إقالة متقي وعلامات انهيار دولة الفقيه
الثلاثاء 14 ديسمبر 2010
بقلم: شريف عبد العزيز
لاشك أن مسألة إقالة وزير خارجية في دولة ما، مهما كان حجمها أو أثرها قد لا يكون حدثاً يحتاج إلي الوقوف عنده والتدبر فيه إلا إذا كانت هذه الدولة هي إيران، وحادث الإقالة قد تم بتلك الصورة السريعة والمريبة، بحيث حدثت والوزير متقي في جولة دبلوماسية له في السنغال وغيرها من الدول الإفريقية، وهذه الصورة التي لا تخلو من مضامين كثيرة قد فتحت شهية المراقبين والمحللين للشأن الإيراني، وأنا واحد منهم، للتنقيب في أسباب الإقالة، خاصة في توقيتها الذي فاجأ الجميع، وعلي رأسهم الوزير متقي نفسه الذي كان يباشر مهام وظيفته الحساسة حتى آخر لحظة، وقد أبلغ الوزير متقي بالإقالة وهو في ردهة مكتب الرئيس السنغالي عبد الله واد، فلماذا كل هذا؟.
حدث في أكتوبر 2007
في 22 أكتوبر 2007، نشرت وسائل الإعلام الإقليمية والدولية خبراً عن إقالة رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني بعنوان :"مصدر إيراني سري يقول: لاريجاني سمع خبر استقالته من الإذاعة والتلفزيون" وذلك علي خلفية الموقف الروسي الملتبس إزاء الملف الإيراني، وتضارب الإدعاءات بين لاريجاني وبوتين حول تسليم المقترح الروسي حول البرنامج النووي الإيراني، ومدي التزام روسيا بتطوير مفاعل بوشهر، وقد أدي هذا الالتباس وقتها للإطاحة بعلي لاريجاني أحد كبار الساسة الإيرانيين وأبرز المنافسين علي سباق الرياسة ضد احمدي نجاد وكان هذا في أكتوبر 2007، ويومها اعتبر كثير من المراقبين أن السبب الحقيقي هو إزاحة لاريجاني من طريق نجاد.
وفي خطوة مفاجئة ومشابهة كثيراً، أُعلن في إيران اليوم عن إقالة وزير الخارجية منوشهر متقي وتعيين علي أكبر صالحي وزيراً للخارجية بالإنابة، وكان متقي عمل وزيراً للخارجية للأعوام الخمسة الماضية، بينما صالحي هو رئيس البرنامج النووي الإيراني وكبير المفاوضين الإيرانيين مع القوى الغربية حول هذا البرنامج.
وكان صالحي عين على رأس منظمة الطاقة الذرية في 17 يوليو 2009 مباشرة بعد إعادة انتخاب احمدي نجاد رئيسا، ومن هول المفاجأة نفي متقي في بادئ الأمر حدوث الإقالة بهذه الصورة المهينة، فهل هناك ثمة علاقة بين كلا الرجلين في الإقالة بهذه الصورة التي تتناسب مع حجمها ودورهما في منظومة الحكم الإيراني؟ أم أنها مجرد صدفة وتشابه أحوال؟.
الإقالة بين الداخل والخارج
ولأهمية وخطورة الدور الإيراني علي المستوي الإقليمي والدولي، فقد كانت الإقالة محل تعليق من كافة الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، فالمعسكر الغربي ترجمت وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون رأيه ومخاوفه في نفس الوقت تجاه هذا الإقالة بقولها :"إن إيران بدأت بداية طيبة في المحادثات مع القوى الغربية بشأن برنامجها النووي وينبغي ألا يتأثر هذا التقدم بقرار الرئيس الإيراني إقالة متقي"، وأضافت كلينتون أن اجتماع إيران هذا الشهر في جنيف مع ممثلين للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا يمثل عودة للحوار الموضوعي.
وأشارت كلينتون إلي أنها لا تعلم السبب الذي يمكن أن يكون قد قاد إلي هذه الخطوة، لكنها أعربت عن ثقتها في أن تغيير شخص لن يؤثر في سير المفاوضات"، من جهته دعا وزير الخارجية الألماني جيدو فسترفيلي طهران إلي الاستمرار في التفاوض مع القوى الكبرى بشأن برنامجها النووي. وآمل فسترفيلي أن تتواصل المفاوضات التي بدأت لتوها في جنيف، مضيفا :"أن إقالة متقي يجب ألا تؤدي إلي تعطيل أو تأخير هذه المباحثات".
أما على المستوى الداخلي فقد أعلن الناطق باسم الخارجية الإيرانية رامين مهمانبرست أن إقالة متقي لن تؤدي إلي تغيير في السياسة الخارجية الإيرانية، وقال :"إن سياسات إيران الكبرى تحدد على مستويات أعلى ووزارة الخارجية تنفذ هذه السياسات، لن نشهد أي تغيير في سياستنا الأساسية". وأضاف :"لا اعتقد انه سيحصل أي تغيير في السياسة النووية والمحادثات مع القوى الست حول البرنامج النووي الإيراني".
أما من وجهة نظر المعارضة الإيرانية فقد وصفت مريم رجوي رئيسة "الجمهورية المنتخبة من قبل المقاومة الإيرانية" الإقالة المفاجئة لمتقي بأنها من آثار انهيار هيمنة الولي الفقيه وانحسار هيبته وتفاقم التمزق والصراع الذي تشهده الساحة الداخلية للنظام ومن زلازل مرحلته النهائية، وقالت أيضاً إن الأزمة التي يواجهها الملالي في مجال المشاريع النووية وفرض العقوبات الدولية فضلاً عن رغبة جميع دول المنطقة في ضرورة إسقاط النظام الإيراني والتي كشفت عنها في عمليات الفضح الأخيرة وهزائم الملالي بفعل المقاومة الإيرانية في الساحة الدولية والدعم الواسع والمتزايد لمجاهدي أشرف، تعد من الأسباب البارزة لإقالة متقي". وترى المعارضة الإيرانية أنّ الإقالة المستعجلة لوزير الخارجية تعتبر محاولة يائسة لتبرير الهزائم والإخفاقات وجعل متقي كبش الفداء لها.
أسباب إقالة متقي
قد يري البعض أن الموقف الذي أخذه متقي في المنامة في الثالث والرابع من ديسمبر عندما وصف تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون حول إمكان السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم بشروط معينة بأنه "خطوة إلى الأمام". والمعروف أن جميع المسئولين الإيرانيين يكررون دائما أن مسألة تخصيب اليورانيوم في إيران ليست قابلة للتفاوض، ويبدو أن تعليقات متقي خالفت الموقف الرسمي للجمهورية الإسلامية، ولكن هذا الرأي قد بدر عن العديد من المسئولين الإيرانيين من قبل، ولم يتحدث أحد عن إقالة أو عزل لأي من هؤلاء المسئولين.
رغم الغموض والتعتيم الكبيرين الذين صبغا إقالة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد لوزير خارجيّته من منصبه، بدت الصورة أكثر وضوحاً بعد مُضيّ 24 ساعة عن قرار الإقالة الذي وُصف بـالمفاجئ والسريع، وتتواتر التحليلات والتكهنات الإيرانية والغربيّة لقرار الرئيس نجاد المفاجئ، ورغم الاختلافات في التقييم والتفسير، إلا أنّ الثابت في معظمها أنّ الإقالة تأتي على خلفيّة صراعات داخليّة يشهدها الفريق الحاكم المتشدد في جمهورية إيران الإسلاميّة.
مصادر إيرانية مطلعة قالت إن إقالة متقي جاءت لسببين يتعلقان بالصراع الداخلي المحتدم علي السلطة والنفوذ، أولهما معركة الرئاسة المقبلة التي يبدو أن نجاد بدأ يعد لها العدة منذ اليوم، وأولي خطواتها إقالة متقي المحسوب علي تيار خصوم نجاد، فاحمدي نجاد يريد أن يدعم حليفه "سعيد جليلي" وأن يضع يده على السياسات الإستراتيجية الخارجية والأمنية الإيرانية، وفي هذا السياق فإن علي أكبر صالحي يدير منذ اليوم وزارة الخارجية فيما توكل إدارة السياسات الخارجية لكبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي سعيد جليلي، مما يعني إمساك نجاد بملفّي الخارجية والمفاوضات النووية وملفات الأمن القومي الإيراني.
أما السبب الثاني فيتمثل بسعي نجاد لاستبعاد حلفاء رئيس المجلس علي لاريجاني عن مواقع القرار في الإدارة الحالية من أجل إضعاف لاريجاني، وتجريده من عناصر قوته قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة. خصوصاً وأن متقي كان سيشغل منصب مدير الحملة الانتخابية للاريجاني، وفي موازاة تقليم أظافر لاريجاني، تتم تقوية سعيد جليلي ليكون هو المرشح الأقوى لرئاسة الجمهورية الإسلامية للدورة المقبلة في حال أخفق نجاد في حمل المجلس التشريعي على تعديل الدستور للتجديد له لولاية ثالثة، وهو ما يسعي إليه بقوة مدعوماً بسلطة خامنئي النافذة علي كل دوائر صنع القرار في إيران.
فتش عن خامنئي
غير أن المسألة علي ما يبدو أكبر وأعقد من كونها صراعاً علي منصب رئاسة ستحل انتخاباته بعد ثلاث سنوات من الآن، فالضغوط المتنامية على سلطة ولاية الفقيه تجعل المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي يعمل علي تقوية الجبهات الموالية تحسباً لمزيد من الضغوط المستقبلية، فخامنئي يعمل بسلطة مطلقة منذ ولاية نجاد الأولي في 2005 بعد أن تمكن للمرة الأولي من السيطرة الكاملة علي كل دوائر صنع القرار في إيران، وقد تخلص من رئيسين متتاليين حدا كثيراً من استعماله لنفوذه الكامل، وهما هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، لذلك وقف خامنئي بقوة في وجه المعارضة الإيرانية للانتخابات الأخيرة، واستخدم كافة صلاحياته ونفوذه المادي والمعنوي في تمرير عمليات تزوير واسعة النطاق لانتخابات الرئاسة في 2009، والتي أتت بنجاد رئيساً لإيران لولاية ثانية، ورغم الاحتجاجات العنيفة والضخمة في إيران وخارجها تم تمرير النتائج المزورة، وذلك كله لإحكام سيطرة المرشد علي مقاليد الأمور في إيران.
خامنئي يعاني منذ فترة من تآكل شعبيته في داخل إيران وخارجها، ولعله ما أقدم علي فتواه الأخيرة بحرمة الإساءة بزوجات النبي صلي الله عليه وسلم في خضم أزمة الخبيث ياسر المسيء لعائشة رضي الله عنها، إلا من باب تلافي الغضب العالم الإسلامي ضد الشيعة الذي يرى نفسه مرشدهم الأعلى، خامنئي يعاني أيضاً من تنامي المعارضة الشعبية الداخلية ضده سياساته الخطيرة، وإصراره علي الاهتمام بتصدير الثورة الإيرانية علي حساب الشأن الداخلي في إيران، حتى وصلت المعارضة ضده إلي داخل المؤسسة الدينية في إيران وهي المؤسسة الأكثر أهمية في تشكيل الرأى العام الإيراني.
فقد طالب مدرسو الحوزتين الشيعيتين في "قم والنجف" في تاريخ 7 نوفمبر الماضي، من مجلس الخبراء الإيراني الذي يعنى بشؤون القيادة في البلاد، إلى عزل المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي، وقالت حوزتي "قم والنجف" لـ"مجلس الخبراء" :"إن النظام الجمهوري الإسلامي يمر حالياً في أصعب مراحله منذ تأسيسه، وإن ثقة الشعب في المؤسسات الإدارية لم تتزلزل فحسب، بل انتزعت بشكل كامل"، وقالوا أيضاً :"يجب على أعضاء مجلس الخبراء أن يبادروا في أقرب وقت إلى تعيين قائد جديد حسب الدستور، وأن يقوم المجلس المؤلف من رئيس الجمهورية ورئيس السلطة القضائية وأحد الفقهاء من مجلس الخبراء القيادي المعين من قبل مجلس صيانة الدستور بالإدارة والإشراف على جميع مهام القيادة مؤقتاً، إلى حين انتخاب قائد جديد وإنقاذ النظام الإسلامي من الانهيار".
وأشار مدرسو الحوزتين إلى أن خامنئي يدعي المرجعية في الفتوى على الرغم من عدم توافر الشروط المناسبة فيه، وسقوط صفتي العدالة والتقوى عنه، وبات بالتالي غير مؤهل للإدارة والتدبير، مؤكدين أن خامنئي عين الأفراد غير المؤهلين وغير الصالحين في المناصب التي يشرف عليها، وقام بتنصيب أشخاص يجهلون أمور القضاء على رأس السلطة القضائية وأنه يتدخل في قضايا خارج حدود نطاق سلطته، مثل المسائل القضائية والتنفيذية والقانونية، جاعلاً المؤسسات الشعبية والتقليدية في الحوزات في قم ومشهد تحت تصرف الحكومة، لافتين إلى قيامه باضطهاد الفقهاء والحكماء وكبار العلماء في الحوزات العلمية (الشيعية)، والضغط عليهم للموافقة على آرائه وأعماله، وأيد انحياز أعضاء مجلس صيانة الدستور في الانتخابات، ما أدى إلى حوادث مؤسفة فيما بعد، دون أن يعزلهم من وظائفهم، بل على العكس عينهم في مناصب مرموقة ومهمة، مثل رئاسة السلطة القضائية، وبذلك كان يستخف بالشعب.
ومن خلال هذا الطلب الجريء يتضح لنا مدي جراءة المعارضة الإيرانية ضد المرشد خامنئي، وهي الجراءة التي وصلت لحد المطالبة بعزله لانتفاء صفتي العدالة والتقوى، وذلك علي خلفية تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح نجاد، العجيب أن هذه الثورة الشديدة من جانب مدرسو الحوزات في قم والنجف قد اندلعت علي خلفية زيارة خامنئي الأخيرة إلى قم، وهي الزيارة التي عززت الانقسامات داخل الحوزة العلمية في قم، وأيضاً في النجف في العراق، وزار خامنئي قم لأول مرة منذ عشرة أعوام، ورتبت الأجهزة الأمنية لقاءات مع عدد من مراجع الدين، وعدد منهم رفض لقاءه، على رغم الضغوط الأمنية، وفي مقدّمتهم المرجع حسين وحيد الخراساني.
وما جرى لمتقي من عزل مفاجئ ومهين أيضاً، ما هو إلا حلقة من حلقات سياسة الدفاع المبكر لخامنئي وزمرته من أنصار ولاية الفقيه المصدر لمبادئ الثورة الإيرانية، ضد محاولات المعارضين والتي اتسعت قاعدتهم لتشمل قطاعات عريضة من الساسة والمسئولين والأكاديميين وعلماء الدين الشيعي، والأيام القادمة ربما تشهد الإطاحة برؤوس جديدة في سيبل إنقاذ رأس ولاية الفقيه من الانهيار الذي أصبح وشيكاً.