الفوضى الإقليمية في أجندة أمريكا وإيران و سوريا
علي باكير
تتسارع الأحداث بوتيرة عالية في منطقة الشرق الأوسط مؤخراً في إطار نزاع المصالح لبسط النفوذ، وتبادل المكتسبات والمواقع، وتبدّل الأدوار واللاعبين، والتحرك باتجاه ملء الفراغ الجيو-إستراتيجي, والأمني والسياسي الذي تركه سقوط النظامين في أفغانستان والعراق.
السمة المشتركة في هذه الأحداث وجود:
1- ثلاث دول بدون نظام سياسي مركزي يصاحبه شلل في إدارة البلاد أو عدم القدرة على إدارتها مطلقاً, وهي: العراق, لبنان وفلسطين.
2- وجود نفوذ قوي جداً لثلاث دول إقليمية ودولية في هذه البلدان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وهي: أمريكا, إيران وسوريا, واستخدام هذه الدول لساحات العراق ولبنان وفلسطين كأوراق تفاوض ومساومة في النزاع الدائر على بسط النفوذ.
3- تضارب مصالح الدول الإقليمية والدولية هذه في ثنائية "تثبيت الاستقرار أو نشر الفوضى" في العراق, لبنان وفلسطين تبعاً للمتغيرات والمصالح.
4- وجود نزاع داخلي في هذه البلدان بدرجات متفاوتة, متداخل ومتشابك ومعقّد في العراق, ثنائي واضح في فلسطين, وضدّ فريق واحد وأحادي في لبنان.
أزعم أنّه لا يمكن لأحد أن يلاحق التفجيرات التي تجري هنا وهناك في هذا البلد أو ذاك ليصل إلى نتيجة قاطعة بأن المحرّك واحد، وأن الهدف واحد لانعدام الأدلة الحسيّة, لكن ولكي نرى الصورة بشكل أوضح وبطريقة أقرب إلى الحقيقة منها إلى التخيلات والفرضيات علينا أن نربط التطورات بسؤال جوهري هو: من الذي يدفع باتجاه الفوضى في كل بلد من هذه البلدان؟ و لماذا؟
ليس صحيحاً أن الفوضى حكر على أجندة الولايات المتّحدة من خلال ما يُعرف باسم "نظرية الفوضى الخلاّقة" التي مازال المحللون يعتمدون عليها في تسويق وتسويغ نظرياتهم من أن أمريكا تقف وراء كل الفوضى الحاصلة في المنطقة.
هذا التنظير كان صحيحاً عندما بدأت الولايات المتّحدة الإطاحة بالنظامين في أفغانستان والعراق, فالفوضى في ذلك التوقيت تخدم المشروع الأمريكي، وتضعف من السلطة المركزية في هذه البلدان، وتتيح للأمريكي بسط نفوذه بطريقة أسهل. لكنّ الأمر انقلب تماماً بعد صعود المقاومة الأفغانية والعراقية, وإخفاق الولايات المتّحدة في تحقيق أي تقدم على صعيد بناء دولة وسلطة سياسية في هذين البلدين. وقد انقلب الهدف الأمريكي في ذلك الوقت من الدفع باتجاه الفوضى إلى تحقيق الاستقرار، وذلك لأنها بحاجة إلى تقديم إنجاز إلى المجتمع الدولي وللداخل الأمريكي، والتسويق بأن حربهم لم تفشل، وأنهم نجحوا في بناء عراق ديمقراطي مستقر وذي سلطة سياسية منتخبة.
في هذه اللحظة بالذات كان النفوذ السوري والإيراني في العراق يهدف إلى الإبقاء على الفوضى بل وزيادتها وتغذيتها، خاصة في دعم إيران لفرق الموت وعصابات الصدر، في مقابل دعم سوريا للتفجيرات العشوائية والمتنقلة، والتي لا تستهدف أي أمريكيين مطلقاً وإنما هدفها نشر الفوضى.
و قد بقيت كل من إيران وسوريا لاعباً أساسياً في الإبقاء على الفوضى في العراق لدفع الولايات المتحدة إلى التفاوض معهما على الثمن الذي ستقبضانه مقابل المساعدة على تحقيق الاستقرار. لكنّ الاتفاق بين الحكومة السورية والعراقية مؤخراً أنهى النفوذ السوري هذا، أو قلّل منه بحيث أصبح الموضوع بين الإيرانيين والأمريكيين.
إيران تمتلك ورقة الفوضى في العراق وترميها في وجه الأمريكيين بهدف دفعهم إلى التفاوض، والحصول على مكتسبات مقابل المساعدة في تحقيق الأمن والاستقرار, ويبدو أن الطرفين توصلا مؤخراً إلى رؤية مفادها أن المقاومة العراقية تشكّل عائقاً للاثنين، وأنّه لا بد من الاتفاق أولاً على إيجاد وسيلة للقضاء عليها قبل استكمال النزاع بين الطرفين.
في فلسطين يبدو المشهد مختلفاً, فالمصلحة الأمريكية تقتضي ألاّ يكون هناك استقرار لصالح حماس في السلطة, ومن شأن ذلك أن يخفّف الضغط على إسرائيل، وأن يشغل الفلسطينيين ببعضهم البعض، كما وأنّه يمنع كلاً من سوريا وإيران من استخدام حماس كورقة تفاوض إقليمية سواء في المباحثات السريّة الإسرائيلية-السورية, أو من خلال العروض الإيرانية السريّة.
نعود لثنائية الفوضى والاستقرار في المشهد اللبناني هذه المرّة. هناك مصلحة أمريكية واضحة في الوقت الحالي في جعل هذا البلد مستقراً وقوياً, ويشكّل لبنان مفترقاً مفصلياً في النزاع بين الأطراف الثلاثة، وسقوطه في النفوذ الإيراني والسوري يعني استكمال الهلال الشيعي الذي تحدّث عنه الخميني في الثمانينيات، إذ تسقط كل من العراق, سوريا, لبنان وفلسطين في هذا النفوذ ويتكون الشق الأول من هذا الهلال.
لكن حرب تموز العام 2006 الأخيرة وتداعياتها أدّت إلى تحجيم النفوذ الإيراني إلى درجة كبيرة من خلال لجم حزب الله وتكبيله, وبالتالي تعطّل دور الحزب على الحدود، والذي كان يتم استخدامه كرافعة أو ورقة ضغط في يد إيران, يتم التلويح بها و تحريكها بشكل موسمي كلما كان هناك مساومات ممكنة.
في المقابل بقي النفوذ السوري قوياً وفاعلاً, وبعد الحد منه في العراق لم يبق لسوريا سوى الورقة اللبنانية لتفاوض الأمريكيين عليها. السوريون يعملون على ضرب الاستقرار ونشر الفوضى المركّزة من خلال استهداف فريق سياسي واحد، ومن خلال تفجير مناطق ذات دلالة سياسية ومذهبية واحدة, لإظهار العجز، وبالتالي إفشال التركيبة هذه، والرجوع إلى التركيبة السورية التي كانت قائمة سابقاً خلال العقود الماضية.
بمعنى آخر, السوريون يقولون للأمريكيين: "إذا أردتم استقراراً في لبنان فعليكم بالرجوع إلينا والتفاوض معنا ومع حلفائنا في لبنان", وطالما أنّ السوريين لم يحصلوا على شيء بعد, فمن المتوقع أن يظل لبنان في أتون الفوضى والاغتيال السياسي إلى حين انقلاب المعادلة أو تبدّل الأوضاع.
النفوذ الكلي لأمريكا, إيران وسوريا, في الدول التي نتحدّث عنها تمّت إعادة توزيعه في الآونة الأخيرة كما رأينا, ويمكن تلخيصه بالشكل التالي:
1- العراق: الفوضى المستحدثة من صنع إيران وضدّ المصلحة الأمريكية, والنفوذ السوري تقلّص إلى أدنى درجة حالياً.
2- فلسطين: الفوضى المستحدثة من مصلحة أمريكا, والنفوذ السوري والإيراني مازال موجوداً بقوّة.
3- لبنان: الفوضى المستحدثة من صنع سوريا وضدّ المصلحة الأمريكية, والنفوذ الإيراني تقلّص بعد إغلاق الحدود الدولية، وانحصر في المسائل الداخلية لصالح السوريين.
لا يعني ذلك أنّه لا يوجد تشابك أو تداخل من قبل أطراف خارجية في خارطة توزيع الأدوار, لكنّ دور الأطراف الخارجية إذا افترضنا وجوده فهو ضعيف جداً وغير مؤثر على مجرى الأحداث في ظل وجود نفوذ قوي لهذه البلدان الثلاثة. فعلى سبيل المثال, لقد كان للقاعدة في مرحلة من المراحل مصلحة في وجود فوضى إقليمية, لكنّ الأمر لم يعد كما كان عليها, والقاعدة لا تملك أيضاً القدرة الكافية لا على إشعال هذه الفوضى، ولا على التحكّم بمجرياتها أو توظيفها على عكس أمريكا وسوريا وإيران. كما أن هناك بعض الأنظمة قد استحدثت "قواعد" خاصّة بها، وراحت تنفّذ عملياتها وأجندتها تحت واجهة أن القاعدة هي من يقوم بذلك, وهذا طبعاً للتمويه ولإبعاد الشبهات، وللتنصل من المسؤوليات أيضاً, وهذه الصورة واضحة بشكل قوي في المشهد اللبناني عبر سوريا.
إذاً المسألة ليست كما يحاول البعض تصويرها واختصارها بالدور الأمريكي فقط؛ لأننا في صراع معه حالياً في العراق وأفغانستان. سوريا و إيران أيضاً تتحملان نفس المسؤولية وتلعبان نفس الدور السلبي، وتتاجران بشعوب ومصير هذه الدول, وعليه فالتعاطي مع هؤلاء الفرقاء يجب أن يكون على وتيرة واحدة، وليس من منطلقاً لاجتزاء أو الانتقائية في التعامل مع الأحداث والتطورات.