9-7-2013
بعيد معركة القصير مباشرة، تحدثت وسائل إعلام النظام، وتلك المحسوبة عليها والمقرّبة منها، بكثافة، عن "عاصفة الشمال"، وعن حشود وتعزيزات عسكرية ضخمة للنظام، بغية حسم معركة حلب، وخاصة في ريف حلب الشمالي، لكن يبدو أن النظام أراد تضليل خصومه من الثائرين والكتائب العسكرية، فحرب الشمال بقيت أقل شراسة مما كان متوقعاً، ويتضح اليوم لبعض المراقبين أن النظام كان يحشد لمعركة أخرى، أكثر مصيرية بالنسبة له، وكان يريد لفت الأنظار عن التحضيرات الجارية لها.
معركة حمص المدينة، هي الوجهة الحقيقية لاستراتيجية النظام العسكرية، فبعد حسم معركة القصير، وتعزيز سيطرته القائمة بالفعل في تلكلخ، يسعى النظام للتخلص من باقي مواقع المعارضة في قلب حمص المدينة، استكمالاً لمخططه بالسيطرة المطلقة على كامل محافظة حمص، التي تعني للنظام الكثير، استراتيجياً ولوجستياً واقتصادياً، ودون شك، طائفياً.
في مطلع شهر آذار المنصرم، نشرت "اقتصاد" على جزئين، تفاصيل سيناريوهات "الدويلة العلوية المتخيّلة"، وقدّمت حينها سلسلة أدلة علمية تثبت أن هذه الدويلة ستكون ضعيفة اقتصادياً واستراتيجياً وأمنياً، أياً كان السيناريو الذي ستقوم وفقه.
لكن التطورات الميدانية الأخيرة في وسط سوريا تحديداً، بدءاً بمعركة القصير، ومن ثم ما يحدث اليوم في حمص المدينة، يتطلب ربما إعادة فتح هذا الملف من جديد.
مراجعة لسيناريوهي "الدويلة العلوية المتخيّلة"
يتوقع المراقبون أن يتم تنفيذ "الدويلة العلوية المتخيّلة" على أرض الواقع، وفق أحد سيناريوهين، السيناريو الأول: " الدويلة العلوية في أقصى امتداد لها"، والسيناريو الثاني "الدويلة العلوية في نطاقها الضيق".
وكنا في موادنا القديمة تلك قد أوضحنا أن السيناريو الثاني مستبعد، لأن نقاط ضعف "الدويلة العلوية" حينها ستكون كبيرة للغاية، فالدويلة المتخيّلة في اللاذقية وطرطوس، ستكون معزولة ومحاصرة من أغلبية سنيّة معادية لها في العمق السوري، ومن تركيا شمالاً، ومن جيب السنّة شمال لبنان، وستعاني من فقدان ميزات الترانزيت والسياحة، وستفتقد للنفط، أما الغاز المتوقع في الساحل فيتطلب على الأقل خمس سنوات لتبدأ مسيرة استخراجه فعلياً.
وأوضحنا أن السيناريو الأول لـ "الدويلة العلوية المتخيّلة" الذي يشمل محافظتي اللاذقية وطرطوس ومناطق الغالبية العلوية في حمص وحماه غرب العاصي، يجعل للدويلة العلوية ميزات أكبر، لكن بالمقابل، فإن المسلمين السنّة سيشكلون جزءاً كبيراً من الخليط المشكّل لها، يقل عن نسبة العلويين بقليل، مما سيعقّد القدرة على تحقيق الاستقرار لهذه الدويلة الوليدة، خاصة في ظل ما يُتوقع فور نشوئها، من اقتتال سيشتد بين العلويين وبين العمق السنّي المناوئ لهم في مناطق شرق العاصي في حمص وحماه، وفي نقاط الاحتكاك مع إدلب وحلب.
ما الذي استجد بعد معارك النظام وسط سوريا؟
ربما شكّلت معركة القصير نقطة تحول في استراتيجية النظام وداعميه الإقليميين. فتركيز نظام الأسد، ودعم حزب الله الميداني المباشر له، في القصير تحديداً، وإصرار النظام على التخلص من أبرز جيب للمعارضة في حمص وريفها، ينبئ بأن النظام بات يرتب أولوياته بصورة منهجية محددة.
القصير، كما أوضح الكثير من المراقبين، نقطة هامة على طريق إمدادات النظام وخطوط التواصل الخاصة به بين الداخل السوري، وخاصة دمشق وريفها، وبين الساحل السوري، مركز حاضنه الطائفي الرئيس.
لكن الأهم أن القصير هي الموقع الوحيد الذي يقطع التواصل الجغرافي بين مناطق الغالبية العلويّة في الساحل وفي حمص وحماه غرب العاصي، وبين مناطق الغالبية الشيعية في لبنان في الهرمل وبعلبك، ناهيك بطبيعة الحال، عن أن القصير كانت أهم نقطة تواصل جغرافي على طريق الدعم اللوجستي القادم للثوار من شمال لبنان.
توضيح لتفاصيل مخطط الربط الجغرافي
الآن، ينتقل النظام إلى حمص المدينة، ليكمل سيطرته على مساحة جغرافية متواصلة، تمتد من الحدود اللبنانية السورية غرباً بدءاً بالقصير، مروراً بحمص المدينة، ومن ثم إلى البادية شبه الخالية من السكان، وصولاً إلى الحدود السورية العراقية، حيث يتحقق التواصل مع العراق المحكوم بنخبة شيعية موجّهة إيرانياً.
إذاً، وكخلاصة، يبدو أن النظام يركّز اليوم، على تأمين التواصل الجغرافي بين مناطق الغالبية العلوية، في اللاذقية وطرطوس وغرب العاصي في حمص وحماه، وبين مناطق الشيعة في لبنان في الهرمل وبعلبك، ومن ثم شرقاً بعد حمص المدينة عبر البادية إلى الحدود العراقية، حيث السيطرة لشيعة العراق ما تزال طاغية.
أي أن النظام يسعى اليوم لفرض أمرٍ واقعٍ، يغيّر فيه من معادلات المشهد الديموغرافي – الجغرافي في وسط سوريا وشمالها الغربي، بحيث يتلافى نقاط الضعف الخاصة بالدويلة العلوية المتخيّلة، والتي سيكون أبرز نقاط ضعفها، هو العزلة الجغرافية التي ستحيطها ببحر من السنّة المناوئين لها.
أما في حال نشوء الدويلة العلوية المتخيّلة لتشمل كامل محافظة حمص، مع غرب محافظة حماه، ومحافظتي طرطوس واللاذقية، فإنها ستؤمن بذلك التواصل الجغرافي المباشر مع مناطق الشيعة في لبنان، ومع العراق المحكوم شيعياً.
وهكذا لن تبقى هذه الدويلة معزولة ومحاصرة بل ستحظى بخطوط إمداد لوجستي مفتوحة، وستقطع التواصل الجغرافي بين مناوئيها السنّة في الجنوب، في دمشق وريفها ودرعا من جهة، وبين نظرائهم في الشمال، في حلب وإدلب ودير الزور.
وبذلك تكون أضعفت خصومها، وعزّزت تواصلها مع حلفائها الطبيعيين من الشيعة في لبنان وفي العراق، وصولاً إلى إيران.
لكن هل من أدلة تؤشر لذلك المخطط؟
مؤشرات تعزّز القناعة بوجود هذا المخطط
ربما يكون أبرز ما يشير إلى ذلك، تلك التطورات الديمغرافية التي تنشرها التقارير الإعلامية من حين لآخر، عن استبدال سكان مناطق سنيّة مهجّرة بأكملها، ومنها القصير مؤخراً، بسكان علويين، في عملية تطهير طائفي منظمة.
يعزّز من تلك المؤاشرت، ما تحدثت عنه تقارير إعلامية متواترة، عن قيام قوات الأسد بإحراق مبنى السجل العقاري بحمص، بما فيه من سندات ملكيّة، في محاولة على ما يبدو، لطمس إثباتات الملكية للسوريين السنّة، ونقلها بقوة الأمر الواقع إلى العلويين.
ونستشهد في سياق ذلك، بما قاله القيادي في المعارضة السورية، ميشيل كيلو، من أن حمص كانت تضم سابقاً أكثر من 600 ألف سنّي (بعض الإحصائيات ترفع الرقم إلى أكثر من مليون سنّي)، و120 ألف مسيحي، و140 ألف علوي، هجّر كل السنّة والمسيحيين، ولم يهجّر علويّ واحد من حمص، بل بالعكس، جُلب علويون من مناطق أخرى ليسكنوا في غير مناطقهم.
وحتى يكتمل المخطط، لا بد من السيطرة على تلكلخ تماماً، وهو ما تم مؤخراً عبر عملية أمينة سريعة لترويض بضع حارات غير خاضعة لسيطرة النظام في تلكلخ المدينة، وفرض حالة الخضوع المطلق على تلك المنطقة المحاطة ببحر من القرى الموالية للنظام من الطائفة العلوية.
الأنبار...نقطة الضعف الطبيعية الوحيدة في هذا المخطط
ربما تشكّل محافظة الأنبار في العراق، أبرز نقاط الضعف الطبيعية في هذا المخطط، فهذه المنطقة التي هي أكبر إطلالة حدودية للعراق على سوريا، ذات غالبية سنيّة، إذ لا يوجد تواصل جغرافي بين المحافظات الجنوبية في العراق ذات الغالبية الشيعية، وبين الحدود السورية، إلا عبر الأنبار، ذات الغالبية السنيّة.
لكن في المقابل فإن المساحة المتاخمة للحدود السورية العراقية، في محافظة الأنبار، هي منطقة بادية واسعة، خاضعة حتى الساعة، لسيطرة حكومة بغداد، التي يديرها نوري المالكي، وحلفائه من القوى والتيارات الشيعية الموالية لإيران.
ربما يشكّل الحادث الذي تناقلته وسائل الإعلام منتصف الشهر الماضي، من قيام مسلحين مجهولين بتدمير رتل عسكري عراقي متجه صوب سوريا في بادية الأنبار، مؤشراً لإمكانية أن يتحوّل هذا الحاجز الطبيعي- الأنبار- ذو الغالبية السنيّة، إلى أكبر منغصٍ لسيناريو تحقيق تواصل جغرافي آمن بين مناطق العلويين في سوريا، ومناطق الشيعة في لبنان ومن ثم شرقاً في العراق، وصولاً إلى إيران، إذا ما تطورت الاحتجاجات "السنيّة" في العراق، باتجاه ثورة تغيّر من معادلات السيطرة القائمة حالياً في العراق لصالح الشيعة.
لكن هل من أبعاد أخرى لحرب النظام وسط سوريا، غير المخطط المذكور؟
هذا ما ستناقشه "اقتصاد" في حلقات قادمة من سلسلة سنخصّصها لمعالجة أبعاد أخرى لحرب النظام في حمص.
المصدر : موقع الدرر الشامية