرخون العرب - ضمن يوميات الصراع على حلب بين صلاح الدين ومناوئيه من خلفاء نور الدين - أن أمير حلب الشاب الصالح إسماعيل - وهو نجل نور الدين - طلب الدعم السياسي من أهل حلب ضد صلاح الدين ، لكنهم اشترطوا عليه شروطاً مقابل دعمهم له). ويستدل الشنقيطي بنص من مؤرخ حديث هو الغزي الميت في القرن الهجري الماضي سنة 1351 هجرية ويهمل المصادر المعاصرة لتلك الفترة مثل : ابن الأثير في كتابه الباهر ، والكامل ، وابن واصل ، وسبط بن الجوزي وابو شامة ، وبهاء الدين بن شداد وغيرهم. قال -الشنقيطي - قال الغزي: "وكان الشيعة منهم قد اشترطوا على الملك الصالح أن يعيد إليهم شرقيّة الجامع يصلُّون عليها على قاعدتهم القديمة ، وأن يُجهر بحيّ على خير العمل في الآذان ، والتذكير في الأسواق وقُدّام الجنائز بأسماء الأئمة الأثني عشر ، وأن يصلّوا على أمواتهم خمس تكبيرات ، وأن تكون عقود الأنكحة إلى الشريف الطاهر ابي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني ، وأن تكون العصبية مرتفعة ، والناموس وازعاً لمن أراد الفتنة. وأشياء كثيرة اقترحوها مما كان أبطله نور الدين رحمه الله ، فأجابهم الملك الصالح إلى جميع ما طلبوا."
ويعلق الشنقيطي على هذه الشروط التي ذكرها الغزي فيقول ما نصه : ( وتدل هذه الشروط الشيعية على أن التشيع كان لايزال غالباً على أهل حلب يومذاك. وقد قبل الصالح إسماعيل هذه الشروط ، رغم أنه سنّي المذهب ، وأنه نجل الأمير نور الدين الذي سعى إلى اجتثاث التشيُّع من حلب ). تدليس وكذب وابتسار فاضح حين يصف الصالح اسماعيل : بالأمير الشاب وهو لايزال قاصرا في سن الحادية عشرة ولا يملك قراره ومغلوب على أمره من جانب سعدالدين كمشتكين الخادم الذي بلغ حد الخيانة وتحالف مع الباطنية والصليبيين ضد صلاح الدين!!! واليكم مجمل للمشهد الذي ينسف كذب الشنقيطي وتدليسه.
توفي نور الدين فجأة في شوال سنة 569 هجرية1174م بالذبحة الصدرية التي كانوا يسمونها حينذاك " الخوانق ". ولم يخلّف الإ ابنًا واحداً هو الصالح اسماعيل وكان لا يزال قاصراً في سن الحادية عشرة من عمره. مما أثار الأطماع داخل البيت الزنكي وخارجه في مملكة نور الدين. فقام حاكم الموصل سيف الدين غازي الثاني - وهو ابن عم الصالح اسماعيل - باحتلال أجزاء واسعة من مملكة نور الدين في الجزيرة مثل نصيبين والرها والخابور وسروج وحران والرقة وغيرها. وطمع الصليبيون في مملكة نور الدين فزحف ملك بيت المقدس الصليبي نحو الجولان بهدف احتلال عاصمتها بانياس التي حرّرها نور الدين من الاحتلال الصليبي قبل عشر سنوات.
وحدث التنافس بين قادة نور الدين في الشام. كل واحد يريد الظفر بتدبير امور الملك الصغير الصالح اسماعيل وكفالته حتى يبلغ سن الرشد. ومن أشهر أولئك القادة : ابن المقدم ، وابن الداية ، وكمشتكين الخادم. وجرت بينهم مساومات واشتباكات عسكرية - يطول شرحها - .
وأخيرا نجح كمشتكين الخادم في نقل الملك الصغير من دمشق إلى حلب ، وانفرد به داخل قلعة حلب.
وكان صلاح الدين خلال ذلك مشغولا بالتصدي لمؤامرة خطيرة هدفت للقضاء عليه وإعادة الدولة الفاطمية. وقد حاك خيوطها بقايا رجال تلك الدولة بزعامة الشاعر عمارة اليمني ، واستعانوا بالباطنية في بلاد الشام وبالنورمان الصليبيين في صقلية. وبعد أن نجح صلاح الدين في القضاء على تلك المؤامرة خرج إلى الشام سنة 570 هجرية لانقاذ الجبهة الاسلامية المتحدة من الضياع بعد أن أجهد نور الدين نفسه في بنائها ومعه كبار قادته مثل أسد الدين شيركوه ، وصلاح الدين ووالده نجم الدين أيوب. وقد كتب صلاح الدين إلى أولئك الأمراء الذين تنافسوا وتسلطوا على الملك الصغير الصالح اسماعيل قائلا : ( لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي أو يثق به مثل ثقته بي لسلم إليه مصر، التي هي أعظم ممالكه وولاياته ، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده وبخدمته غيري ، واراكم قد تفردتم بمولاي دوني ، وسوف أصل إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها وأجازي كل منكم على سوء صنيعه في ترك الذب عن بلاده ).انظروا : ابن الأثير الكامل ج11 حوادث ٥٧٠ هجرية والصفحات في طبعة دار صادر ج11 ص 405 - 406. وانظروا الجزء الثاني من مفرج الكروب لابن واصل فقد خصصه كله لتاريخ صلاح الدين ولم يستخدمه الشنقيطي البتة . ومرآة الزمان لسبط بن الجوزي ج 8 قسم 1 ص 324 - 327
ابن شداد : النوادر السلطانية ، تحقيق الشيال ص 47 50 ؛ والروضتين لابي شامة 594 - 604
وقد دخل صلاح الدين دمشق وسيطر عليها.
ولم يجد كمشتكين الخادم غضاضة في الاستنجاد بالصليبيين ضد صلاح الدين لدرجة أنه اطلق سراح أسرى الصليبيين من قلعة حلب - مقابل محالفتهم - وعلى رأسهم " أرناط " الذي أسره نور الدين قبل 16 عاما وظل سجينا في قلعة حلب طوال تلك السنوات وأطلقه كمشتكين الخادم ليستولي على الكرك ويهدد مكة والمدينة وطريق الحاج والقوافل . كما أغرى كمشتكين الخادم الباطنية بالأموال لقتل صلاح الدين. وقاموا بمحاولتين فاشلتين لتحقيق ذلك. وقد انضم ملك الموصل سيف الدين غازي الثاني إلى تحالفات كمشتكين الخادم ضد صلاح الدين ، لكن صلاح الدين هزم هذا الحلف هزيمتين متتاليتين في سنة 570 وسنة 571 هجرية ثم أعلن خلع الصالح اسماعيل الذي تحصّن به الخائن كمشتكين الخادم داخل قلعة حلب. وتلقى صلاح الدين التقليد الشرعي بملك مصر والشام من الخليفة العباسي في بغداد .
انظروا : ابن الاثير ؛ الكامل ج11 ص 422 طبعة دار صادر. وهذه الحقائق تفند زعم الشنقيطي عن الأغلبية الشيعية الإمامية في حلب. فإذا كان كمشتكين الخادم لم يتورع عن التحالف مع الباطنية والصليبيين ضد صلاح الدين فهل سيتورع عن إجابة الأقلية الشيعية في حلب إلى بعض مطالبها؟؟؟؟؟
وانظروا معنا إلى هذا التناقض الذي قدّمه الشنقيطي في صفحتين متتاليتين. قال في آخر ص 172 ما نصه : ( فكان شيعة الشام جزءً من الجمهور المقاوم تحت راية صلاح الدين ) وهذا كذب وهراء لا نحتاج إلى نقضه لأن الشنقيطي نقضه بنفسه في الصفحة التالية 173 حيث قال ما نصه : ( لكن تصدُّر بعض الشخصيات الإمامية في العمل السياسي المقاوم للفرنجة انتهى بصعود نور الدين وصلاح الدين ، وبدأت قيادة المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية تتمحض سنية خالصة. فلسنا نجد في كتب التاريخ ذكرا لشخصية إمامية قوية ساهمت مع نور الدين أو مع صلاح الدين في صد الصليبيين أو أخذت المبادرة لانجاز شيء في هذا السبيل). وكلامه هذا ينقض كل مزاعمه السابقة لأن عهود الزنكيين والأيوبيين وسلاطين المماليك الذين - يمقتون الشيعة أشد المقت - تشكل أكثر من تسعين بالمئة من عصر الحروب الصليبية. وهذه العهود هي عهود التحرير والاسترداد وإزالة الصليبيين من بلاد الشام التي يعود الفضل فيها لأهل السنة وحدهم. ولم يعرف السنة من الشيعة سوى الخيانات المتكررة وطعن المجاهدين في الظهر والتحالف مع الصليبيين والقتال معهم جنبا الى جنب ضد أهل السنة. والمادة العلمية في هذا الجانب يمكن أن تغطي مجلدة كاملة. وقد أشرنا الى بعض تلك الخيانات فيما سبق ان كتبناه في هذا النقد وهي الخيانات المقيته التي سمّاها الشنقيطي بعض الشوائب للتمويه والتغطية عليها.
والأعجب من هذا كله ، أن محمد بن المختار الشنقيطي في كتابه ( أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية ) يعود ويزعم - ويكرر كاذبا - في ص 174 - وقبلها - من كتابه أن تحالُف الشيعة الإمامية مع الدولة الدولة الأيوبية ظل قائما طوال عهد الناصر صلاح الدين " توفي في شهر صفر سنة 589 هجرية "
، وطيلة عصر الدولة الأيوبية كلها - التي ظلت قائمة في بلاد الشام مدة ٦٩ سنة كاملة بعد وفاة صلاح الدين ، حتى سقطت أمام الاجتياح المغولي سنة ٦٥٨ هجرية - فيقول ص 174 ما نصه : ( بيد أن التحالف مع الشيعة الإمامية ظل سمة غالبة على الدولة الأيوبية طيلة فترة حكمها ، في حياة الناصر وبعده ). ولم يُقدِّم هذا الأفّاك دليلاً - كنصوص هذا التحالف ومضامينه ، أو خبره من أي مصدر تاريخي. وهذ الكلام المُرسل قد يخدع القراء الذين لا يعرفون تاريخ الدولة الأيوبية. وقد يتخذه الخمينيون وأذنابهم في كل مكان كسند لشرعيتهم التاريخية.
وإليكم الأدلة على دحض هذا الكذب الفاضح :
١ - المصدر الأول والأساسي لتاريخ الدولة الأيوبية هو " مفرج الكروب في أخبار بني أيوب " لابن واصل ويقع في ستة أجزاء محققة ومطبوعة. وهو أوسع المصادر عن الدولة الأيوبية على الاطلاق ولا يوازيه في تفاصيله عنها كتاب آخر. فقد وُلد ابن واصل سنة 604 هجرية وتوفي سنة 697 هجرية واعتمد في الفترة المتقدمة على المصادر الأصلية لها ، وبعضها مفقود ، وروى ما عاصره كشاهد عيان عاش داخل حدود هذه الدولة وتنقل بين أرجائها ، وله علاقات واسعة مع ملوكها وقادتها ورجالها ، وانفرد بمعلومات وتفاصيل لاتجدونها في كتاب آخر. كما عاصر سقوطها في الشام على يد المغول وعاصر الجزء الاول من حياة دولة المماليك. وكان صديقا ومبعوثا للظاهر بيبرس إلى ملك صقلية منفريد بن فردريك الثاني.
وهذا الكتاب لم يعتمده الشنقيطي البتة. ولا يوجد في هذا الكتاب ما يؤيد هذا الزعم الكذوب الذي قاله الشنقيطي.
٢ - مؤرخ من البيت الأيوبي نفسه هو محمد بن عبد الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ، الميت سنة 617 هجرية. وكتابه في عشرة مجلدات معظمها مفقود وعنوانه : " مضمار الحقائق وسر الخلائق ". ولكن بقي منه جزء عن جهاد صلاح الدين ضد الصليبيين. ولا تجدون في هذا الجزء اي شيء عن التحالف الذي زعمه الشنقيطي بين صلاح الدين الشيعة الإمامية . وهذا المصدر المهم لم يره الشنقيطي ولم يستخدمه.
٣ - التاريخ المنصوري ؛ ومؤلفه محمد بن نظيف الحموي الميت بعد سنة 631 هجرية. وقد كان ابن نظيف كاتبا للملك الحافظ ارسلان شاة بن العادل بن أيوب حاكم قلعة جعبر على نهر الفرات . ثم عمل في خدمة المنصور بن المجاهد شيركوه بن أسد الدين شيركوه ، حاكم حمص. وله كتاب في التاريخ مطبوع سماه بإسم ملك حمص المنصور " التاريخ المنصوري ". وانفرد هذا المصدر بمعلومات نادرة عن العلاقات بين ابناء صلاح الدين ، والعلاقات بين بني أيوب مع القوى الاخرى - الإسلامية وغير الإسلامية. ولا تجدون في هذا الكتاب مايشير إلى زعم الشنقيطي الذي لم ير هذا الكتاب أو يستخدمه.
٤ - سبط بن الجوزي وكتابه مرآة الزمان في تاريخ الأعيان. وقد عاصر السبط معظم العصر الأوبي وكان صديقا للملك المعظم عيسى بن العادل بن أيوب . وروى الكثير من الحوادث كشاهد عيان. ولم يذكر شيئا عن زعم الشنقيطي - الكذوب - بالتحالف الإمامي الأيوبي. وهذا الكتاب لم يستخدمه الشنقيطي البتة.
٥ - التاريخ المظفري ، لابن ابي الدم الحموي الذي وُلد سنة 583 هجرية ، وتوفي سنة 642 هجرية. وكتابه هذا أهداه إلى ملك حماة المظفر وسمّاه بإسمه. وروى كثير من الحوادث كشاهد عيان. وهذه المصدر المهم لم يعتمده الشنقيطي وليس فيه البتة ما يؤيد كذبه.
٦ - رسالة كاتب هذا النقد للدكتوراه كانت بعنوان " بلاد الشام قبيل الغزو المغولي". من سنة 589 هجرية ، تاريخ وفاة صلاح الدين ، حتى وصول جحافل المغول إلى حدود الشام سنة 657 هجرية.
وما تركتُ مصدرا إلا ورجعتُ إليه واستفدت منه . ولم أجد شيئا يتعلق بزعم الشنقيطي الكذوب. بل لم أجد حتى كلمة الشيعة الإمامية ، ولا مرادفاتها ، مثل الأثني عشرية ، والجعفرية.
وقد بحثت أولا حرب الوراثة الأيوبية بين أبناء صلاح الدين ، والتي انغمس فيها بعض أقاربه : أسباب تلك الحرب ، وحوادثها ، وتطوراتها ، ونتائجها. ولم أجد كلمة إمامية رغم حاجة كل واحد من أولئك المتنازعين إلى اي حليف يشد من أزره ويقف إلى جانبه.
كما عالجتُ في الرسالة الممالك الأيوبية في بلاد الشام ، مثل ، مملكة حلب - التي زعم الشنقيطي أن غالبية أهلها إمامية - ، ومملكة دمشق ، ومملكتي حماة وحمص ، وغيرها. ولم أجد ذكرا للإمامية او مرادفاتها. علماُ اني وجدت معلومات مهمة عن الباطنية الإسماعيلية مذكورة في مواقعها. وليس فيها شيء عن حلف اسماعيلي أيوبي - وهذه من مزاعم الشنقيطي الكاذبة التي سوف نفصلها فيما بعد ونفندها . بل وجدت عن الاسماعيلية ما يفيد بتحالف إسماعيلي صليبي ضد أحد ملوك بني أيوب.
عالجت في الرسالة العلاقات بين أبناء العادل الأيوبي : اتفاقهم ، ثم تنافسهم وتنازعهم ، وتحالفاتهم ضد بعضهم البعض مع قوى إسلامية وغير إسلامية. وليس في تلك التحالفات أي ذكر للإمامية ومرادفاتها.
كما عالجتُ في الرسالة ، موقف ملوك بني أيوب من الحملات الصليبية ، الرابعة ، والخامسة ، والسادسة ، والسابعة . وليس فيها شيء عن الإمامية ومرادفاتها البتة.
وعالجتُ الحرب الأهلية الشرسة التي اندلعت بين الأيوبيين من سنة 635 حتى انتهت بمعركة غزة الحاسمة سنة 642 هجرية وانحدار بعض الأيوبيين إلى درجة الخيانة العظمى والتحالف مع الصليبيين وتسليمهم بلاد المسلمين مقابل التحالف معهم ، مثل ابي الخيش اسماعيل بن العادل ، الذي كان من حلفائه مملكة حلب الايوبية ، ضد الصالح أيوب ملك مصر. ولو كان هناك عدد من الإمامية يُعتمد عليه لاتجه أبو الخيش إليهم.
كما عالجتُ في الرسالة علاقات الأيوبيين الخارجية مع القوى الإسلامية وغير الإسلامية بالتفصيل. وليس في ذلك ذكر للإمامية ومرادفاتها.
وقد انجزت تلك الرسالة قبل 36 سنة في جامعة أم القرى بمكة ، وهي مطبوعة وموجودة في موقعي. ويمكن قراءتها وتحميلها.
وقد غردت برابطها في تويتر عدة مرات.
فكل ما فعله الشنقيطي في كتابه هذ هو الكذب ثم الكذب ثم الكذب ، كي يُوجِد شرعية تاريخية لنظام مجوس قم. ولن ينجح في ذلك البتة لأن تاريخ الحروب الصليبية ، وتاريخ صلاح الدين وتاريخ الدولة الأيوبية مكتوب في مصادره الأصلية وفي الدراسات العلمية الحديثة الجادة التي لا تدخل تحت حصر.
قناة حركة التاريخ
للأستاذ : الدكتور / علي محمد عودة الغامدي