الأحد 13 من شعبان1431هـ 25-7-2010م
شريف عبد العزيز
بينما تتصاعد وتيرة الحرب الكلامية بين مقتدى الصدر زعيم جيش المهدي وقيس الخزعلي زعيم جيش عصائب الحق بالعراق مما ينذر بحرب شوارع بين الفريقين تتداعى إلينا من ذاكرة التاريخ مشاهد ومواقف لابد من استرجاعها ...
من ذاكرة التاريخ ..
تعتبر سنة 334 هجرية من السنوات المفصلية في مسيرة الأمة الإسلامية ، ذلك لأنه في تلك السنة تمكنت القوي الشيعية ممثلة في أمراء بني بويه من السيطرة علي مقاليد الخلافة السنية العباسية في العراق لأول مرة ، وكان وصول الشيعة لكرسي السلطة والحكم نذيرا بانتشار الفوضى والخراب في العراق وما حوله ، إذ عمل أمراء البيت البويهي علي تقاسم بلاد الإسلام فيما بينهم ، لينتهب كل واحد منهم خيرات الأقاليم التي وقعت تحت يديه ، وفتح المجال للجهر بالعقائد الشيعية الضالة ، وكتب سب الصحابة علي جدران المساجد ، فاندلعت الحرب الطائفية العنيفة والدموية بين الأقلية الشيعية التي استقوت بسلطان بني بويه إخوانهم في الرفض والتشيع ، وبين الأغلبية السنية التي أبت أن تسمع وتري عقائد الشيعة الخرافية الضالة وهي تنال من الدين الإسلامي .
ومن الأمور اللافتة خلال تلك الفترة المشئومة من حياة الأمة الإسلامية ، أن أمراء الشيعة لم يكتفوا فقط بقتال المسلمين السنة والجهر بالبدع والضلالات ، بل تقاتلوا فيما بينهم على الملك والسيطرة علي الأقاليم الغنية بثرواتها وخراجها ، حتى عم الخراب والدمار بلاد العراق وفارس وغرب خراسان من جراء ذلك الصراع الشيعي المقيت ، ففي سنة 364 هجرية استولي عضد الدولة البويهي علي العراق وقبض علي ابن عمه بختيار ، ثم أطلقه بعد توسط أبيه ركن الدولة ، ثم عاد فحاربه سنة 367 وأسره ثم قتله شر قتلة ، واستولي علي حكم العراق ، ثم حارب عضد الدولة أخاه فخر الدولة سنة 369 وأخذ منه بلاد الري ، وفي سنة 376 تقاتل شرف الدولة مع أخيه صمصام الدولة واخذ منه بلاده وسمل عينيه ، ومع ذلك ظل صمصام الدولة في ملكه بعد موت أخيه ، وانقلب حربا علي باقي فروع البيت البويهي حتى أباد معظمهم ، ولكن بعد أن خربت بلاد العراق التي كانت جنة الأرض قبل أن يصلها الحكم الشيعي علي يد البويهيين .
من هم العصائب ؟
العصائب هي حركة كما تفصح عن نفسها بأنها مقاومة للاحتلال الأجنبي للعراق الذي بدأ في إبريل عام 2003 ومؤسسها هو الشيخ قيس الخزعلي مع عدد من رجال وأتباع "الحوزة العلمية الناطقة" التي يقال إنها قد تصدت للمحتل وقد بدأت هذه الحركة بالعمل كمجاميع سرية عام 2004 ، والحركة تستمد منهجها ومبادئها من فكر المرجع الديني الشيعي محمد صادق الصدر الذي اغتيل في زمن الحكم السابق له عام 1999، وأعضاؤها هم النخبة من "جيش الإمام المهدي" الذي تأسس كتيار شعبي عقائدي رافض للاحتلال,وتصف العصائب نفسها بأنها من ((المقاومة الإسلامية الشيعية)) في العراق, وان لها أجنحة عسكرية, هي (( كتائب الإمام علي, وكتائب الإمام الكاظم , وكتائب الإمام الهادي , وكتائب الإمام العسكري))
الأساس في ظهور هذا التيار الشيعي الغالي في تشييعه كما يصفه أتباع مقتدي الصدر أنفسهم ، كان الخلاف بين مقتدي الصدر ، وقيس الخزعلي الذي كان يشغل منصب المتحدث الرسمي باسم التيار الصدري ، فقد تباعدا منذ عام 2004 بعد معارك النجف وبغداد بين القوات الأميركية والعراقية من جهة، وجيش المهدي من جهة أخرى وبسبب وقف العمليات العسكرية من قبل مقتدى الصدر عام 2004، فانشق عنه قيس الخزعلي ، ليعلن بعد ذلك تأسيس عصائب أهل الحق مع عدد من قادة جيش المهدي من بينهم أكرم الكعبي وليث الخزعلي وحسن سالم ، وقد قرر الخزعلي أن يستغل حالة الخلاف الواسع بين مقتدي الصدر ونوري المالكي ، فدخل في حلف المالكي ، وأصبحت مليشيا الخزعلي عصا المالكي الغليظة التي يؤدب بها كل من يخالفه ، وقد سلطها في حرب شوارع عنيفة ضد الأحياء السنية ببغداد ، تحت ستار فرض الأمن والنظام ، كما استخدمها المالكي أيضا في لعبة الموازنات مع الأمريكان والانجليز ، من أجل تخفيف الضغوط الخارجية عليه ، والتي أخذت في التصاعد بداية من سنة 2007 ، بسبب الفساد واسع النطاق الذي ضرب أجهزة حكومة المالكي ، وحمامات الدم التي لا تنقطع في شتى أنحاء العراق ، فقد كلف المالكي مليشيا العصائب بالقيام بعدة عمليات عسكرية ضد القوات الأميركية والبريطانية ونجحت العصائب في خطف وقتل أميركيين في عملية نوعية في كربلاء مطلع عام 2007 ، بدعم قوي من أجهزة المالكي الأمنية ، وهي العملية التي جعلت القوات الأميركية والبريطانية تسارع إلى إلقاء القبض على الخزعلي وعدد من قادة العصائب في البصرة من العام نفسه ، ليستغل المالكي هذه الفرصة أيما استغلال ، وبالتنسيق بين مخابراته وكوادر العصائب ، وفي سيارات رسمية تقوم مجموعة من العصائب بخطف الخبير البريطاني "بيتر مور" وأربعة من حراسه الانجليز في 29 مايو من عام 2007 ولقد كشف بعد ذلك أن السبب وراء اختطاف هذا الخبير من داخل مبنى وزارة المالية، كان لإخفاء معلومات تتعلق بحالات فساد مالي في وزارة المالية تورط فيها مسئولون عراقيون على ما يبدو، ذلك أن الخبراء البريطانيين كانوا على وشك إتمام برامج حاسوبية تشرف على التعاملات المالية وتكشف حجم التلاعب والسرقات والاختلاسات, وهذا ما تؤكده صحيفة الجارديان البريطانية، إذ أنها تعد العملية من التنظيم بدرجة "لا تستطيع سوى حكومة القيام بها"، بحسب الصحيفة.
وقد اعترف مستشار الأمن القومي السابق موفق الربيعي بأن: (سبب اختطاف مور، له علاقة بوضع برنامج مالي يقوض من حجم الفساد في وزارة المالية).
العلاقة بين هذه المليشيا وبين إيران علاقة قوية ومتينة شأنها في ذلك شأن سائر الجماعات الشيعية المسلحة في العالم الإسلامي، ولقد تولي حزب الله اللبناني تدريب كوادر العصائب علي حرب الشوارع ، وإعداد الأمكنة ، ومهاجمة الأحياء المدنية ، والأهداف العسكرية علي حد السواء ، وتدفق المال والسلاح الإيراني علي الخزعلي ورفاقه ، وبمساعدة إيرانية تقنية قامت المليشيا الوليدة بإنشاء مواقع إلكترونية علي شبكة المعلومات ، تولت مسألة الدعاية المكثفة للمليشيا ، وذلك بالزور والباطل ، بإدخال بعض التعديلات علي عمليات المقاومة الإسلامية السنية بالعراق ، ثم نسبتها للمليشيا ، وتولت بعض الفضائيات العربية الإيرانية مثل المنار والكوثر وغيرهما الترويج لهذه العمليات المزورة ، والتأكيد علي أن الاحتلال الأمريكي لا يخشي في العراق إلا من مليشيا العصائب ، و علي الرغم من ذلك ظل اسم هذه المليشيا مجهولا لكثير من العراقيين فضلا عن غيرهم.
متى بدأ الصراع ولماذا ؟
ظل الخلاف بين مقتدي الصدر والخزعلي مكتوما ، حبيس الصدور ، إيثارا للمصلحة الشيعية العليا ، واستمرارا في منهجية التمكين لإيران في العراق ، حتى سنة 2009 ، حتى انفجر الخلاف بين الصدر والخزعلي بعد أن تفاوض الخزعلي من خلال وسطاء عراقيين حكوميين في سجنه على إطلاق سراح أكبر عدد من معتقلي جيش المهدي والعصائب مقابل الإفراج عن الرهائن البريطانيين ، فلم تعجب هذه المفاوضات الصدر وشعر أن الخزعلي يسحب البساط من تحت أقدامه ، فأفتي بحرمة خطف الأجانب والتفاوض مع الاحتلال وفق بياناته، حتى لو كان لأجل إطلاق سراح معتقلين، فأفتي بفسق كل من يفاوض في السجن ومن يخرج من السجن وفق تلك المفاوضات، ويقصد بذلك الخزعلي ورفاقه ، فخرج عن طوق الصدر من خرج من قادة سابقين وانضموا إلى الخزعلي الذي حصد شعبية كبيرة في مدينة الصدر شرق بغداد المعقل الأكبر لمقتدى الصدر بسبب الاحتفالات الشعبية بإطلاق سراح المعتقلين فتحولت صور الخزعلي مكان صور الصدر الذي امتلأ قلبه غيظا وحنقا علي الخزعلي .
وقد انتظر الصدر زيارة الخزعلي لإيران بعد إطلاق سراحه مطلع العام الحالي ليسلم الصدر القيادة ويعلن عودة العصائب لحضن جيش المهدي المجمد بأمر من الصدر، لكن الخزعلي كان ندا له منتشيا بالشعبية التي يحصدها في بغداد ومحافظات الجنوب. فما كان من الصدر إلا إصدار بيانات تتبرأ من العصائب بل وحملهم الحرب الطائفية التي حدثت في العراق عام 2006 و2007. ونصح أتباعه بالابتعاد عن "الإثم الذي يتولد بمصاحبتهم ، ثم تلقي الصدر ضربة آخري من الخزعلي أطارت صوابه ، إذ أعلن عبد الهادي الدراجي المتحدث الرسمي باسم التيار الصدري ، وأحد أهم وأخطر كوادره ، انشقاقه علي الصدر وانضمامه للخزعلي ، فما كان من أتباع الصدر إلا تسيير تظاهرة كبيرة في مدينة الصدر في مارس من سنة 2010 تندد بالدراجي الذي وصفه أحد الهتافات بعميل الأميركيين.
لم يقف الصدر مكتوف الأيدي تجاه تنامي شعبية الخزعلي، إذ عمد إلي شق صف مليشيا العصائب ، ومول تيارًا معارضًا للخزعلي أطلق علي نفسه " اليوم الموعود " الذي يرسل تهديدات متواصلة للخزعلي وقادة العصائب بالقتل والدمار إذا لم يتوبوا ويعودوا إلي التيار الصدري ، في حين يصف أتباع الصدر الخزعلي بالخارجي وأتباعه بالخوارج الذين لا تجوز صداقتهم حتى وفق آخر بيان من الصدر، ويرون أي خروج عن قيادة مقتدى الصدر الذي يرونه كوريث آل الصدر أشبه بالخروج عن الدين، وبالطبع هذا أمر يتماشي مع العقلية الدينية الشيعية التي تميل لتقديس الأشخاص وتعظيمهم ، وهو أمر موروث منذ أيام أجدادهم الأوائل - الأكاسرة والفرس المجوس -.
صراع الفئران
وصل الخلاف بين الصدر والخزعلي مبلغا يشير بقوة للوصول إلى المواجهة المسلحة ، والاحتكام لحرب الشوارع ، بعد تشبيه أتباع قيس الخزعلي بأتباع معاوية بن أبي سفيان وفق أحد بيانات الصدر مؤخراً. وهو تشبيه يبين مدى الهوة الكبيرة بين الصدر والخزعلي ، وأن الصدر قد حكم بتكفير الخزعلي ورفاقه ، ثم إن خشية الصدام تقترب، ما لم يتم تداركها، مع اقتراب الزيارة المليونية التي يقوم بها شيعة العراق مشيا على الأقدام نحو مدينة كربلاء ، بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الثاني عشر للشيعة المهدي المنتظر حسب معتقدات دين الشيعة الوضعي ، مما ينذر بصدامات وشيكة بين الفريقين ، في ظل محاولة كل فريق الاستئثار بالسيادة والسيطرة علي بغداد ومحافظات الجنوب .
العجيب في هذا الصراع أن كلا من الصدر والخزعلي مقيم بمدينة قم الإيرانية منذ فترة ، الصدر منذ عدة سنوات ، والخزعلي منذ الإفراج عنه في أوائل السنة الحالية ، حيث تقوم إيران بتوجيه كلا الرجلين الصغيرين في تحقيق أهدافها داخل العراق ، باستخدامهما كأداة ضغط علي الساسة العراقيين ، لذلك لم يكن مستغربا أن يلتقي نوري المالكي بالخزعلي خلال زيارته لإيران منذ عدة أسابيع ، وبعدها مباشرة يلتقي الصدر مع إياد علاوي ــ عدوه اللدود السابق ــ منذ أحداث النجف سنة 2004 ، وهي المقابلات التي وصفها المراقبون أنها من قبيل ملاعبة إيران لكل أطراف المشهد السياسي العراقي ، والإمساك بكل خيوط اللعبة الانتخابية في بلد لم يعرف الاستقرار والأمان منذ دخول الاحتلال إلي أراضيه .
فئران قم القابعين في جحور حوزتها العلمية بدعوى تلقي العلم ونيل الدرجات المتقدمة فيه ، قد انقلبوا في صراع محموم علي زعامة الشارع الشيعي في العراق ، في ظل سذاجة وعدم أهلية عمار الحكيم رئيس الائتلاف الشيعي في العراق ، فالصدر يستعد للعودة للنجف من مقر إقامته في قم في إيران بحماية رسمية وموافقة أميركية ، فيما يبقى الخزعلي حذرا من العودة مواصلا مفاوضاته من قم أيضاً عبر وساطات عراقية مع الجانبين البريطاني والأمريكي لضمان سلامته وأمنه كما هو الحال مع الصدر ، والمتوقع أن يحصل علي هذه الضمانات ، و ذلك بضغوط متواصلة من المالكي الذي سيجعل من العصائب السوط الذي يضرب به خصومه السياسيين ، بالاغتيال تارة وبالخطف تارة آخري ، وذلك بغض النظر عن الطائفة والدين والتوجه السياسي ، ليبقي العراق في النهاية أسيرا للفوضى والصراع المقيت بين فئران إيران الذين استقوا في بلاد الخراب ، حتى صدقوا أنفسهم بأنهم زعامات ورجال .