ابن جبرين غاب الجسد وبقي الأثر
شريف عبد العزيز
مفكرة الإسلام: لو كانت الأعمار تحسب بأيامها لكانت قصيرة، ولو كانت تحسب بما خلفه صاحبها من مال وعقار وولد لكانت حقيرة، ولو كانت تحسب بما ناله صاحبها من جاه ومناصب لكانت وضيعة، ولكنها تحسب بأثرها وعطاء صاحبها لخدمة الناس، فما العيش إلا عيش الآخرة، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : علم ينتفع به، وصدقة جارية، وولد صالح ينتفع به، فأحمد ضر ب وحبس ومنع وحوصر، وتناوله ثلاثة خلفاء بالضرب والتنكيل، فما زاده ذلك إلا عزة ورفعة وذكراً طيباً ما زال صداه يتردد منذ ألف ومائتين سنة وإلي قيام الساعة، وأبو حنيفة أردوه قاضياً فأبي إلا أن يكون شهيداً خالد الذكر والأثر، ومالك ضربه بالسياط ليكف عن نشر العلم، فعبر علمه البحر وانتشر لأقصي بلاد المغرب، والشافعي وشوا به وسعوا فيه أن يطلب الخلافة، فخرج علمه من اليمن لينير ربوع الأرض كلها، وابن جرير اتهمه الجهلاء والمتعصبة بما ليس فيه ومنعوه من الدرس والعلم، وحاصروه في بيته حتى مات وحيداً، ولم يجدوا من يصلي عليه إلا خدم البيت، ودفن في صحن بيته، فأصبح إمام المفسرين والمؤرخين ليوم الدين، وابن تيمية يحاصره المبتدعة والمتعصبة، ويحاربوه بكل سلاح، فحوصر وطورد وسجن وعذب وضرب ونفي، وذلك كله بسبب اجتهاداته الفقهية، التي أصبحت فيما بعد طوق النجاة في كثير من النوازل المعاصرة، وإليها يفزع الناس عند كل سؤال .
القائمة طويلة من العلماء الأطهار، الأموات الأحياء، الذين غيب الموت أجسادهم، ولكن بقي ذكرهم وأثرهم يتردد صداه بين جنبات الذاكرة، في أطيب مقام، ألا وهو مقام العلماء العاملين .
واليوم تفقد الأمة واحداً من علمائها الأفذاذ النجباء، ممن سار علي درب الصالحين من سلف هذه الأمة، رحل الشيخ العلاّمة ابن جبرين بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي، والنصح لهذه الأمة، رحل الشيخ وقد ترك مكانه خالياً لا يستطيع أحد من معاصريه على ملئ الفراغ الذي خلفه الشيخ برحيله على الساحة، ليست الساحة العلمية فحسب، ولكن علي ساحة الشجاعة والصدع بالحق والثبات حتى الممات، في زمان أصبح المراجعات هي شعار الجميع الذي يتدثر به، من أجل تبرير السقوط في أحضان الدنيا، رحل الشيخ من الدنيا، ولم يقتني مالاً ولا ضياعاً، ولم يبني داراً ولا عقاراً، في زمان أصبح الكثير ممن ينتسب للعلم والدعوة من أصحاب الملايين، ومن أصحاب الدور والقصور و السيارات الفاخرة، رحل الشيخ ولم يتهافت ويتسابق علي الشهرة والإعلام، بل كان رحمه الله يفر من مواطن الشهرة التي كان يعتبرها مذابح للفتن، في زمان أصبح المتنافسون فيه علي التلميع الإعلامي يقدمون علي التنازل تلو الآخر من أجل أكبر قدر من الشهرة، حتى رأينا من يصادق المطربين والفنانات، بل ويؤلف لهم الأغاني أيضا .
رحل الشيخ الصادح بالحق الذي كان لا يخاف في الله لومة لائم، الذي كانت فتاوايه الجريئة و آراؤه السديدة كلمة الفصل في النوازل التي تملأ حياة المسلمين، رحل الشيخ البصير الذي كان يستشرف المستقبل وهو يحذر المسلمين بالإنخداع بالشعارات الجوفاء التي كان يطلقها الذراع الإيراني في المنطقة العربية والمسمي حزب الله، علي الرغم من كثرة المنخدعين بهذه الشعارات من أهل العلم ناهيك عن عوام المسلمين، وعلي الرغم من كثرة الهجوم والاتهامات التي طالت الشيخ البصير، والتي طالت علمه وفهمه وفقهه، بل واتهمته بالخيانة والعمالة لأعداء الأمة، فلم يمضي سوي شهور قلائل حتى تسقط الأقنعة، وتظهر حقيقة حزب الله والطائفية العميقة التي عليها هذا الحزب وعمالته المفضوحة لإيران، وذلك يوم أن دخل مليشيات الحزب بيروت الغربية لتروع الأمنيين وتسفك دماء الأبرياء في يوم يصفه شيطان الحزب بأنه يوم مجيد !، فيعلم الناس وقتها ومنهم رأس المدافعين السابق عن الحزب الشيخ القرضاوي، يعلموا حقيقة هذا الحزب، ويعلمون أيضا مدى فقه الشيخ وعلمه وفهمه .
مهما تكلمنا عن الشيخ ومآثره، أو رحلته الدراسية ومؤلفاته الشرعية، ودرجاته العلمية ومناصبه التدريسية التي تبوءها، فلن نوفيه حقه أبداَ، والمقام ليس مقام رثاء وتأبين، أو بكاء علي فقد وتد من أوتاد الأمة وعلم من أعلامها، ولكنه مقام تذكير لكل علماء الأمة وطلبة العلم فيها أن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ويقومون فيها مقام النبي صلي الله عليه وسلم، أن الأثر أهم وأغلي من الجسد، وأن الأعمار لا تحسب إلا بعطائها وبذلها لنفع الأمة، فكثير من تعلم العلم، ولكن قليل من عمل به ومات من أجله وفي سبيله .