في حديثه مع "قناة الميادين" (20 مايو 2021) "ثمَّن" القيادي في "حركة حماس”، أسامة حمدان، "موقف بشار الأسد، لمساندته ودعمه للمقاومة الفلسطينية"، مؤكداً أن: “موقف الأسد الداعم للمقاومة ليس غريباً ولا مفاجئاً، ومن يحينا بتحية نرد بخير منها”، مؤكداً أنه: “من الطبيعي أن تعود العلاقات بدمشق إلى وضعها السابق”.
ولم يكن ذلك التصريح مجرد زلة لسان من أحد "قادة حماس"، بل جاء رداً على تحية وجهها بشار الأسد لـ"حماس" خلال لقاء عُقد بدمشق، في اليوم ذاته، مع وفد ضم عدداً من قادة القوى والفصائل الفلسطينية وممثليها، وأكد فيه أن: “أبواب سوريا مفتوحة لكل فصائل المقاومة”.
وفي خضم ردود الأفعال الشعبية الساخطة إزاء “الغزل” المعلن بين حمدان وبشار؛ انبرى عدد من "قادة حماس" للدفاع عن "موقف حركتهم"، معيدين تأكيدهم أن هدفهم هو تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وأنهم لا يتبنون أية أجندة خارج هذا الهدف المركزي، ومعتبرين أن تلقي الدعم من أية جهة “مسلمة” يأتي ضمن حشد التأييد للقضية المركزية لعموم العرب والمسلمين.
كما أكد "قادة حماس" تبنيهم سياسة خارجية تقوم على النأي بالنفس عن الصراعات الداخلية لأي بلد، وتجنبهم النزاعات والخلافات العربية، لتبقى قضية فلسطين هي المحور الأول والقضية الأساسية لـ"الحركة".
إلا أن واقع “حماس” ومواقفها السياسية منذ عام 2017 لا تتوافق مع التبريرات التي ساقها بعض "قادة الحركة" لتهدئة الرأي العام الغاضب إزاء تصريحاتهم المنافية للمبادئ التي قامت عليها "الحركة" منذ تأسيسها عام 1987، حيث تتبع هذه الدراسة الاتصالات والوساطات غير المعلنة التي كانت تجري في السنوات الماضية بين "قادة الحركة" ونظام بشار الأسد، وتقصّي آفاقها المرتقبة مؤكدة وجود نوايا مسبقة لدى "قيادة الحركة" في الانسياق خلف مشروع التوسع الإيراني، والانحياز لسفاح دمشق، رغم تعالي الأصوات المعارضة لذلك داخل "الحركة" وخارجها.
القصة بدأت عام 2017
وجدت "حركة حماس" نفسها منذ السنوات الأولى لاندلاع الثورة السورية في مأزق، حيث شهدت كواليس قيادتها خلافاً حاداً حول الموقف من جرائم بشار الأسد ضد الشعب السوري وضد الفلسطينيين المقيمين بسوريا وخاصة في مخيم اليرموك.
وكان لـ"رئيس المكتب السياسي للحركة"، خالد مشعل، دور بارز في الانحياز لمطالب الشعب السوري، والتعاطف مع حراكه، حيث ظهر في "الذكرى الخامسة والعشرين لانطلاق الحركة" وهو يرفع علم الثورة السورية، مؤكداً “أحقية الشعب السوري في الانتفاض من أجل حقوقه”، ما دفع باستخبارات النظام إلى إغلاق جميع "مكاتب الحركة" في دمشق وإقفالها بالشمع الأحمر، بما فيها مكتب مشعل في منطقة المزة، ومهاجمته على التلفزيون الرسمي (أكتوبر 2012) ووصفه بـ"المقاوم المشرد واليتيم الذي كان يبحث عن ملجأ يأويه قبل أن تفتح دمشق أبوابها".
وتردد الحديث آنذاك عن نشاط مكثف لفصيل “كتائب أكناف بيت المقدس”، بقيادة محمد زغموت ، الذي عمل كمرافق لخالد مشعل ، ما دفع بـ"قيادة الحركة" للتبرؤ من ذلك الفصيل، دون أن يؤثر ذلك على الجهود التي بذلها عدد من كوادرها في دعم الثورة السورية ميدانياً، وقيامهم بأدوار مهمة في الداخل السوري.
وعلى إثر زيارة مشعل للسعودية عام 2015؛ بادرت "الحركة" إلى تعزيز علاقاتها العربية مقابل برود ملحوظ إزاء طهران ، وعبّر "بيان صادر عن الحركة" آنذاك عن دعم: “الشرعية السياسية في اليمن وخيار الشعب اليمني الذي توافق عليه (ديمقراطيًّاً)” ، والذي قرأه البعض على أنه اصطفاف إلى جانب التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية ، ضد الحوثيين المدعومين من قبل إيران.
ودفعت تلك التطورات إيران لمهاجمة مشعل ، حيث تحدث إعلامها الرسمي عن وجود تيار مخالف لتوجهاته داخل "الحركة" ، وأشاد بالمشاريع التي كان يشرف عليها القيادي محمود الزهار بتمويل إيراني، فيما اتخذ "رئيس المكتب السياسي" ، إسماعيل هنية ، موقفاً مهادناً لطهران ودمشق، حيث وصف الثورة السورية بأنها “فتنة”، وذلك في محاولة مبكرة من "قيادة الحركة" للتقرب من النظام السوري.
كانت ملاحظات إيران في محلها؛ حيث برز جناح مهادن لإيران في صفوف مجموعات “عز الدين القسام” بغزة ، بقيادة "رئيس أركان المقاومة" محمد ضيف ، و"عضو المكتب السياسي في الحركة" محمود الزهار ، والذي أدلى بتصريحات رافضة لأي تدخل عسكري في سوريا ، معتبراً أن: “الأولوية للمقاومة، وليست للمشروع السياسي الذي سيذهب إلى الاستسلام لـ(إسرائيل) بعنوان التصالح والتسوية والسلم، وأنه لا يمكن التفريط في محور المقاومة الذي استطاع تحقيق إنجازات متتابعة في لبنان وغزة والعراق”.
وبحلول "مايو" 2017؛ تمكن الجناح المؤيد لإيران من إزاحة خالد مشعل وفريقه عن "قيادة الحركة"، في انتخابات الهيئة السياسية، حيث تم تعيين إسماعيل هنية "رئيساً للمكتب السياسي"، ويحيى السنوار قائداً سياسياً وعسكرياً لقطاع غزة ، وصالح العاروري "نائباً لرئيس المكتب السياسي"، بالإضافة إلى: ماهر صلاح ، وحسام بدران ، وأسامة حمدان ، وعزت الرشق ، وغيرهم من الشخصيات التي انحازت بصورة صارخة للمعسكر الإيراني .
وكان أول عمل قام به الفريق الجديد هو زيارة إيران في العام نفسه (2017) حيث دار الحديث عن إمكانية قيام إيران بدور الوساطة مع دمشق ، وذلك ضمن سياسة جديدة تقوم على إعادة ترتيب علاقات "الحركة" الخارجية بما في ذلك ترميم العلاقة مع نظام بشار الأسد .
وسعى الفريق الجديد إلى تعزيز علاقاته مع إيران منذ ذلك الحين، ففي زيارة أخرى عام 2019؛ وافقت طهران على مضاعفة الدعم الشهري بواقع 30 مليون دولار، وذلك في أعقاب اللقاء الذي جمع "قيادات الحركة" بعلي خامنئي ، واندفعت إيران عقب ذلك الاجتماع للتقريب بين “حماس” ونظام دمشق خلال عامي 2019 و2020، إلا أن بشار الأسد أبدى تعنتاً كبيراً في المفاوضات.
ودفعت العراقيل التي وضعها بشار أمام الوساطة الإيرانية؛ بـ"الأمين العام" لميليشا “حزب الله” ، حسن نصر الله ، للتدخل في نهاية عام 2020، ومحاولة إقناع دمشق بإبداء المرونة في المفاوضات غير المعلنة مع "الحركة"، حيث تحدثت مصادر أمنية عن إحراز تقدم ملحوظ في محادثات جرت بين "الحركة" ودمشق تم تدشينها عقب لقاء "رئيس المكتب السياسي للحركة" إسماعيل هنية بحسن نصر الله ، في بيروت ("سبتمبر" 2020)، ودار الحديث عن إمكانية السماح بعودة بعض "قادة الحركة" إلى سوريا ، ونُقل عن "برلماني" إيراني قوله: “إن جهود الوساطة تسير في الاتجاه الصحيح وستتجسد قريباً”، مؤكداً أن "القائد السابق لـ"فيلق القدس""، قاسم سليماني، قاد جزءاً من الجهود قبل مقتله.
وكبادرة حسن نية للدفع بالمفاوضات؛ قدمت “حماس” عدة إشارات إيجابية تجاه النظام، منها إدانة القصف "الإسرائيلي" لمواقع في سوريا (30 "ديسمبر" 2020).
التعليمات جاءت من موسكو
في هذه الأثناء؛ كان "قادة الحركة" يستجدون وساطة رديفة من قبل روسيا للتقارب مع دمشق، وذلك في أعقاب اللقاء الموسع الذي استضافته موسكو للفصائل الفلسطينية ("فبراير" 2019)، حيث قام وفد من “حماس” بزيارة ثانية للعاصمة الروسية في شهر يوليو من العام نفسه، وطلبوا من وزير الخارجية سيرغي لافروف، ومن المسؤولين في الخارجية الروسية، المساعدة في إعادة العلاقة مع النظام السوري.
ودار الحديث آنذاك عن إمكانية دعم "الحركة" خطة روسية تتضمن توحيد الفصائل الفلسطينية، وتحقيق موطئ قدم في “رام الله” بالتعاون مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والذي رأى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيه شريكاً يمكن التعويل عليه لإخراج نظام دمشق من عزلته، وتشكيل سياسة مناهضة للولايات المتحدة إزاء القضية الفلسطينية آنذاك.
ورأى تقرير أمني غربي (15 "يناير" 2021) أن روسيا بدت بعيدة عن الوساطة الإيرانية بين “حماس” والنظام السوري في الظاهر، إلا إنها كانت تدفع خلف الكواليس نحو تحقيق ذلك التقارب، حيث زار "قادة الحركة" العاصمة الروسية موسكو عدة مرات وأجروا مباحثات مع مسؤولين روس، ونتج عن تلك الزيارات مبادرة إسماعيل هنية بطلب وساطة موسكو بين النظام وفئات من المعارضة السورية في العام الماضي، وذلك عقب لقاء جمعه بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
ونقل رجل الأعمال الروسي المرتبط بمجموعة “فاغنر”؛ يفغيني بريغوزين، عن رئيس اللجنة المالية بـ"المجلس التشريعي الفلسطيني"، عاطف عدوان، تأكيده إمكانية عودة العلاقات بين دمشق و”حماس” إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، حيث كان بوتين قد بدأ في تكثيف جهوده لإعادة الاعتبار لبشار الأسد وفك العزلة عنه في المحيط العربي، رغبةً منه في تعزيز النفوذ الروسي في الصراع العربي-"الإسرائيلي" من خلال تقوية قبضة نظام دمشق على الفصائل الفلسطينية.
التنافس بين “رام الله” و”غزة” على كسب ود دمشق
لكن “حماس” لم تكن وحيدة في ساحة استجداء رضى سفاح دمشق، بل كانت المنافسة تجري على أشدها بين “رام الله” و”غزة” رغم المعاناة التي لحقت بفلسطينيي سوريا والجرائم التي ارتكبتها ميلشيات الأسد ضد مخيم اليرموك، حيث تحدث تقرير أمني عن محاولات بذلتها "تل أبيب"، عام 2017، لتشكيل ائتلاف إقليمي يضعف النفوذ الإيراني، ويتضمن إبرام اتفاق بين محمود عباس والسيسي بهدف كسر عزلة دمشق مقابل ابتعادها عن إيران و”حزب الله”.
وأكد التقرير عقد مسؤولين مصريين لقاءات مع شخصيات “هامة” سورية، تناولت إمكانية تقليص النفوذ الإيراني مقابل تطبيع العلاقة الدبلوماسية والاقتصادية مع دمشق، ودفع الفصائل الفلسطينية لتحسين علاقاتها مع دمشق، وإعادتها إلى دائرة النفوذ في الملف الفلسطيني.
وتحدث موقع “ديبكا” الأمني عن جهود بذلها صهر الرئيس الأمريكي السابق جارد كوشنر لدفع الفلسطينيين إلى إبرام اتفاق سلام شامل مع "إسرائيل"، وتشكيل قيادة فلسطينية موحدة من خلال الضغط على محمود عباس للتوصل إلى تفاهمات مع "قادة فتح" المتمردين، وإنهاء حكم “حماس” في غزة من خلال مصالحة يتم بموجبها تعيين وزراء من “حماس” في حكومة موسعة يتم تشكيلها في “رام الله”، وفتح معبر رفح وتقديم مساعدات لغزة التي كانت تعاني من ضائقة شديدة.
لكن الزعيم الفلسطيني، الذي كان يبلغ من العمر 82 عاماً -آنذاك-، لم يتعاون مع تلك المبادرة لتوجسه من بعض الدول العربية وشكوكه بوجود محاولات لاستبداله بقيادة شابة بديلة، ما دفعه لعرقلة جهود رأب الصدع الفلسطيني.
وانتهزت “حماس” الفرصة التي ضيعها عباس ، مبدية استعدادها للقبول بوساطة تهدف إلى إزالة حالة الاحتقان مع النظام السوري، حيث أكد "رئيس الحركة" في قطاع غزة، يحيى السنوار، أن "الحركة" لا تمانع في عودة علاقاتها مع النظام السوري، مشيراً إلى أن: “الانفراجة التي تشهدها الأزمة السورية الداخلية ستفتح آفاق ترميم العلاقة وعودتها مع النظام السوري” ("سبتمبر" 2017).
ودفعت تصريحات السنوار بمحمود عباس لإعادة تقييم موقفه، حيث بادر من طرفه إلى اتخاذ إجراءات “أحادية” لتحسين العلاقات مع دمشق، تضمنت إرسال خمسة وفود من “فتح” لتحسين العلاقات مع سوريا خلال الفترة (2018-2020)، وكان أبرزها إرسال "عضو مركزية حركة فتح" عزام الأحمد على رأس وفد رفيع المستوى (17 "يناير" 2020) إلى دمشق للمشاركة في "احتفال انطلاقة الثورة الفلسطينية"، وبمعيته ع"ضو اللجنة التنفيذية" واصل أبو يوسف، و"عضو اللجنة المركزية لحركة فتح" ومفوض الأقاليم الخارجية، سمير الرفاعي.
وتزامنت تلك الزيارة مع تصريح أدلى به القيادي البارز في “فتح” نبيل شعث، أكد فيه أن: “سوريا التي يوجد بها تواجد فلسطيني مهم، تبقى دولة عربية مهمة رغم المشاكل التي كانت معها”.
وتحدث موقع “ألمونيتور” (27 "يناير" 2020) عن احتدام المنافسة بين “فتح” و”حماس” لكسب ود الأسد، حيث نُقل عن قيادي فلسطيني يقيم في دمشق، قوله إن: “زيارة الوفد تأتي كحضور سياسي لـ"حركة فتح" في دمشق، رداً على زيارة إسماعيل هنية "رئيس المكتب السياسي لحماس" إلى طهران”، ونقل الموقع عن أحد الخبراء قوله، إن الهدف الرئيس من الزيارة هو تحريض النظام السوري ضد “حماس”، وإفشال محاولات إسماعيل هنية لاستعادة العلاقة مع دمشق عبر طهران.
ونقل الموقع عن الكاتب الفلسطيني، صبري عرابي، تأكيده عقد “لقاءات سرية” بين “حماس” وممثلين عن النظام السوري بوساطة من “حزب الله” وطهران، وأن الأصوات تتعالى داخل "الحركة" لاستئناف العلاقات مع سوريا التي لم تبدي تعاوناً مع الوساطة الإيرانية آنذاك.
ويبدو أن التعنت السابق لدمشق مع الوساطة الإيرانية لتحسين العلاقة مع “حماس” قد دفع بالسلطة الفلسطينية لبذل المزيد من جهود التقارب مع الأسد، ففي "يوليو" 2020، أرسل محمود عباس نائب رئيس مجلس الوزراء الفلسطيني “زياد أبو عمرو” إلى دمشق، حاملاً رسالة عبر فيها الرئيس الفلسطيني عن "تضامنه مع سوريا التي تتعرض لعدوان (إسرائيلي)-أمريكي"، مؤكداً: “نحن في نفس المركب وفي نفس الخندق”.
وشكل افتتاح هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية مقراً رسمياً لها في دمشق ("يناير" 2021) بحضور ممثلين عن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية و"حركة فتح" حلقة جديدة في جهود تطبيع العلاقات بين السلطة الفلسطينية ونظام بشار الأسد، حيث أدلى عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، عزام الأحمد، بتصريح لصحيفة “الوطن” التابعة للنظام، قال فيه: “أنا اليوم في دمشق بزيارة معلنة، وليس سراً هناك من سبقني قبل أيام في زيارات غير معلنة”، وبشأن زيارة عباس لدمشق، أكد أن: “ الزيارة واردة، وأعتقد أنها ستكون قريبة إن شاء الله ” .
وتوجت "جهود التقارب" ببرقية تهنئة لبشار الأسد لدى إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية (29 "مايو" 2021) أعرب فيها محمود عباس عن: “اعتزازه بعلاقات الأخوة والاحترام المتبادل التي تجمع الشعبين والبلدين، وعن حرصه على تعزيزها، لما فيه خيرهما، ومصلحتهما المشتركة”.
أزمة مواقف أم أزمة تصريحات ؟
على الرغم من حرص "قيادة حماس" على إخفاء اتصالاتها مع النظام السوري عبر الوسطاء في موسكو وطهران وبيروت، طوال الفترة ("مايو" 2017- "مايو" 2021) ، إلا أن تصريحات أسامة حمدان جاءت لإشهار العلاقة غير المشروعة مع بشار الأسد، والتي يُتوقع أن تأخذ منحى جديداً في الأيام المقبلة، حيث تواجه "قيادة الحركة" مأزقاً حقيقياً جراء تعرض الأراضي الفلسطينية عموماً وقطاع غزة على وجه الخصوص لمصاعب اقتصادية وخسائر فادحة، ما دفع بـ"قيادة الحركة" لتبني سياسة جديدة تتضمن تغيير الخطاب السياسي والإعلامي، والمطالبة برفع حالة الحصار فيما يُمكّنها من مواجهة أزماتها الداخلية، والتي اضطرتها في الآونة الأخيرة إلى تسريح موظفين، وإغلاق مؤسسات ودمج أخرى، وتأخير صرف الرواتب، والاعتماد على دفع سُلف للموظفين المدنيين والعسكريين، وتخفيض نفقات "قادة مكتبها السياسي"، ونفقات "الحركة" بأكثر من 70 بالمئة.
ونظراً للتعقيدات التي تواجهها غزة في تحصيل مخصصات الميزانية الرسمية للقطاع (والتي بلغت 1,4 مليار دولار عام 2021)؛ فإن "حركة حماس" تعتمد على مصادر غير رسمية، تشمل التعامل في الأسواق الخارجية عبر وسطاء وعملاء، ومعونات يتم دفعها من خلال بعض المشروعات الخدمية، وتشكل المساهمة الإيرانية نحو 350 مليون دولار، وفق تقديرات مصادر أمنية مطلعة، وهي مساهمة ضئيلة إذا ما قورنت بالتسهيلات والمبالغ التي تقدمها أنقرة وبعض الدول العربية، والتي تفوق الدعم الإيراني بمراحل.
ولا يمكن تبرير انحياز "قادة الحركة" للهيمنة الإيرانية، ورهن القضية الفلسطينية لمشروع التوسع الإيراني ، والتغاضي عن جراحات الشعوب العربية التي عانت ويلات الحقد الطائفي والدمار على يد "الحرس الثوري الإيراني" خلال السنوات الماضية، من غير المقبول إزاحة قضية القدس المركزية من إطارها العربي-الإسلامي ، ورهنها لصالح نظام قم، وإدارة "حماس" ظهرها للجمهور العربي الساخط إزاء تلك المواقف المخزية.
وبعيداً عن الجدليات التي يسوقها بعض "قياديي الحركة" لتبرير مواقفهم إزاء طهران ودمشق؛ لا بد من التأكيد على أن الأزمة لا تقتصر على مجرد تصريحات أدلى بها كل من حمدان والسنوار وزملائهما من الجناح “الإيراني” المهيمن على "قيادة الحركة" اليوم، بل يتعلق بكمٍّ هائل من التفاصيل التي تُعرض هذه الدراسة عن سردها لإثبات العلاقة العضوية التي باتت تربط "كوادر الحركة" مع أذرع "الحرس الثوري الإيراني" وشبكاته الخارجية، وما وصلت إليه تلك العلاقة -غير المشروعة- من تكامل حركي، وصل بقادتها إلى مستوى التزلف لسفاح دمشق، وطلب الوساطات الروسية والإيرانية واللبنانية للتقرب إليه، والتغني بأوهام “العصر الذهبي للحركة خلال إقامة كوادرها في سوريا”.
لطالما تفاخر "قادة حماس" بقدرتهم على تنويع تحالفاتهم، وببراغماتيتهم السياسية، وبراعتهم في توظيف التناقضات العربية والإقليمية لـ"مصلحة القضية"، إلا أن التوجه الجديد لـ"الحركة"، والمتمثل في انحياز فريق السنوار وحمدان باتجاه مشروع التوسع الإيراني (عن عقيدة وقناعة يعرفها المقربون منهم)، لا شك وأنه سيعود عليهم بخسائر فادحة وسيقلص فرص المناورة لديهم، وسيكون له تأثير سلبي على القضية الفلسطينية التي كانت تحظى بتعاطف عربي وإسلامي واسع قبل أن يدير "قادة الحركة" ظهورهم للشارع العربي ، ويستبدلونه بالمراهنة على نظام متهالك ومستنفذ اقتصادياً وليس لديه ما يقدمه لـ"الحركة" سوى الخزي والعار.
المرصد الاستراتيجي
19/10/1442
31/5/2021