أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد

بواسطة تأليف: يوسف إبراهيم الشيخ عيد قراءة 4107

أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد

تأليف: يوسف إبراهيم الشيخ عيد

 

تعتبر فترة الحروب الصليبية من الفترات الدقيقة والمهمة في تاريخنا الإسلامي، ولا تزال آثار تلك الحروب ماثلة للعيان، ومازال العالم الإسلامي يعاني منها، وما كانت الانتصارات الصليبية لتتحقق لولا تفكك العالم الإسلامي، وانقسامه على نفسه، ومنازعة العبيديين الفاطميين للخلافة العباسية، وظهور كثير من الزعامات الصغيرة التي كانت تطمح في تأسيس دول خاصة بها.

وبالإضافة إلى هذا كله، ظهرت في العالم الإسلامي حركات باطنية هدامة، كان لها دور في زيادة تفكك العالم الإسلامي، وأنشأت التنظيمات السرية، وجمعت حولها الأتباع، وبثت فيهم الأفكار المنحرفة، وكان لهذه الحركات الدور الكبير في عصر الحروب الصليبية (وكذلك في الفترة التي سبقتها) حيث ساهمت بشكل واضح في عرقلة سير حركة الجهاد الإسلامية، من خلال إقامة التحالفات مع الصليبين، وفتح أراضيها لهم، لينفذوا من خلالها إلى بلاد المسلمين، إضافة إلى قيام أتباع الحركات الباطنية باغتيال ومحاولة اغتيال عدد كبير من القادة والأمراء والعلماء المسلمين، الذين انبروا لقتال الصليبيين.

ويحاول كتاب "أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين" لمؤلفه يوسف إبراهيم الشيخ عيد، أن يعطي صورة مفصلة عن تلك الحركات الباطنية، وعن دورها المشبوه في تلك الفترة العصيبة من حياة الأمة الإسلامية.

واحتوى الكتاب الصادر عن دار المعالي سنة 1998م على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، إضافة إلى بعض الملاحق، وهو عبارة عن رسالة ماجستير في التاريخ تقدم بها المؤلف إلى كلية الشريعة بجامعة أم القرى سنة 1408هـ (1988م).

واستند المؤلف في كتابه إلى عدد كبير من المصادر القديمة، أبرزها: الكامل في التاريخ لابن الأثير، وكتاب ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي، واتعاظ الحنفا للمقريزي، والروضتين لأبي شامة، وكتاب مفرج الكروب في أخبار بني أيوب لابن واصل، ووفيات الأعيان لابن خلكان.

 

الفصل الأول: الحركات الباطنية عند قدوم الغزو الصليبي:

ويخصص المؤلف هذا الفصل لأربع حركات باطنية هدّامة هي: الإسماعيلية النزارية (الحشاشون)، والنزارية المستعلية (الفاطميون)، والنصيرية، والدروز. ويتحدث عن مناطق نفوذها، وعن علاقتها بالمسلمين من أهل السنة، ثم عن العلاقات بين النزارية والمستعلية.

أولاً: الحشاشون (الإسماعيلية النزارية):

النزارية هي إحدى الحركات الباطنية التي ظهرت في أواخر القرن الخامس الهجري، وتنسب إلى نزار بن المستنصر بالله الفاطمي، الذي كان من المفترض ـ حسب التعاليم الإسماعيلية ـ أن يخلف والده في الحكم، كونه الأكبر بين إخوته، إلاّ أن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي نحّى نزاراً وأجلس على الحكم مكانه أخاه الأصغر أحمد الملقب بالمستعلي، وسببت تلك الواقعة أكبر شرخ في جسم فرقة الإسماعيلية، ونشأت بموجب ذلك فرقتان:

1ـ المستعلية، وتمثلها الدولة العبيدية الفاطمية.

2ـ النزارية، الذين ظلوا متمسكين بولاية نزار، وقادهم آنذاك الحسن بن الصباح، وقد عرفت تلك الفرقة باسم (الحشاشين).

واستطاع ابن الصباح تأسيس دولة إسماعيلية مكونة من عدة قلاع وحصون، وأهمها قلعة آلموت في بلاد فارس، والتي أصبحت مركز هذه الدولة التي امتدت فيما بعد إلى أجزاء من بلاد الشام والعراق.

وكان أتباع الحسن بن الصباح شديدي الانقياد له، وبعد وفاته في سنة 518هـ تولى زعامة هذا الفرع من الإسماعيلية كيابزرك أميد، ثم أبناؤه وأحفاده من بعده.

وفي وقت نشوء الحركة النزارية، كانت دولة السلاجقة تسيطر على الخلافة العباسية، وكان السلاجقة في أوج قوتهم وذروة توسعهم، لذلك اتسمت العلاقة بين السلاجقة والحشاشين في البداية بالعداء، وخاصة أن الحشاشين شكلوا مصدر خطر على المسلمين باستيلائهم على القلاع والحصون، وقطعهم للطريق وتخريبهم للقرى.

وكان أول من تنبأ بخطر هؤلاء الباطنية، الوزير نظام الملك، الذي اجتهد مع السلطان السلجوقي ملكشاه في محاربتهم واستئصال شأفتهم، لذلك غدا الوزير نظام الملك العدو اللدود للحسن بن الصباح وفرقته، فقاموا باغتياله سنة 485هـ ونظام الملك هو أول مسؤول يقوم الحشاشون باغتياله، الأمر الذي سيؤدي فيما بعد إلى ضعف دولة السلاجقة، وعدم قدرتها على التصدي للأخطار التي تواجه العالم الإسلامي، وبسبب المكانة والخبرة التي كان يتمتع بها نظام الملك.

وعمل السلطان ملكشاه على القضاء على الحشاشين ـ بعد محاولات لإصلاحهم ـ إلاّ أن المنيّة عاجلته في نفس العام الذي توفي فيه وزيره نظام الملك، ودبّ النزاع بين أفراد البيت السلجوقي، وتراوحت علاقة السلاجقة بالحشاشين بين المهادنة والعداوة، ذلك أن الحشاشين تمكنوا من استمالة بعض الأمراء السلاجقة ضد أمراء آخرين.

ومع ذلك فقد جدّ بعض أمراء السلاجقة في محاربة الحشاشين، ومنهم السلطان محمد بن ملكشاه، الذي استطاع في سنة 524هـ استعادة قلعة آلموت، التي كانت مركز دولة الحشاشين.

وكانت العلاقة بين النزارية الحشاشين ومن جاورهم من المسلمين، علاقة عداء وحقد، فلطالما اعتدى الحشاشون على المسلمين من أهل السنة، وهاجموا مدنهم وقراهم، وقطعوا الطريق، وقتلوا الحجاج.

ولم يكن النزارية الحشاشون في بلاد الشام بعيدين عن سلوك إخوانهم في بلاد فارس، إذ كانوا يضمرون العداء لأهل السنة، وكانوا يقومون ببث الرعب بينهم، وقطع الطريق، ومحاربة من جاورهم من المسلمين.

كما حاول الحشاشون في بلاد الشام، استمالة بعض القادة والوزراء إلى صفهم، ومنهم الأمير رضوان ملك حلب، وبعد وفاته تنبه ابنه ألب أرسلان لخطرهم، وقاتلهم وخلّص حلب منهم، بعد أن كان لهم هناك دار دعوة.

واستطاع النزارية في بلاد الشام أن يستولوا على عدد من الحصون والقلاع، وإضافة لذلك امتدت يد غدرهم إلى قادة الجهاد الإسلامي في تلك الفترة، وعلى رأسهم الأمير مودود صاحب الموصل، الذي تصدى للحركة الصليبية في بداياتها، وقتلوا هذا القائد الفذ، وهو يخرج من الجامع الأموي بدمشق بعد أدائه لصلاة الجمعة، في أحد أيام سنة 507هـ.

ثم حاول هؤلاء الباطنية بزعامة سنان راشد الدين في سنة 570هـ، اغتيال القائد البطل صلاح الدين الأيوبي، وكرروا المحاولة في العام التالي، لكن الله نجاه منهم، وبعد هذه المؤامرات توجه صلاح الدين لقتالهم، إلى أن دخلوا تحت طاعته.

ثانيا: الفاطميون (الإسماعيلية المستعلية):

قامت الدولة العبيدية الفاطمية في مصر، وامتد سلطانها إلى المغرب العربي واليمن وجنوب بلاد الشام والحجاز، وهي تمثل الإسماعيلية المستعلية.

وقد ادّعى ملوك هذه الدولة انتسابهم إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ونازعوا العباسيين خلافتهم، وفي عهدهم توالى سقوط الإمارات الإسلامية بيد الصليبيين، ولم يبذل الفاطميون ما يجب لوقف عدوان الصليبيين. بل توجهت سهامهم إلى دولة السلاجقة السنية، كما سيأتي بيانه.

ثالثاً: النصيرية (العلويون):

النصيرية إحدى الحركات الباطنية التي قامت في القرن الثالث الهجري، وتنتسب إلى محمد بن نصير البصري النميري. وتزعم هذه الفرقة بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حلّت فيه الألوهية، وتكن العداء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى غير ذلك من العقائد الفاسدة.

وعند ابتداء الحروب الصليبية، كانت مناطق نفوذ النصيرية تتركز في: الموصل وديار بكر وحلب وطرسوس وجهات أنطاكية وجبلة، وأماكن أخرى عديدة في بلاد الشام.

ولم يكن للنصيرية اتصال كبير بمن جاورهم من المسلمين، بسبب انغلاقهم على أنفسهم، إلاّ في فترة حروب المسلمين مع الصليبيين والتتار، ذلك أن النصيريين نزلوا من مناطقهم، منطلقين من حقدهم على المسلمين.

رابعاً: الدروز:

وهي فرقة إسماعيلية باطنية ادّعت ألوهية الحاكم بأمر الله، أحد حكام الدولة العبيدية الفاطمية. وتركز الدروز في بلاد الشام، بعد أن فرّ مؤسس مذهبهم، محمد بن إسماعيل الدرزي، من مصر إلى الشام عقب إعلانه ألوهية الحاكم بأمر الله، الأمر الذي جعل المسلمين في مصر يثورون عليه ويحاولون قتله.

ومثلهم مثل النصيريين، عاش الدروز منغلقين على أنفسهم إلاّ في بعض الفترات، ومنها فترة الحروب الصليبية، التي رأوا فيها فرصة للانتقام من المسلمين.

 

الفصل الثاني: العلاقات السياسية والعسكرية بين الفاطميين والصليبيين:

يتناول المؤلف في هذا الفصل العلاقات المشبوهة بين الفاطميين والصليبيين وبوادر حسن النية التي أبداها الفاطميون تجاههم، ثم تحول العلاقات إلى الصدام، لمّا تجاوزت أطماع الصليبيين كل حد، وباتوا ينوون الاستيلاء على الأراضي والمدن التي بحوزة الفاطميين.

فعندما تحركت جموع الصليبيين من أوربا باتجاه الشرق، في أول حملة صليبية على العالم الإسلامي، لم يبدِ الفاطميون أية مبادرة لنصرة المسلمين، وتصدى لهذه المهمة السلاجقة، وأمراء الولايات الإسلامية الصغيرة، إلاّ أن الصليبيين تمكنوا من تحقيق انتصارات هامة، وسقطت بأيديهم العديد من المدن والولايات، كان أولها أنطاكيا سنة 491هـ، بعد حصار استمر أكثر من  سبعة أشهر.

ولم يكتفِ الفاطميون، ووزيرهم الأفضل الجمالي بدور المتفرج والمتقاعس، بل عرضوا على الصليبيين التحالف والتعاون في القضاء على السلاجقة السنة واقتسام بلاد الشام بينهما، وتبادل الصليبيون والفاطميون السفارات والهدايا ومشاعر المودة والموالاة.

واستغل الفاطميون انشغال السلاجقة بمحاربة الصليبيين، وقاموا باحتلال بعض المدن التابعة للسلاجقة، ومنها بيت المقدس. يقول المؤلف في هذا الصدد: "لا شك أن سلوك الأفضل هذا كان عاملاً من أهم العوامل في انتصار الجيوش الصليبية، ووصولها إلى هدفها من دخول بيت المقدس واحتلال معظم بلاد الشام. لقد كان بمقدور الأفضل أن يقف في وجه الصليبيين ويتصدى لزحفهم ويرد عن بلاد المسلمين، فالأحوال في مصر كانت هادئة مستتبة وكانت مصر تتمتع بالرخاء، بالإضافة إلى ذلك كان الأفضل قادراً على المال والرجال".

واستمرت سياسة الفاطميين في معاونة الصليبيين على الدول السنية حتى أواخر أيامها، وهذه المرة كان التعاون موجّها ضد قوات نور الدين زنكي ومساعديه أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي، الذين أبوا في قتال الصليبيين بلاء حسناً.

وبالرغم من كل ما بذله الفاطميون للصليبيين من مودة وموالاة وعروض بالتعاون ضد الدول السنيّة، إلاّ أن مطامع الصليبيين كانت أكبر مما عرضه الفاطميون عليهم، واتجه الصليبيون لاحتلال المدن التي تحت سيطرة الفاطميين، الأمر الذي نتج عنه حدوث صدام بين الطرفين، كانت نتيجته في الغالب هزيمة العبيديين، والمزيد من سقوط المدن الإسلامية، إلى أن يسّر الله لهذه الأمة بطلاً كصلاح الدين، قام في سنة 567 بالقضاء على الدولة العبيدية الفاطمية التي ناصبت أهل السنة ومذهبهم العداء، وخذلتهم، وتركتهم لقمة سائغة للصليبيين، ليتفرغ صلاح الدين بعد ذلك لقتال الصليبيين وطردهم من بلاد الشام، وتعتبر موقعة حطين الشهيرة سنة 583هـ إحدى معارك المسلمين الكبرى بقيادة صلاح الدين والتي استرجعت بموجبها القدس، وأصلح فيها صلاح الدين ما أفسده الفاطميون.

 

الفصل الثالث: الحشاشون ودورهم في الحروب الصليبية:

ومن الأدلة التي تثبت حقيقة التعاون بين النزارية وبين الصليبيين أن زعيمهم في بلاد الشام راشد الدين سنان أرسل في سنة 569هـ وفداً إلى "أملريك" ملك بيت المقدس، يقترح عليه اتفاقاً ضد القائد نور الدين محمود، ولوّح سنان لملك بين المقدس بأنه وقومه يفكرون بالتحول نحو النصرانية.

وشن النزارية في بلاد فارس والشام حملة اغتيالات كبيرة شملت عدداً كبيراً من الأمراء والقادة والقضاة بهدف إضعاف الدول السنيّة في مواجهة الصليبيين، والأخطار الخارجية، فشملت جرائمهم اغتيال الوزير نظام الملك سنة 485هـ، وابنه الأكبر فخر الملك سنة 500هـ، وقاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي سنة 502هـ وعدد كبير منهم الأمير مودود، وحاولوا قتل صلاح الدين كما سبق بيانه.

 

الفصل الرابع: النصيرية والدروز ودورهم في الحروب الصليبية

ويورد المؤلف نماذج عديدة عن خيانات النصيريين والدروز للمسلمين، منها مساندة النصيريين للصليبيين خلال حصارهم أنطاكيا الذي استمر سبعة أشهر، أبدى المسلمون خلالها شجاعة نادرة، وقد كان الزعيم النصيري فيروز موكلاّ بحراسة أحد أبراج المدينة، فاتصل بالقائد الصليبي بوهيموند واتفق معه على تسليم البرج إليه، ودخول المدينة، وبالفعل تمكن الصليبيون ـ نتيجة خيانة النصيريين ـ من احتلال أنطاكيا وإعمال السيف في أهلها.

وكان الدروز في ذلك على خطا النصيريين، فقد صالح أحد أمراء الدروز الصليبيين وانسحب من مدينة صيدا، وسلمها لهم سنة 504هـ.

وبعد هذه الجولة من هذا الكتاب نقف متسائلين: هل يعيد التاريخ نفسه اليوم؟؟

 



مقالات ذات صلة