بين العدو الظاهر والباطن ... وفلسفة الهروب

بواسطة منذر النابلسي مشرف موقع الحقيقة قراءة 3044
بين العدو الظاهر والباطن ... وفلسفة الهروب
بين العدو الظاهر والباطن ... وفلسفة الهروب

لعل أبرز ما يميز أهل السنة أنهم ينطلقون في أحكامهم من أصول ثابتة، ويقفون دائماً على أرضية صُلبة تجعل العقيدة هي الحَكم والمحور الذي تدور عليه أحكامهم ونظرتهم للأمور والمآلات، وهذا الذي جعلهم على مر الأيام والدهور لا يتغيرون ولا يتبدلون، فكانوا الحصن الحصين الذي حمى حوزة الدين، وذب عنه كيد الكائدين، وفضح كل من أراد بهذه الأمة سوءاً أو مكيدة.

وهم في جهادهم هذا - من حماية الدين ومواجهة أعدائه – يتحركون في خطوط متوازية لا تفرق بين عدو وآخر، بل يتصدون للعدو الظاهر ويقارعونه بالسنان والبنان، ولا يغفلون – في نفس الوقت - عن العدو الباطن، بل يلقمونه الحجة والبرهان، وإذا ما تجاوز حدود الشرع كانت سياط الحق منهم تقرعه من كل صوب وفي كل آن ... فهم في جهاد دائم لا يهدأ ولا يفتر حتى يقيموا علم الدين ويجعلوا راية السنة نقية عليّة.

وهم لا يخافون في الله لومة لائم، فيتكلمون بما يرون أنه الحق وما يُسقط عن كاهلهم إثم النصح والبيان لأمتهم، ويقيم الحجة ويكشف الغمة، كل ذلك بما تقتضيه الحكمة وتتحقق به المصلحة وتُدرأ به المفسدة، مسترشدين بالعلماء الربانيين والدعاة المخلصين وأهل الغيرة والنخوة من أبناء هذه الأمة.

هذا النهج لا يعجب البعض، ممن تربوا بعيداً عن مدرسة الإيمان والعقيدة، والذين لا تتعدى نظرتهم واقعهم الذي يعيشوه، فهم لا يستفيدون من التاريخ، ولا يقدرون على استشراف المستقبل!! ولذا تراهم متخبطين في مواقفهم فتارة ناحية اليمين، وأخرى ناحية الشمال ... أتباع كل من يحسن الخطابة والبيان وتحسين الكلام!! قلوبهم تبع لأهوائهم، ونفوسهم معلقة بعواطفهم، فكل من يحسن استثارتها واستمالتها فهو البطل الهُمام، والمنقذ المنتظر لهذه الأمة!! وإن كان ما كان ...!! فقدان للنهج السوي والطريق القويم، وبوصلة لا ترى إلا من يدغدغ عواطفها ويحرك مشاعرها.

هم أكثر الناس حديثاً في السياسة، وشغفاً بالتحليل والتأويل!! وكل هذا بعيداً عن نور الهداية، ولذا تاهت سفنهم في بحر التعلق والأوهام، فكلما هبّ صائح نحو التحرير ولوا وجوههم نحوه، وأنزلوه في منزلة القدسية والطهارة، وإن الشيطان الأكبر في صورة الناسك!! ولذلك تراهم يرمون أهل الحق والسنة بكل نبل معهم لأنهم خالفوهم في عواطفهم وصياحهم ... فتارة لا يفهمون ولا يحسنون تقدير الأمور ... وتارة هم خدم للمشروع الصهيوأمريكي في المنطقة أو يساهمون في تحقيقه أو هم أبواق لأنظمة وزعامات وأحزاب تأكل من فتات الموائد...!! يتحقق فيهم مقولة (رمتني بدائها وانسلت).

وكأنهم هم الوحيدون الذين يحسنون قراءة الأحداث، وتفسير المخططات ... زعموا !!

لا شك أن أحكامهم هذه إنما جاءت بسبب ضيق نظرتهم وعدم معرفتهم بمنهج أهل السنة وتاريخهم الطويل في مقارعة الباطل والتصدي للأعداء الظاهرين منهم والباطنيين، ولو أنهم أعطوا لأنفسهم القليل من الوقت في النظر والتثبت لتيقنوا أن أهل السنة ماضون في نهجهم وعملهم على مر الأزمان والعصور بثبات ويقين.

ولنا أن نتساءل: هل كان لأحد غيرهم – بعد توفيق الله وتأييده – من دور رائد في حماية حوزة الدين والذب عنه ومواجهة أعداء الدين من اليهود والصليبيين وغيرهم من الكفار، وفي مقارعة أهل النفاق والضلال والبدع والشرك من الفرق الباطنية ؟! ... وهذا على مر الأزمان والعصور لم ينقطع وهو شامة في جبينهم الطاهر، وكذلك التاريخ المعاصر شاهد على فضلهم وجهادهم وعملهم المتواصل وهذا من فضل الله عليهم.

ولنا أن نضرب بعض الأمثلة السريعة والإشارات لعلها تنبه الغافل أو الجاهل ... فهذا الصديق أبا بكر رضي الله عنه أصر على قتال المرتدين ومانعي الزكاة على الرغم من تربص الروم بالدولة الإسلامية آنذاك، ولم يمنعه مواجهة هؤلاء من وأد الفتنة الداخلية وقمعها لتستقر الدولة وتنتظم. وهذا الإمام علي رضي الله عنه على الرغم بانشغاله بقتال مخالفيه، لم يمنعه ذلك من قتال الخوارج، ووأد فتنة عبد الله بن سبأ، ذلك أن نقاء الصف الداخلي وبقاءه متماسكاً أهم من الاجتماع مع مثل هؤلاء، لأنهم يشكلون الخنجر الذي سيطعن في خاصرته ويهدم كيان الأمة.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يمنعه استنفار الأمة لمواجهة التتار، من مواجهة أهل البدع المكفرة والفرق الباطنية بالحجة والبرهان وإقامة البينة ورد الشبهة ومقارعتهم ومناظرتهم في كل ميدان، وكتابه (منهاج السنة النبوية) خير شاهد على ذلك. وكذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله (وكلنا نتغنى بسيرته) فلقد كان يواجه أعظم حملات الأرض على الديار الإسلامية، وكان الصليبيون قد احتلوا الكثير من بلاد المسلمين، وأحكموا السيطرة على بيت المقدس، فما كان منه إلا أن شمر عن ساعد الجد لمواجهتهم، ولكن قبل ذلك طهر البلاد المصرية والشامية من العبيديين الرافضة والحشاشين الغلاة، وجمع الصف الداخلي ثم تفرغ لحرب الصليبيين فكان له ما أراد من تحرير البلاد والمسجد الأقصى من دنسهم، ولم يمنعه شدة حصار الصليبيين وقوتهم من تطهير ديار المسلمين من هذا العدو الباطني الذي كان العضد والساعد لأعداء الله (وما أشبه اليوم بالبارحة!!).

نقول هذا بعد أن علا صوت الرافضة الصفويين وأتباعهم في هذا الوقت، وأصبحوا لا يرقبون في مسلم إلاً ولا ذمة، وأصبحوا يعلنون باطلهم بكل صراحة – بعد أن كانوا يخفون كثيراً منه في سراديبهم وحجرهم – وظنوا أنهم يحسنون صنعاً!! بعد أن حققوا مكاسب ظنوها الغنيمة الكبرى بمساعدة أعداء الأمة – الذين لا ينازع منازع في عداوتهم – وقد حملتهم دباباتهم ومجنزراتهم على صفيح متهلل لأهل الإسلام ... فظنوا أنه العز والتمكين وبداية لعلوهم وظهورهم، فشيدوا الأساطير وأعلنوا عما في باطنهم. قال تعالى: "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر".

ولسنا نذهب بعيداً حينما نستعرض التاريخ المعاصر وكيف ضرب الصفويون عمق الخلافة العثمانية في صميمها وهي على أبواب روما، حينما كادت أن تسقط بأيديها، فكانوا المعول الذي ساهم في انحسار تقدم جيوش المسلمين نحو أوروبا ... ولك أن تمر سريعاً على قيام الثورة الإيرانية الصفوية وكيف جاءت بتمهيد غربي فاضح ومكشوف، فكان أجل القربات التي قدمتها أن بدأت بتصفية أهل السنة في نواحي إيران، ثم بدأت بتصدير ثورتها في الدول الإسلامية بالتفجير والاغتيال، وفي حين كانت أبواقها تلعن أمريكا وإسرائيل، وإذا بها منغمسة في فضائح من الاتفاقات شهد بها القاصي والداني، ثم كانت المبادرة لاجتياح الدول السنية من بوابتها الشرقية (العراق)، والآن تصول وتجول بها هنا وهناك، بعدما أن دخلتها على الدبابة الأمريكية التي تلعنها وتسبها ليل نهار!! وكان أول القرابين والفداء هم أهل السنة، أما أفغانستان فليس لها إلا البواكي ولا حول ولا قوة إلا بالله ... ولماذا نذهب بعيداً نحن الفلسطينيون، ألم يباركوا ذبحنا في العراق، ويقدمونا قرابين لأسيادهم، وقبل هذا ألم نكن النحر المفضل لهم في لبنان في صبرا وشاتيلا كهدايا وقربى لكل من يكره هذا الشعب الأبي وعلى رأسهم يهود!! وقد جاءت مذكرات شارون لتؤكد ذلك وتصدقه.

إن هذا الظهور الذي حققوه بسهولة ويسر بسبب أن أهل السنة ما فتئوا يتعرضون في كل لحظة لمؤامرات تردهم عن التمسك بدينهم أو التعلق بعقيدتهم، وأضحوا تجمعهم الغانية والهتافات، وتفرقهم مصالحهم وأهوائهم، ولم يعودوا يفرقون بين العدو والصديق.

ولما كانت هذه الأمة لا تموت، ولا يزال رب العزة يبعث فيها من يجدد لها دينها ويحي مواتها ورقدتها، كان الغيورين من أهل السنة وحملة العقيدة لا يتركون البيان والقيام بأمر الدين لصد الأعداء ومنع انتشار الشر أو استفحاله، فهذا ديدنهم منذ أن وجد كيانهم، ولكن كثيراً من الناس لا يعلمون.

وليس قومتهم ونفرتهم الآن من قبيل رد الفعل أو لتحقيق رغبات مرسومة، وإنما بسبب انخداع كثير من أمة الإسلام بباطل هؤلاء لما يحسنونه من الصياح والهتاف والتهديد!! وهم ما فتئوا يحذرون ويبينون... ولو اقتصر عملهم على هذا لكان هناك حجة لمن أراد أن يحتج، ولكنهم – ولله الحمد – ما زالوا يقارعون الأعداء في كل ميدان يفتح أمامهم، وبكل ما أوتوا من وسائل وأدوات، وعملهم دؤوب لم ينقطع في كل ناحية وصوب. وما بركات الصحوة التي تعيشها الأمة وعودة جذوة الدين إلى النفوس إلا دليلاً على هذه الجهود المتواصلة.

ولكن لما كان العدو الظاهر لا يحتاج إلى كثير بيان، كان لزاماً على كل غيور أن يشحذ الهمة نحو العدو الباطن الخفي ليزيل اللبس ويوضح الحق، وحتى يزيل الغبش عن أعين كل من انخدع به ممن يغار على هذه الأمة ويعيش آهاتها وأحزانها، وخصوصاً أن هذا العدو الباطن أضحى أداة فاعلة في ضرب الأمة في صميم عقيدتها، أو نحرها إرضاءً لأسياده من العدو الخارجي.

والعجيب أن ينهض البعض من هنا وهناك ويعتبرون أن الخلاف معهم إنما هو خلاف بالفروع أو لا يعدو أن يكون خلافاً فقهياً!! ولا ندري أهو الميل عن الحق أو الجهل به؟ فكيف يكون الخلاف في الفروع مع من يطعن في كتاب الله؟ وكيف يكون الخلاف بسيطاً وهم يكفرون صحابة رسول الله رضوان الله عليهم ويلعنونهم، ويقدحون في أمهات المؤمنين الأطهار ويطعنون في أعراضهن؟ كيف لنا أن نعد الخلاف فقهياً وهم قد جعلوا لأئمتهم من المكانة ما تفوق الأنبياء، وأعطوهم العصمة المطلقة في التشريع والحكم!! وأقاموا دينهم على الشرك بكل صوره من الطواف بالقبور والتمسح بها والاستغاثة والتوسل بغير الله ....الخ، وخالفوا أهل السنة في كل أنواع العبادة والولاية!! ولا ندري هل أصبح الدفاع عن أصول الدين وعقيدة الأمة وثوابتها نوعٌ من الكلام النظري الذي لا يفيد!! أو نوع من النقاشات العقيمة والفلسفات الباهتة!! إن قوم هذا منطقهم في تقييم هؤلاء الناس لا يعلمون أصول الدين فضلاً عن فروعه، ولا عجب فقد أصبحنا نعيش في زمان كل من يملك فيه القلم يتصدر في أمر الأمة ومصيرها!!

وإن أهل السنة لم يسعوا في أي وقت من الأوقات للمواجهة ولتأجيج نار الطائفية والفتنة، ومع ذلك فهم ليسوا أغبياء لحد الثمالة، فإن عين البصير لا يمكن أن تخطئ ما يحاك ضدها من جميع الأعداء، ولذلك كانت صيحات النذير والتحذير بعد أن تجاوز الأمر حده، وصار لا بد من البيان حتى لا يؤخذنا الطوفان بين سندان الضلال والتشكيك في الدين والطعن في ثوابته أو مطرقة النحر والإبادة، كل ذلك تحت عباءة المستعمر القديم الجديد، والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين.

فكتائب المجاهدين تضرب العدو في كل مكان تستطيع الوصول فيه إليه، وتستنزف قوته وأمنه، والعلماء والدعاة يقومون بواجبهم بالنصيحة والبيان وإقامة الحجة لحفظ الدين وصون العقيدة، ومن أن يتسلل العدو الباطني إلى الصف فيمزقه، أو يطعنه في مقتل... إنه العمل للدين من كل جوانبه وبخطوط متوازية، تعلو الوتيرة في جانب أحياناً وتخبو أحياناً تبعاً للمصلحة والمفسدة، ولا يصرف هذا عن هذا، وكل في خندقه ويحمي ثغره، ونظن أن هذا المفهوم ما زال لا يستوعبه كثير من المخدوعين أو الذين لا يرون إلا بعين واحدة ... أو من يزعجهم أو يقلقهم ظهور أهل السنة وعلوهم!! نسأل الله أن لا يكثرهم.

ونحن من هذا المنبر نناشد كل غيور من أبناء أمتنا أن ينطلق معنا لأداء مهمتنا في حماية العقيدة وصيانتها وتنقيتها من كل شائبة، والذب عن حمى الدين وثوابته وأهله من الصحابة الأطهار وآل البيت الكرام وأمهات المؤمنين المصونات الطاهرات رضوان الله عليهم جميعاً، وتعرية للباطل في كافة أشكاله وصوره، ونرحب بكل جهد بناء في هذا الطريق ونمد أيدينا نحوه لنكون السد المنيع الذي يرد الشر ويحافظ على نقاء العقيدة وجلال الدين.

ولنكن على يقين أن الباطل مهما علا وانتفش فإنما هو مرحلة تسير وفق سنن الله التي لا تتبدل ولا تغير والعاقبة لأهل الحق وأتباع السنة يقيناً وتصديقاً لموعود الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

منذر النابلسي

عفا الله عنه وغفر له

مشرف موقع الحقيقة

لجنة الدفاع عن عقيدة أهل السنة - فلسطين



مقالات ذات صلة