أحداث لبنان... التاريخ يعيد نفسه!!!

بواسطة الشيخ / هشام برغش قراءة 2419

 

أحداث لبنان... التاريخ يعيد نفسه!!!

 

السبت 10 رجب 1427هـ – 5 أغسطس 2006م

 

 

رؤية تاريخية لأحداث لبنان.. والموقف الشرعي منها

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛

مفكرة الإسلام : فإذا كان هناك من حديث اليوم؛ فلا يسع المتحدث أن يتناول غير موضوع الساعة الذي يشغل الأمة اليوم، وهو العدوان الصهيوني الغاشم على إخواننا في لبنان وفلسطين.

وإن كان أكثر المتحدثين في هذه القضية قد تناولوها من زاوية واحدة ومن جانب واحد؛ ينطلق من عاطفة مجردة مغيبة عن عبرة التاريخ، وقبل ذلك بعيدة عن المنطلقات العقدية والشرعية التي ينبغي أن تهيمن على الرؤى والمواقف.

فكل حدث يمثل صورة يختلف الناس حولها بحسب زاوية نظرهم لها وبحسب الجزء الذي يقع عليه نظرهم منها.

منذ سنوات وحزب الله يقصف الصهاينة فيقتل منهم ويأسر آخرين، ويضحي الحزب بقائده السابق عباس الموسوي، ويُقتل أيضًا هادي نصر الله ابن القائد الحالي, وقاتل حزب الله العدو الصهيوني، وألحق به ضربات موجعة، وكسر كبرياءه وغطرسته، وحرم المواطنين اليهود في شمال فلسطين الأمن والأمان طيلة عقد ونصف من عمر الزمن.

وحرر الحزب جنوب لبنان لتكون أول أرض عربية تحرر من الصهاينة بالقوة، وها هو الآن يقصف حيفا ونهاريا وعكا بالصواريخ, وهو ما لم تجرؤ عليه أية حكومة أو أي زعيم عربي، ودك الحزب أربع عشرة منطقة صهيونية بعشرات الصواريخ فأصاب 500 مبنى في الكيان الصهيوني، ما دفع مليون صهيوني للنوم في الملاجئ وهجر مدنهم وقراهم طلباً للأمن, ما يعطل الكثير من القدرات الإنتاجية، كما أنّ هذه الحرب تكلّف الخزينة الحكومية الصهيونية يومياً ما بين 100 - 150 مليون دولار، كمصاريف حربيّة فقط، وحوالي 1.6 مليار دولار خسائر أسبوعية.

هذا هو الجزء الأبرز ظهوراً في الصورة, وهو حق ومن العدل ذكره والفرح بمصاب العدو وبتحرير جزء من الأرض كما فرح المسلمون بنصر الروم على الفرس؛ لأن الروم أهل كتاب والفرس مشركون: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ}. [الرُّوم: 1-5].

هذا إضافة لما حصل بعد عملية الوعد الحق من 'تخفيف' الهجوم الصهيوني على غزة، وتشتيت الجهد اليهودي وتوسيع دائرة المعركة.

وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

لكن من الخطأ عدم النظر لباقي أجزاء الصورة ليكتمل التصور الصحيح للحدث.

وهل فَرَحُ المؤمنين بغلبة الروم على الفرس الذي قال عنه القرآن {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ} كان مانعاً لهم أن يقفوا بوجه الإمبراطورية الرومانية العاتية المتسلطة؟!

إن الأمر في الحقيقة حينها لم يتعد قدرًا من المفاضلة بين أعداء لا تنقل بهجة النصر أحدهم إلى مصاف الحلفاء. فهناك فرق بين أن تفرح بالفعل وأن تفرح لفاعله.

وإذا كنا نعترف بقتال حزب الله للجيش الصهيوني المحتل، فإننا نريد أن نضع هذا القتال في إطاره الصحيح دون زيادة ولا نقصان، وفصله عن هذا الإطار تشويه لتاريخنا الحديث، ومسخ للحقيقة، واستهتار بعقول أبناء أمتنا.

وفي مثل هذا الحدث لا ينفك الجانب السياسي عن العقدي كما يرتبط فيه الواقع بالتاريخ؛ لأننا بإزاء حزب عقائدي بجذر تاريخي يمارس الحرب والسياسة.

 وإن من أعظم النكبات التي تصاب بها الأمم هي نكبة الغفلة والنسيان، وأخشى أن تكون الأمة العربية والإسلامية قد نزل بها هذا الداء، فما أسرع أن تصدق الذين يرفعون الشعارات البراقة الذين يقومون ببعض الأعمال التي تُبقي عليهم ولا تهزم عدوًا.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

كتبه للمفكرة

الشيخ / هشام برغش

 

 

المرحلة التي سبقت تأسيس 'حزب الله'

عندما انسحبت القوات الصهيونية من جنوب لبنان عام 2000، والذي جاء قبل موعده المحدد، كان مناسبة استثمرها قادة الطائفة الشيعية من العرب والعجم استثمارًا نادر المثال، لاسيما وأن القوم يعرفون كيف يستغلون مثل هذه المناسبات.

لقد دعوا إلى مهرجانات خطابية في كل دولة ومدينة، بل في كل حي من الأحياء، ومن أهم ما قيل بـهذه المناسبة: الحديث الذي أدلى به الأمين العام لحزب الله اللبناني لإحدى الفضائيات العربية التي يستمع إليها عشرات الملايين من الناطقين بالعربية، ويبدو أن نصر الله قد أعد حديثه إعدادًا جيدًا، وعرف كيف يدغدغ عواطف المستمعين، كما عرف كيف يغمز الآخرين، والآخرون بالتأكيد ليسوا من أبناء طائفته.

تفاعل الناس، كل الناس مع القائد المنتصر، وأسبغوا عليه ألقابًا وأوصافًا ما سمع بمثلها صلاح الدين بطل حطين، ومحرر القدس من رجس الصليبيين، وأقول: ما سمع بمثلها صلاح الدين مع علمي بأن الشيعة يكرهونه غاية الكره، لكنني لا أعرف أن عندهم بطلاً مثل صلاح الدين أو أقل لنشبه نصر الله به، وذلك لأن للقوم موقفًا سلبيًا من الجهاد كله ليس هذا موضع الحديث عنه، وإن كان طلاب العلم من السنة والشيعة يعرفونه.

ويمكن القول: إنه لم يُعرف حدث معاصر أيده الحكام والمحكومون من الأوربيين الشرقيين والغربيين، والعرب، واليهود كهذا الحدث، ولكل فلسفته في هذا الشأن:

فاليهود تخلصوا من ورطة كلفتهم عددًا كبيرًا من الضحايا، كما كلفتهم بلايين الدولارات.

والأوربيون - على مختلف دولهم - يحرصون على استقلال لبنان، ولا يتم هذا الاستقلال إلا إذا خرجت القوات العسكرية التي احتلته، ولهذا فهم يطالبون بخروج القوات العسكرية السورية بعد الصهيونية.

ومعظم أجهزة إعلام الحكومات العربية بالغت في نفاقها لحكومتي سورية ولبنان اللتين تدعمان حزب الله.

وأحزاب الشيطان وأعوانه وجدوا في هذا الحدث مادة خصبة للهجوم المسف على دعاة وجماعات أهل السنة.. هؤلاء - على حد زعمهم - الذين لا يعرفون إلا ترويع الآمنين، والتآمر على سلامة المواطنين، وإثارة النعرات الطائفية، وزرع الخوف والإرهاب في كل مكان تطؤه أقدامهم.

وكثير من الجماعات والهيئات الإسلامية السنية، أقاموا المهرجانات والاحتفالات وأرسلوا برقيات التأييد والتهنئة لقادة حزب الله مشفوعة بأسمى آيات التبجيل والتعظيم.. وإن تعجب فاعجب لقول أحد قادة هذه الجماعات لحسن نصر الله: إنك مجدد هذا العصر، وآخر يقول: إنك قدوة لشباب الإسلام.. يحدث هذا وملايين الناس يستمعون، وحق لأتباع هؤلاء القادة الذين ابتليت بـهم أمتنا في آخر هذا الزمان أن يقولوا: هذا والله هو الإسلام [الشيعي] وهؤلاء هم الرجال والقادة والعلماء!!

 ولم يتعظ هؤلاء من تسرعهم وأسلافِهم في تأييد ثورة الخميني، وقد اكتووا من طعنات وغدر الشيعة بـهم، ووقوفهم إلى جانب أعدائهم!!

وفي مثل هذه الساعات الحرجة والمواقف المختلطة تختلط المفاهيم وتتبعثر الأوراق ويضيق فريق منا ذرعًا من حوارنا معهم، ويردون علينا قائلين:

هل تريدون منا أن نقول: لا، لم يقاتل الشيعة في جنوب لبنان، ولم يقدموا ضحايا، وبالتالي: لم ينتصروا، ولم يرغموا الجيش الصهيوني على مغادرة لبنان قبل الموعد المقرر؟!

ونقول لهؤلاء: مهلاً يا إخواننا: إننا ما أردنا ولا نريد بخس الناس حقوقهم، وندرك جيدًا أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نقول الحق كما أمرنا بالعدل في أمورنا كلها، وحاشا لله أن ننكر أن حزب الله قاتل العدو الصهيوني، وألحق به ضربات موجعة، وكسر كبرياءه وغطرسته، وحرم المواطنين اليهود في شمال فلسطين الأمن والأمان طيلة عقد ونصف من عمر الزمن... وكما يحدث الآن...

وإذا كنا نعترف بقتال حزب الله للجيش الصهيوني المحتل، فإننا نريد أن نضع هذا القتال في إطاره الصحيح دون زيادة ولا نقصان، وفصله عن هذا الإطار تشويه لتاريخنا الحديث، ومسخ للحقيقة، واستهتار بعقول أبناء أمتنا، ومن أجل وضع الأمور في إطارها الصحيح.

 

دعونا نبدأ القصة من أولها:

ومن أجل وضع الأمور في إطارها الصحيح: دعونا نبدأ القصة من أولها:

أولاً لابد من التأكيد على حقيقة مهمة, وهي أنه وعلى مر تاريخ الصراع بين المسلمين واليهود على بيت المقدس قديمًا وحديثًا لا نعرف للشيعة مشاركة في هذا الجهاد المبارك، بل ومن المؤسف أن شيوخهم في هذه المراحل كانوا مشغولين بتأليف الكتب التي يتهجمون بها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وأما عن بداية الوجود الفلسطيني في لبنان فيرجع إلى عام 1948؛ حيث التجأ عدد كبير من الفلسطينيين إلى لبنان بعد الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية في عام 1948، واستوطنت الغالبية العظمى منهم في بيروت وجنوب لبنان، ثم تضاعف هذا العدد بعد حرب أيلول 1970 بين منظمة التحرير والجيش الأردني، وانتقال عدد كبير من أعضاء المنظمة إلى لبنان، وما كانت لبنان لتقبل هؤلاء الوافدين الجدد لولا ضغط دول الجامعة العربية من جهة، وتعاطف أهل السنة حكامًا ومحكومين داخل لبنان من جهة أخرى.

وتزايدت العمليات الفدائية التي تنطلق من الجنوب اللبناني ضد العدو الصهيوني بعد عام 1970، ولم تكن معدومة قبل هذا التاريخ، وكانت العلاقات بين الجيش وقوات الأمن اللبنانية من جهة، ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى دائمة التوتر، لكنها لم تكن كذلك مع معظم رؤساء الوزارات اللبنانية.

وكان أهل السنة داخل لبنان وخارجه يتعاطفون ويتعاونون مع منظمة التحرير، ويُعتَبرونَ عمقًا لها، أما غير أهل السنة فيمد يده إليهم عندما تكون له مصلحة، وينأى بنفسه عنهم عندما لا تكون لهم معه مصلحة.

ثم فتحت منظمة التحرير صدرها للشيعة في جنوب لبنان، وكانت لها صلات وثيقة مع رئيس المجلس الشيعي الأعلى موسى الصدر، والصدر مواطن إيراني سيأتي التعريف بسيرته ونشأته قريبًا.

وفي عام 1969 أنشأ الصدر المجلس الشيعي الأعلى، وأصبح رئيسًا له، وكان ذلك بعد وصوله بعشر سنين، وكان للسنة والشيعة مجلس واحد قبل هذا التاريخ [1969].

وفي عام 1973 شكل الصدر منظمة أمل، واسمها قبل الاختصار 'أفواج المقاومة اللبنانية'، وما كانت هذه المنظمة لتنشأ لولا احتضان منظمة فتح لها، وفتح مراكزها لتدريب الشيعة المنتمين إليها.

وفي هذا العام 1973 ساءت علاقة الصدر مع أجهزة الأمن الإيرانية، فانتقل إلى صفوف المعارضة، وأخذ أصدقاؤه في 'فتح' يدربون أتباع الخميني.

وأغرت حركة أمل منظمة فتح فقدمت خدمات جليلة لثوار الخميني قبل وصولهم إلى الحكم، وبعد توليهم الحكم سارعت أمل إلى مبايعة الخميني إمامًا للمسلمين، ثم جددت هذه البيعة عام 1982، أما منظمة فتح فما كانت تدري أنها تستميت في تدريب ومساعدة قاتليها.

وخلاصة القول: أن الإيرانيين الشيعة الوافدين إلى لبنان هم الذين أسسوا حركة أمل، وما نبيه بري- وهو الذي تولى قيادة حركة أمل فيما بعد والذي تولى كبر جريمة ذبح سنة لبنان – ما هذا إلاّ تلميذ ضمه أستاذه مصطفى جمران وزير الدفاع الإيراني، والذي كان يتولى الإشراف على فروع منظمة أمل قبل الثورة الإيرانية- فضمه إلى تنظيمه الذي أسسه في 'كاليفورنيا' عام 1966 وسماه 'رابطة الطلبة المسلمين'، ولم يكن للأستاذ وتلميذه قبل هذا التاريخ توجهات إسلامية..

 

المؤامرة:

كان تفاعل أهل السنة في لبنان مع منظمة فتح تفاعلاً كبيرًا، وكل من كان يزور لبنان ويتفقد مدنه وقراه ومخيماته، لابد وأن يلمس آثار هذا التفاعل في خطب العلماء ودروسهم، وعلى ألسنة الطلبة في معاهدهم وجامعاتـهم، وفي تصريحات السياسيين [من المنتسبين للسنة] رغم اختلاف ميولهم.

أما غير أهل السنة فمواقفهم كانت عدائية، وإن كانت أساليبهم مختلفة، فمنهم من ركب موجة الجبهة الوطنية [ومنظمة التحرير عضو في هذه الجبهة] ثم انقض عليها أو تخلى عنها في أحرج الأوقات، ومن الأمثلة على ذلك: دروز جنبلاط، وشيعة موسى الصدر، ومنهم من جاهر بعداوته منذ البداية، وحاولت فتح أن تستميلهم ففشلت، ومثالنا على ذلك نصارى لبنان وبالأخص الموارنة.. وما زالت الاحتكاكات تتطور بينهم وبين المنظمة إلى أن وصلت الأمور إلى حرب أهلية بعد مجزرة 'عين الرمانة' في 13/4/1975 م.

وفي 5/6/1976 دخلت القوات السورية إلى لبنان، وكان الأسد يوهم كل طرف من أطراف الصراع في لبنان بأن هذا التدخل لمصلحته، كما كان يردد داخل سوريا بأنه ما غامر ولا تدخل إلا لإنقاذ المقاومة الفلسطينية.

فهل فعلاً كان تدخل الأسد لإنقاذ المقاومة الفلسطينية والوطنية؟! وهل هو من أصحاب المغامرات الذين يتدخلون ولو أدى هذا التدخل إلى حرب مع الكيان الصهيوني؟!!

الذين يعرفونه يؤكدون أنه ليس من أصحاب المغامرات، وليس واردًا البتة أن يزج بنفسه في حرب مع الكيان الصهيوني بسبب حفنة من المشاغبين الفلسطينيين.

وهو في مسألة تدخله في لبنان، لم يتدخل إلا بعد مضي أكثر من عام على حرب دموية مدمرة، وبعد حصوله على تفويض من جامعة الدول العربية، بل قدمت له هذه الدول مساعدات مغرية مقابل قبوله التدخل في لبنان، ومن جهة أخرى، فقد طالبت جهات لبنانية كثيرة بتدخله، وفي مقدمة هؤلاء: السلطة، والموارنة، والشيعة، وآخرون غيرهم.

ومع ذلك لم يغامر الأسد لأن الكيان الصهيوني لم يأذن له: حيث صرح وزير حرب الكيان الصهيوني شمعون بيريز لصحيفة معاريف [8/1/1976] بأن إسرائيل لن تبقى مكتوفة الأيدي، في حال حدوث أي تدخل سوري في لبنان.

وجاء التدخل الأمريكي بعد هذا التصريح؛ حيث نقلت وكالة اليونايتد برس من واشنطن [يوم 27/1/1976] ما يلي:

'إن وزارة الخارجية الأمريكية أكدت أنها تقوم بنقل الرسائل من إسرائيل إلى سوريا، حول الوضع في الجنوب اللبناني، وقال فردريك براون المتحدث باسم الوزارة في تصريح للصحافيين: إننا على اتصال مع حكومات سوريا وإسرائيل ولبنان، وإننا نراقب الوضع من كثب. واعترفت الصحف الإسرائيلية بأن اتصالات من هذا النوع قد جرت، وأوضحت أن سورية أكدت لمسئولين أمريكيين، أن وجود قواتـها في الجنوب إنما يستهدف المقاومة واليساريين اللبنانيين'.

 

وتحدث كيسنجر أمام لجنة الاعتمادات بالكونغرس فقال: 'إن الولايات المتحدة تلعب دورًا رئيسًا في لبنان، وإننا شجعنا المبادرة السورية هناك، إن الوضع يسير لصالحنا ويمكن رؤية خطوط تسوية'.

وبمثل هذا القول، قال المتحدث بلسان البيت الأبيض [رونالد نيسين]، والمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية.

وتغير موقف الكيان الصهيوني بعد الدور الذي لعبه المسئولون الأمريكان [والذين لا نعلم عنهم إلا القليل] بين كل من سوريا ولبنان والكيان الصهيوني، فوزير الحرب - بيريز - الذي كان يعارض التدخل أصدر تصريحاً لوكالات الأنباء في 2/6/1976 قال فيه:

'التدخل السوري موجه ضد ياسر عرفات وحلفائه، والقوات السورية دخلت الشمال والوسط وليس الجنوب'.

وقال موشيه دايان: 'إن على إسرائيل أن تظل في موقف المراقب حتى لو غزت القوات السورية بيروت واخترقت الخط الأحمر، لأن غزو القوات السورية للبنان، ليس عملاً موجهًا ضد أمن إسرائيل'. [وكالة الصحافة الفرنسية 5/6/1976].

وأعلن رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين في تصريح نقلته إذاعتهم: 'إن إسرائيل لا تجد سببًا يدعوها لمنع الجيش السوري من التوغل في لبنان. فهذا الجيش يهاجم الفلسطينيين، وتدخلنا عندئذٍ سيكون بمنزلة تقديم المساعدة للفلسطينيين، ويجب علينا ألا نزعج القوات السورية أثناء قتلها للفلسطينيين, فهي تقوم بمهمة لا تخفى نتائجها الحسنة بالنسبة لنا'.

الكيان الصهيوني لا يلقي القول على عواهنه عندما تقول على لسان وزير حربها: إن هدفنا هو نفس هدف دمشق بالنسبة للمسألة اللبنانية، وأوربا وأمريكا لا يوافقون على التدخل السوري إلا إذا قامت الأدلة القطعية عندهم التي تؤكد أنه ضد منظمة التحرير ولمصلحة حلفائهم.

إذن فقوات الأسد لم تدخل إلى لبنان لإنقاذ المقاومة من الهلاك والهزيمة الماحقة كما كان يدعي أمام المواطنين في سوريا وفي بعض المحافل العربية، وإنما لتنفيذ المخطط الذي جاءت تصريحات اليهود والأمريكان والموارنة لتفضحه.

ولمزيد من الإيضاح لهذه الحقيقة ننتقل إلى الحديث عما جرى على أرض الواقع بلبنان بعد التدخل السوري:

 - فقد شق نظام حافظ الأسد منظمة التحرير، فمنظمة الصاعقة وجهت بنادقها إلى صدور رفاقهم في منظمة التحرير، ثم شق فتح، ثم الجبهة الشعبية – جورج حبش-.

- ثم شق الحركة الوطنية، فخرجت منها حركة أمل ومنظمة البعث وآخرون، وحسب تدبير مسبق أوعز موسى الصدر - والصدر مواطن إيراني أرسله مدير الأمن العام الإيراني الجنرال بختيار إلى لبنان عام 1958 بمهمة ظاهرها ديني دعوي مع أنه لا يعد من علماء الشيعة، وباطنها سياسي طائفي، والذين انتدبوه لهذا الغرض سهلوا له طريق الوصول إلى القصر الجمهوري، وإقامة علاقات مريبة مع رئيس الجمهورية فؤاد شهاب وبطانته، وخلال فترة قصيرة تمكن الصدر من الحصول على الجنسية اللبنانية بموجب مرسوم جمهوري، وأنشأ عددًا كبيرًا من المدارس والنوادي والجمعيات والحسينيات، في سائر أنحاء مناطق الشيعة، وجعلها مركزاً لأنشطته.

وفي عام 1969 أنشأ الصدر المجلس الشيعي الأعلى، وأصبح رئيسًا له، وكان ذلك بعد وصوله بعشر سنين، وكان للسنة والشيعة مجلس واحد قبل هذا التاريخ [1969]. – إذن فأول من سعى للتمايز والاستقلالية لأغراض حزبية طائفية هم الشيعة-.

وفي عام 1973 شكل الصدر منظمة أمل، مع العلم أن هذه المنظمة لم تكن لتنشأ لولا احتضان منظمة فتح لها، وفتح مراكزها لتدريب الشيعة المنتمين إليها, فأوعز موسى الصدر لضباط الشيعة العاملين في صفوف جيش لبنان العربي، فانفصلوا عنه، وكان انفصالهم - وهم الذين يتولون مسئوليات مهمة فيه ويعرفون أدق أسراره - ضربة قاتلة لهذا الجيش الذي كان يُعد أملاً من آمال الحركة الوطنية، وكان قد تمكن قبل دخول القوات السورية من السيطرة على معظم الأراضي والمواقع اللبنانية.

- وانتصرت القوات السورية الغازية على القوات الوطنية والفلسطينية في كل من البقاع، وعكار، وجبل وصيدا، وفرضت الحصار المحكم على البر والبحر والجو، ومنعت الأسلحة والمؤن من الوصول إلى قوات الحركة الوطنية.

- وقد وقعت معارك بين الدروز والموارنة، وبين الشيعة والموارنة، لكنها كانت قليلة، ولها أسبابـها، أما العدو المشترك طوال هذه الحرب فهم أهل السنة اللبنانيون والفلسطينيون، وتناوب على حربـهم: اليهود، والقوات النصيرية السورية، والموارنة، وحركة أمل بدعم قوي من الشيعة، والدروز، وكانت بعض هذه القوى تتعاون وتنسق فيما بينها، وقد يكون هذا التنسيق علنيًا ميدانيًا، وقد يكون غير مباشر عن طريق وسيط آخر، وأقوى الوسطاء وأكثرهم فاعلية الأمريكان عن طريق مبعوثهم الدائم في المنطقة.

 

وهذه هي لغة الأرقام:

- انفرد الموارنة باحتلال وتدمير المخيمات التالية: الكرنتينا، وجسر الباشا، وبرج حمود، وكانوا يتلقون الدعم من الكيان الصهيوني، ومن الجيش اللبناني.

- انفردت القوات النصيرية باحتلال البقاع، وعكار، والجبل، وصيدا، وما كان ذلك ممكنًا لولا انشقاق الشيعة وعملاء النظام السوري عن المقاومة والحركة الوطنية.

- دفع النظام النصيري عملائه الفلسطينيين أمثال المنشقين من فتح وأحمد جبريل لمواجهة إخوانـهم في مخيمي البداوي ونهر البارد، فسقط المخيمان في نـهاية عام 1983، وكانت الخسائر في الأموال والأرواح فادحة، كما أن عملاء سوريا كانوا واجهة وستارًا للقوات السورية الغازية.

- حاصرت قوات الموارنة مخيم تل الزعتر في أواخر يونيو من عام 1976، وثبت سكان المخيم ثباتًا مشرفًا، وسقط المخيم في 14/8/1976، وكانت القوات الصهيونية والنصيرية متورطة في هذه المجزرة، أما القوات الصهيونية فقد كُشف النقاب عن تورط وزير حرب الكيان الصهيوني شمعون بيريز في جلسة من جلسات الكنيست، أما تورط القوات السورية فتحدث عنه ضباط عرب كانوا مشاركين فيما سمي بقوات الردع العربية.

- شاركت في الهجوم على طرابلس في الأسبوع الأخير من الشهر التاسع عام 1985 كل من القوات الآتية: القوات النصيرية، وميليشيا النصيريين في حي [بعل محسن] أو الحزب العربي الديموقراطي، والحزب السوري القومي، والحزب الشيوعي، ومنظمة حزب البعث، وساهمت القوات اللبنانية في هذه الحرب؛ إذ منعت نقل المحروقات والطحين إلى طرابلس، وسقطت المدينة في 6/10/1985 بعد معارك دامية.

- أما مذبحة صبرا وشاتيلا؛ فقد جاءت بعد مقتل بشير الجميل، ومع أن قاتله نصراني وقومي سوري، وسوريا حافظ الأسد هي المحرض، إلا أن فلسطينيي صبرا وشاتيلا هم من تعرض لانتقام القوات اللبنانية؟!

كانت هذه القوات تقتل الشباب والشيوخ والأطفال، وكانت القوات اليهودية تحميها، وهذا ما شهد به العالم، وشهدت به معارضة حكومة بيجن، وعلى إثرها أبعد شارون عن وزارة الحرب.

ثم هاجمت قوات أمل الشيعية مخيمي صبرا وشاتيلا، وارتكبت فيهما مجازر أبشع من التي ارتكبها اليهود والقوات اللبنانية، فحتى المرضى في مستشفى غزة لم يسلموا من المجزرة، ومما زاد من هول المذبحة وبشاعتها، انضمام اللواء السادس في الجيش اللبناني لحركة أمل بأوامر مباشرة من نبيه بري؛ لأن أفراده وقيادته من الشيعة، وليقرأ من شاء الفظائع التي ارتكبتها قوات أمل في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة في كتاب أمل والمخيمات الفلسطينية، ص: 89 - 109.

 

 وقد قام القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية بإذاعة تقرير حول المجازر التي ارتكبتها قوات أمل، وبعد نشر هذا التقرير وجهت المنظمة التي تطلق على نفسها اسم 'الجهاد الإسلامي' تـهديدًا لمراسلي الصحف الأجنبية، فاضطرت هيئة الإذاعة البريطانية إلى سحب مراسليها الثلاثة خوفًا على حياتـهم.

ومنظمة 'الجهاد الإسلامي' إنما هي ستار كان حزب الله يتوارى خلفه عند بداية تأسيسه، وهذا ما سوف نتحدث عنه إن شاء الله قريبًا.

* * *

و لقد شهد العالم أجمع [عربه وعجمه] أن هدف القوات السورية والقوات الإسرائيلية من دخول لبنان هو إخراج المقاومة، وكانت هذه القوات تنسق فيما بينها في اجتماعات سرية أو عن طريق وسيط.

فقد صرح العقيد القذافي أن: 'ليبيا تقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وتعارض التدخل العسكري السوري في لبنان، لقد حذّرنا سوريا من تصرفها هذا، وإذا كانت سوريا تريد السلام الآن على حساب الفلسطينيين، وتريد تصفية المقاومة الفلسطينية، فلا يمكننا أن نلزم الصمت، ونعتقد أن من الخيانة الوطنية محاولة تصفية المقاومة الفلسطينية، وإننا نأمل أن تعيد سوريا النظر في موقفها'.

وقال عبد السلام جلود: 'هناك مؤامرة عربية ودولية ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان، وقد وقع الاختيار على النظام السوري لتنفيذ هذه المؤامرة'.

وهذه الشهادة جاءت من نظام صديق وحليف لسوريا في تلك المرحلة، وهناك جهات عربية وإعلامية أخرى هاجمت النظام السوري واتـهمته بتنفيذ مخطط مشبوه ضد القضية الفلسطينية.

وفي 8/9/1976 نشرت التايم اللندنية مقالاً تحت عنوان: إسرائيل تشارك في حرب لبنان سرًا جاء فيه:

'إن التفاهم غير المعلن بين إسرائيل والنظام السوري، بسحب قواته العسكرية الموجودة في الجبهة، ونقلها تدريجياً إلى لبنان وإلى الحدود مع العراق'.

وأضافت المجلة: 'إن هذه التدابير قد وضعت الإسرائيليين في الجانب الذي يقف فيه النظام السوري بعد تدخله الفعلي إلى جانب قوى اليمين، والذي يتحدد بالأساس، بتصفية الفدائيين الفلسطينيين، تمهيداً لفرض تسوية سلمية لمشكلة الشرق الأوسط، وتقوم إسرائيل بفرض حصار بحري على عدة موانئ لبنانية يسيطر عليها الوطنيون وخاصة مينائيْ صيدا وصور لمنع وصول الأسلحة إلى الوطنيين والمقاومة. لقد استطاعت إسرائيل بعملها هذا الحصول على سيطرة فعلية، على شريط من الأرض جنوب لبنان يمتد حتى نهر الليطاني.

 

وقالت المجلة: 'إن عدداً من أركان النظام السوري الحاكم حضروا الاجتماع الموسع الأخير، بين شمعون بيريز والقوى اليمينية في جونية، حيث شجع المباحثات بيريز، على إمضاء ليلة على سفينة الشحن التي أقلته إلى لبنان'.

لقد كان التدخل الصهيوني سريًا في لبنان عام 1976، ثم بدأ يميل شيئًا فشيئًا إلى العلنية حتى جاء الاجتياح الصهيوني إلى لبنان في: 4/6/1982، وفرضت القوات الصهيونية حصارًا على بيروت الغربية لم تشهده من قبل، وما رفعوا الحصار حتى خرجت المقاومة من لبنان، وعندما كان بعض الفلسطينيين [الذين احتفظوا بعلاقات لا بأس بها مع حافظ الأسد ونظامه] يطلبون من حافظ الأسد التدخل لرفع الحصار عنهم، كان يقول لهم: 'إنه ليس هناك كيان فلسطيني، وليس هناك شعب فلسطيني، بل سوريا, وأنتم جزء من الشعب السوري، وفلسطين جزء لا يتجزأ من سوريا، وإذن نحن المسئولون الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني'. [ينظر: هذه وصيتي لكمال جنبلاط، ص: 105].

أما ما قاله حافظ الأسد لمبعوث عرفات فهو: 'أريد أن تـهلكوا جميعًا لأنكم أوباش'.

بقي أن نقول: إن خسائر أهل السنة في لبنان لم تكن قاصرة على خروج المقاومة، ولا على المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون في مخيماتهم!!!

لم يكن الأمر كذلك، فالدبابات النصيرية التي كانت تجوب شوارع صيدا تحصد أرواح المدنيين، وتقصف واجهات المحلات التجارية، وتوقع خسائر مذهلة في مبنى المستشفى الكائن في ضاحية من ضواحي صيدا الجنوبية، وقد كان المعتدون يعلمون أن صيدا لبنانية وليست فلسطينية، ومعظم سكانها من السنة.

وطرابلس التي استباحها النظام النصيري لبنانية سنية وليست فلسطينية، وكذلك بيروت الغربية التي اقتصر حصار الكيان الصهيوني عليها وحدها، دون أن يتعرض سكان بيروت الشرقية لأي أذى.

وبينما كانت بيروت الغربية تضمد الجراحات التي خلفها الحصار اليهودي، وتظن أن الغمة قد فُرِجَتْ إذ بها تفاجأ باجتياح قوات أمل الشيعية وقوات جنبلاط لحماها، ويرتكب الغزاة الجدد من الفظائع التي لم يرتكبها اليهود من قبل، ثم يقع صراع بين طرفي الغزاة أيهم يسيطر على مساحة أكبر وأهم.

ولم يسلم كبار العلماء من طغيان النظام النصيري حيث أقدمت قواتـهم على اغتيال مفتي لبنان رحمه الله، مع أن الرجل كان مسالماً، ثم اغتالت الشيخ صبحي الصالح وهو الرجل الثاني في المؤسسة الإسلامية السنية، وجدير بالذكر أن الشيخين الفاضلين ليس لهما أدنى صلة بالسلاح وحملته، لكنه الحقد الباطني ضد أهل السنة.

ومع خروج المقاومة الفلسطينية أجبروا القوات اللبنانية السنية على مغادرة لبنان.. وهناك آلاف من شباب أهل السنة المتمسكين بدينهم، العاملين من أجل رفع راية الإسلام، استطاعوا الفرار من لبنان هائمين على وجوههم لا يدرون أين يضعون عصا التسيار، ومن لم يحالفه الحظ في الهروب، كان مصيره السجن في سوريا!!

وبخروج القوات السنية من الفلسطينيين واللبنانيين، طُوي شعار تحرير فلسطين، كل فلسطين من البحر وحتى النهر، ورفعت كل دولة عربية تحرير ما احتلته إسرائيل عام 1967م، وحيل بين الشعوب ونصرتها لإخوانهم المستضعفين في فلسطين المحتلة.

إننا لا نستغرب غدر الموارنة، ولا خبث وكيد الباطنيين، لكننا نستغرب ضحالة فكر وعلم المغفلين من أهل السنة الذين يفصلون الحدث عن ماضيه، ويصفقون للذين قد قتلوا بالأمس أطفالهم، وبقروا بطون أخواتـهم، وتناسوا تعاون هؤلاء‍ مع اليهود!! ووقوفهم صفًا واحدًا يتزعمه الأمريكان، هدفه استئصال الوجود السني من لبنان ليأمن الكيان الصهيوني وينام قرير العين.

 

نشأة حزب الله وظهوره

 

مع إطلالة عام 1982م كانت حركة أمل الشيعية التي تأسست عام 1973 قد أدت الدور المطلوب منها، واستنفدت أغراضها، ولم تعد صالحة في عهد الخميني وثورته الإسلامية، ويعود ذلك لأسباب كثيرة أهمها:

1 - ارتباط مؤسس هذه الحركة - موسى الصدر - بأنظمة مشبوهة: منها: نظام شاه إيران ومخابرات [السافاك]. ومن المعروف أن هذه المخابرات هي التي أرسلته عام 1958 إلى لبنان، لتجميع صفوف الشيعة، ومقاومة المد الناصري في لبنان وبقية الدول العربية.

2 - لم تعد حركة أمل مقبولة خارج إطار معظم الشيعة في لبنان، وخاصة بعد تحالفها مع قوات النظام النصيري، وبعد أن تبيّن للجميع أنها كانت تنسق مع القوات الغازية قبل دخولها إلى لبنان.

3- أنها أصبحت مرفوضة عند أهل السنة وبعض الشيعة، وعند معظم الحركات الوطنية خارج لبنان، وليس من مصلحة إيران أن تتبنى ورقة محروقة، لأن طموحاتـها في لبنان واسعة وتحتاج إلى ترتيب جديد.

 

هذه الطموحات الجديدة يحدثنا عنها حجة الإسلام فخر روحاني - سفير إيران في لبنان - في مقابلة أجرتها معه صحيفة اطلاعات الإيرانية في نـهاية الشهر الأول من عام 1984، يقول روحاني عن لبنان:

'لبنان يشبه الآن إيران عام 1977، ولو نراقب ونعمل بدقة وصبر، فإنه إن شاء الله سيجيء إلى أحضاننا، وبسبب موقع لبنان وهو قلب المنطقة، وأحد أهم المراكز العالمية، فإنه عندما يأتي لبنان إلى أحضان الجمهورية الإسلامية، فسوف يتبعه الباقون'.

ونقلت صحيفة النهار اللبنانية [11/1/1984] عن السفير نفسه - روحاني - قوله: 'لبنان يشكل خير أمل لتصدير الثورة الإسلامية'.

* * *

وإذا كان لبنان بوابة إيران إلى البلدان العربية والإسلامية .. وإذا كان هذا الحزب الجديد سيكلف بمهمات أكبر من حجم لبنان .. وإذا كان الحزب الجديد لن يتمكن من منافسة منظمة أمل إلا إذا كان مدعومًا دعمًا قويًا من إيران .. إذن لابد أن يتولى الخميني بنفسه هذه المهمة، وهذا الذي حدث:

منذ الاجتياح الصهيوني للبنان 1982 بدأت قوات الحرس الثوري الإيراني تتسلل إلى لبنان عن طريق سوريا وبالتنسيق معها، وأقامت هذه القوات مخيمين لتدريب الشيعة: الأول في الزبداني، وهي بلدة سورية على حدودها مع لبنان، والثاني في بعلبك اللبنانية، وكانت القوات السورية تشارك في التدريب، وفي تنظيم دخول قوات الحرس الثوري إلى لبنان دون تأشيرة، وهل يستطيع الأمن اللبناني محاسبة السوريين عن مثل هذه الأمور؟!

وعلى هامش 'المؤتمر الأول للمستضعفين' اجتمع الخميني بعدد من علماء ودعاة الشيعة الذين شاركوا في هذا المؤتمر، وكان من بينهم: محمد حسين فضل الله، صبحي الطفيلي، وممثل حركة أمل في طهران إبراهيم أمين، وتدارس معهم الخطوات الأولى اللازمة من أجل إنشاء هذا الحزب الجديد.

عاد الوفد إلى لبنان، وكثَّف من اتصالاته مع وجهاء وعلماء الطائفة الذين لم يشاركوا في لقاء طهران، ثم تكرر لقاؤهم بالخميني، ووضعوا وإياه الخطوط العريضة لحزب الله. يقول أحمد الموسوي في مقال له بمجلة الشراع: 'من أنتم.. حزب الله':

'ثم استكملت الخطوط التنظيمية الأولى باختيار هيئة قيادية للحزب ضمت 12 عضواً هم: عباس الموسوي، صبحي الطفيلي، حسين الموسوي، حسن نصر الله، حسين خليل، إبراهيم أمين، راغب حرب، محمد يزبك، نعيم قاسم، علي كوراني، محمد رعد، محمد فنيش.

 

وكان مركز قيادة الحزب الفعلية لا الشكلية هو السفارة الإيرانية، ومن الأطراف التي كانت تشارك في اجتماعات قيادة الحزب وفي اتخاذ القرارات، سفير إيران السابق في دمشق - محتشمي- وقائد الحرس الثوري في لبنان.

ويجتمع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية اجتماعات دورية في طهران، وبحوزتهم عدد من معسكرات التدريب موزعة بين إيران وسوريا ولبنان، ففي إيران لهم أربعة معسكرات، وفي سوريا اثنان: معسكر السيدة زينب، ومعسكر الزبداني، وفي لبنان: معسكر الشيخ عبد الله، ومعسكر الدركي، وكلاهما في بعلبك'.

فنحن إذن أمام تنظيم عالمي يرعاه الخميني أو من يمثله، والمنظمات التي يتألف منها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية تؤدي مهمة مزدوجة: الأولى محلية، والثانية عالمية، والقيادة طهران الآيات.

وبعد تفجير مقريْ المارينز ووحدة المظليين الفرنسيين، وجه حزب الله البرقيات التالية للخميني:

'إن شعبكم المسلم في لبنان والمرتبط بولايتكم يرفع إلى مقامكم أسمى التبريكات والتهاني لمناسبة انتصار حماة الإسلام.. نرفع إليكم التهاني ببركة حركتكم الشعبية المتصاعدة في لبنان وفي بيروت حيث الضربة الحيدرية والخمينية لمقري قيادتي القوات الأمريكية والفرنسية'.

وأما عن العملية نفسها التي استهدفت المارينز في بيروت والمظليين الفرنسيين فقد نفى الطفيلي أمين عام الحزب وقتها مسئولية الحزب عنها كما في مقابلته مع الجزيرة الفضائية في 23/7/2004، كما نفى الديراني مسئولية الحزب عن عملية السفارة الأميركية في بيروت – فالقوم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا, ويستغلون أمثال هذه الأحداث لتحقيق مكاسب جماهيرية من الشعوب التي لا تحركها إلا العاطفة.

وخلال أشهر قليلة، وُلِدَ وترعرع في لبنان حزب يعتبر من أكبر وأغنى الأحزاب اللبنانية على الإطلاق بما فيها حزب الكتائب الذي مضى على تأسيسه أكثر من خمسين عامًا.. كيف حدث ذلك؟!

الذين يثيرون مثل هذا السؤال يعرفون الجهود المضنية التي يبذلها كل من أراد أن يشكل حزبًا سياسيًا، فهو من جهة لا بد له من صياغة مبادئ مقنعة لهذا الحزب، ومن جهة أخرى لا بد له من إقناع الناس بجدوى هذه المبادئ، وقدرتـها على منافسة الأحزاب الأخرى، وقد يمر عقد أو عقدان، دون أن يتطور هذا الحزب، ويحتل مكان الصدارة في ميادين الأنشطة السياسية.

لكن هؤلاء الذين يثيرون مثل هذا السؤال يجهلون أن الإمامية - الاثني عشرية - هم أقرب ما يكونون إلى الحزب، فمراجعهم من الآيات يتولون مركز قيادة الطائفة، والمتمسكون بدينهم من أبناء الطائفة هم قاعدة هذا الحزب، وحتى غير المتمسكين بدينهم لبعضهم دور داخل هذا التنظيم، أما المناهج والأهداف، والتستر خلف شعارات براقة تستقطب الجماهير [التقية]، فللقوم باع طويل في هذا المجال، وخبرة عريقة عمرها هو عمر التاريخ الإسلامي.

 وعندما جاءت الأوامر والتعليمات من آية الله روح الله الخميني، قال معظم شيعة لبنان: سمعًا وطاعة للإمام وحكومته، فكم نتمنى أن يكون عند المنظرين الفلاسفة ممن ينعقون بما لا يعرفون معلومات كافية عن عقائد الشيعة وآياتـهم وطبيعة تكوينهم.. وكم نتمنى أن يدركوا أهمية المرجعية في نشأة وتطور الطوائف والأحزاب والجماعات، ولو أدركوا ذلك لوفروا على أنفسهم هذه الأوقات والجهود التي يهدرونـها، وجعلوا القضية الأولى في مسيرتـهم الدعوية هي قضية المرجعية.

أما التمويل المادي لحزب الله فقد تكفلت به قيادتهم في إيران، ويقول المختصون بالشأن الإيراني: إن هذه المساعدات بلغت في بداية رئاسة رفسنجاني الثانية حوالي [280 مليون دولار]، وهذا غير السلاح والعتاد الحربي الذي كان يشحن لهم عن طريق سوريا، ومن الأرقام الأخرى التي تذكر [12 مليونًا] في الشهر، ويقول علي نوري زاده: بلغت المساعدات عام 1993 [160 مليونًا]، وجاء في كتاب الحروب السرية:

'بلغت الأجرة الشهرية للمقاتل خمسة آلاف ليرة لبنانية، وهي أعلى أجرة تقاضاها مقاتل في لبنان عام 1986...'.

ولو نظرنا إلى الجانبين: الاقتصادي والاجتماعي في حزب الله لوجدنا أنفسنا أمام دولة وليس أمام حزب: فمن المؤسسات التعليمية إلى المؤسسات الصحية، إلى مؤسسات البناء والتجارة، وغير ذلك كثير.

مع العلم أن مساعدة إيران للفلسطينيين مازالت محدودة جدًا، بل صرح أحد قادة الفصائل الفلسطينية أنهم لا يصلهم دولار واحد من إيران، وأن هذه التصريحات الإيرانية هي لدغدغة مشاعر الجماهير وللاستهلاك المحلي فقط، ولتحقيق مكاسب إعلامية وسياسية؛ وكمثال على ذلك ما وعدت به إيران حكومة حماس؛ حيث قال وزير الخارجية الإيراني في مؤتمر صحافي في طهران: [إنّ إجراءات المساهمة بخمسين مليون دولار لا تزال في مرحلة صنع القرار [بعد أربعة أشهر من الوعد].. ولم يتم سداد المبلغ الذي تحدثت عنه]!

 

 

 

مراحل مسيرة 'حزب الله'

تأكد عندنا فيما مضى أن حزب الله مؤسسة إيرانية في ثوب لبناني، وهذا يعني أنه لا بد لنا من استعراض الأوضاع العامة في إيران لنتعرف من خلالها على أهداف هذا الحزب في مرحلته الأولى.

كانت إيران في عام 1982 [وهو العام الذي تأسس فيه الحزب] تخوض حربًا شرسة مع العراق، وكانت الكفة قد بدأت تميل لمصلحة العراق، ولم يكن ذلك متوقعًا؛ لأن عدد سكان إيران ثلاثة أمثال عدد سكان العراق، ونسبة الشيعة العراقيين تتجاوز 40% قليلاً، وكثير من هؤلاء سيكونون 'طابورًا خامسًا' لمصلحة إيران، وكان شاه إيران قد ترك للآيات جيشًا قويًا، وأسلحة متطورة.

إيران كانت تعتقد أن العراق ما كان ليتفوق عليها لولا الدعم المادي الذي كان يتلقاه من دول الخليج، وبشكل خاص من السعودية والكويت، وهذا الاعتقاد صحيح لأن دول الخليج كانت مهددة من إيران التي رفعت شعار تصدير الثورة منذ تولي الآيات زمام الحكم، وكانت تدافع عن نفسها من خلال المساعدات التي تقدمها للعراق.

وإذن: فإن أهداف الحزب في مرحلته الأولى لن تتجاوز ما يلي:

1 – تصدير الثورة الإيرانية للبنان، ومر معنا فيما مضى مقابلة حجة الإسلام فخر روحاني سفير إيران في بيروت، وقوله الذي نقلته عنه النهار: 'لبنان يشكل خير أمل لتصدير الثورة الإسلامية'.

وهذا الهدف ـ تصدير الثورة ـ توليه إيران عناية خاصة وتقيم لأجله الحروب، ولولا تصدير الثورة لما وقعت حرب إيران مع العراق، وإن ادعى الإيرانيون أن العراق هي التي بدأت هذه الحرب.

2 - توجيه ضربات موجعة لكل من السعودية والكويت لدعمهما العراق في حربه ضدها.

وبالفعل ففي 12/12/1983 هزت الكويت سبعة انفجارات: ثلاثة منها وقعت في مصالح أمريكية، وثلاثة أخرى في مؤسسات كويتية هي: الشعيبة الصناعية، ومبنى المراقبة والتحكم الآلي التابع لوزارة الكهرباء والماء، وبرج المراقبة في مطار الكويت الدولي، والانفجار السابع أمام مقر السفارة الفرنسية في حي الجابرية السكني.

وفي عام 1985 تعرض الأمير الشيخ جابر الأحمد لمحاولة اغتيال عندما اعترضت الموكب سيارة مفخخة في عملية انتحارية لم يكتب لها النجاح، ونجا الأمير من الموت بأعجوبة.

- وأما السعودية فقد حاولوا إثارة الفتن أثناء حجهم إليها وابتدعوا في حجهم ما أسموه 'مسيرة الوحدة' والبراءة من الشيطان، وكان الحجاج الإيرانيون يحملون معهم الأسلحة, وهكذا حولوا موسم الحج إلى ساحة حرب، ففي عام 1987 سقط عشرات القتلى، وامتلأت مستشفيات ومستوصفات مكة بالجرحى. 

* * *

هذه بعض الأعمال الإرهابية التي نفذها حزب الله في المرحلة الأولى التي أعقبت تأسيسه، وكانت البيانات التي تصدر بعد كل عملية تنسب إلى: منظمة الجهاد الإسلامي، أو منظمة العدالة الثورية، أو المقهورون في الأرض، وكلها أسماء وهمية ليس لها أصل، يقول صبحي الطفيلي الأمين العام الأسبق لحزب الله: 'تضم الجهاد الإسلامي كل الذين يريدون التستر خلف اسم ما دون الإعلان عن هويتهم'.

ومن جهة أخرى فقد كان الغرب والشرق يعلم أن حزب الله هو الذي ينفذ هذه العمليات نيابة عن إيران، وكانت بعض الدول الغربية تضطر إلى التفاوض مع إيران بشكل سري، من أجل إطلاق سراح المخطوفين، ولعل كثيرًا من المتابعين ما زالوا يذكرون فضيحة 'إيران جيت' التي كشفها جناح آية الله حسين المنتظري عن طريق مجلة الشراع اللبنانية، وتعرض صاحبها لمحاولة اغتيال بسبب نشره لأسرار هذه الصفقة بين إيران - الثورة الإسلامية - وبين الشيطان الأكبر.

إيران كانت تدعي أن الأمريكان هم العدو رقم [1] للإسلام والمسلمين، وأنه لا مجال لأي لقاء أو تفاهم أو حوار بينهما، وأمريكا التي تتشدد في مقاطعة إيران زعيمة الإرهاب في العالم، ثم يكتشف العالم قضية الطائرة الأمريكية التي هبطت في مطار طهران، وهي محملة بقطع الغيار، وعلى متنها وفد من كبار المسئولين في البيت الأبيض، أرسلهم الرئيس الأسبق 'ريجان' للتفاوض مع نظرائهم من مساعدي الخميني.

ولسائل أن يسأل: ما هي علاقة حزب الله بالأعمال الإرهابية التي وقعت في الكويت وفي السعودية؟!

والجواب: حزب الله هو العضو الأهم في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وهذا المجلس هو الذي كان ينظم العمليات الإرهابية في الجزيرة وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، وفي جميع هذه العمليات كان يجري اعتقال لبنانيين من أعضاء الحزب، ومن جهة ثانية [وهذا هو الأهم] فقد كان يجري تدريب المنظمات الشيعية الإرهابية في لبنان، وكان حزب الله ينظم عمليات تهريب الأسلحة والمتفجرات إلى إخوانهم في الجزيرة العربية، ففي عام 1987 اكتشف حكام الخليج 12 ألف قطعة سلاح بين بنادق كلاشينكوف، وقواذف صواريخ آر بي جي، ورشاشات ثقيلة ومتوسطة، واحتجت كل من السعودية والكويت والإمارات عند حافظ الأسد لأن بعض ضباط أمنه كانوا متورطين مع حزب الله في هذه العملية..

 

المرحلة الثانية من مسيرة الحزب:

حدثت أمور مهمة على الساحتين اللبنانية والعربية، من أهمها:

1 - أنهى المؤتمر اللبناني الذي عُقد في مدينة الطائف السعودية، حالة الفوضى، وعادت الدولة لتبسط نفوذها على الأراضي اللبنانية غير الخاضعة للاحتلال.

ولم يكن حزب الله راضيًا عن مؤتمر الطائف لأنه قطع الطريق على قيام جمهوريتهم الإسلامية في لبنان، ولهذا فلقد عمت مظاهراتهم التي تهاجم السعودية والوهابية مختلف المدن التي ينتشرون فيها، وإذا كانت السعودية قد ضغطت على الفرقاء اللبنانيين من أجل نجاح المؤتمر، فما علاقة ذلك بالإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته التوحيدية الإصلاحية؟!

أجل، لا بد أن يبرز الحقد الرافضي الباطني على ألسنة القوم، وعلى جميع مواقفهم وأفعالهم، وما تخفي صدورهم أعظم وأخطر.

2 - وافقت إيران الخميني على إنهاء حربها مع العراق، وهذا يعني خروجها من هذه الحرب مهزومة.

إذن : لا بد من أن يكون الهدف الجديد متناسبًا مع ما جد من أمور مهمة، كما لا بد من أن تشارك أطراف ثلاثة في رسمه: إيران وسوريا والحزب.

فسوريا التي تحتل معظم الأراضي اللبنانية من مصلحتها أن تحارب الكيان الصهيوني بقوات حزب الله، لتجبرها على الانسحاب من الجولان، وعقد معاهدة سلام معها، ومن مصلحتها أيضًا ألا تعود قوات المجاهدين السنة إلى جنوب لبنان، لأن عودتـها تشكل خطرًا على النظام النصيري في دمشق، وفضلاً عن هذا وذاك، فإن دعم حزب الله يضمن عودة القوات السورية إلى بيروت، التي أجبرت على الابتعاد عنها بعد اجتياح قوات الصهاينة لبيروت وجنوب لبنان.

وإيران لا تزال تصر على تصدير الثورة، لكنها سلكت طريقًا آخر يختلف عما كان عليه الحال أيام الخميني، فأسلوب المواجهة الذي اتبعه إمامهم فشل وعاد عليهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.

 أما الأسلوب الجديد الذي سلكه رفسنجاني فليس فيه أي استفزاز للعرب، وعلى العكس فإنه يعتمد على الشعارات التي يفتقدها جمهورنا، ومن هنا جاءت دعوتـهم إلى تحرير فلسطين والمقدسات الإسلامية، ورفع راية الجهاد في سبيل الله، ومساعدة الهيئات والجماعات السنية التي ترفع هذا الشعار، وبالتالي لا تستطيع الحكومات العربية والأجنبية تجاهل إيران ودورها في معاهدات السلام العربية مع الكيان الصهيوني، وسيبقى لبنان بوابة إيران إلى البلدان العربية، وسيبقى حزب الله الجهة الوحيدة المنتدبة من أجل تحقيق أهداف إيران وطموحاتها. حصر حزب الله جل اهتماماته في مقاومة الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان، وعادت سوريا إلى بيروت كما كانت وأشد، ومن الصلاحيات الجديدة والمتعسفة التي مارسها النظام نزع سلاح الأحزاب والميليشيات إلا سلاح حزب الله، وإغلاق فضائيات الأحزاب إلا 'تلفاز حزب الله'، ومنعت الجماعات الإسلامية السنية والأحزاب الوطنية من الجهاد في الجنوب اللبناني، وكانت هذه الجماعات قد أدت دورًا مهمًا في مقاومة الاحتلال، وأوقعت خسائر فادحة في جيش العدو المحتل، باعتراف الكيان الصهيوني نفسه كما سيأتي في حقيقة انتصار حزب الله عام 2000م، وقدمت عددًا كبيرًا من الشهداء، فلماذا يمنعون من الجهاد في سبيل الله؟!

 ألأنهم من أهل السنة؟! وإذا كان قادة حزب الله وزعماؤهم في طهران يدعون أن ثورتـهم لجميع المسلمين؛ فلماذا هذا التعصب الطائفي ضد بقية فصائل المسلمين؟!!

وبلغ دعم إيران للحزب أوجه في هذه المرحلة، فقد جاء في تقرير وجهه أحد الدبلوماسيين الأوربيين إلى حكومته في مطلع صيف 1986، وكشف فيه أبعاد اللعبة السورية، ما يلي:

'تقوم طائرات الشحن الإيرانية من طراز بوينج 747 بالإقلاع والهبوط ثلاث مرات في الأسبوع، على طرف مدرج مطار دمشق، ناقلة حمولات غامضة، فالبضائع التي تفرغ عبارة عن أسلحة خفيفة مرسلة إلى [حراس الثورة] الذين يشرفون على تدريب أتباع حزب الله في معسكر زبداني بالقرب من دمشق، أو في المعسكرات الكائنة في منطقة بعلبك. أما البضائع المحملة فهي مدافع هاون وصواريخ مضادة للطيران من طراز سات. كذلك يحفل ميناء اللاذقية بنشاط من هذا النوع'.

وهذا الدعم الذي كان حزب الله يتلقاه من سوريا وصنيعتها - الحكومة اللبنانية - ومن إيران، لا يمنعنا - كما سبق في أول كلامنا - من إعادة القول: لقد قاتل الحزب قوات الاحتلال الصهيوني قتالاً ضاريًا، وكان القادة نماذج حية لجنود الحزب، فالأمين العام الأسبق عباس الموسوي، قتل وهو يتفقد المواقع في فبراير 1992، والأمين العام الحالي حسن نصر الله فقد ابنه في إحدى المعارك، وأثبت الحزب أنه من حيث التدريب والإعداد في مستوى المهمة التي انتدب لها.

ومما يجدر ذكره أن النجاحات التي حققها من أجل تحرير الجنوب جعلت الناس ينسون أو يتناسون أعماله الإرهابية التي كانت في وقتها حديث العالم كله، وكذلك ينسون أو يتناسون الأهداف التي أنشئ لأجلها الحزب ودوره الخطير في تصدير الثورة الإيرانية و دعم المشروع الرافضي الإيراني في المنطقة، ومع تحسين صورته في أعين الناس فقد تحسنت صورة إيران.

 

 

حقيقة وحجم انتصار حزب الله في الجنوب اللبناني عام 2000 وآثاره

 

يقول الكاتب اليهودي 'آريه ناؤور' [معاريف: 26/5/2000]: 'عندما بدأت حرب لبنان - أي سنة 1982 - سميت [حملة سلامة الجليل] وكان يفترض بالحملة أن تستغرق 48 ساعة، على عمق 40 كيلومترًا، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن لمجموعة من كبار الضباط على مشارف بيروت: أنتم تعرفون جيدًا أنني ما كنت سأصدق على حملة تنطوي على عدد كبير من الإصابات تزيد على بضع عشرات من جانبنا، وبعد وقت قصير من ذلك ارتفع عدد ضحايانا إلى 500، فأغلق بيجن على نفسه في بيته ولم يجد ما يواسيه، ولشهامته - وهل في اليهود شهم!! - لم يتهم أحدًا، وفي آخر مرة يظهر فيها أمام مركز الليكود قال: إنه يجري في لبنان مأساة، ومنذئذٍ ارتفع عدد ضحايانا ضعفين وأكثر..'.

وهنا يثور سؤال: من الذي أوقع هذا العدد الكبير من قتلى اليهود الذين بلغوا [500]، كما يقول الكاتب اليهودي [آريه ناؤور]؟!

أما حزب الله فلم يكن قد ظهر إلى الوجود عام 1982، وأما حركة أمل فقد كانت تقف في الطرف المعادي للذين أحسنوا إليها - منظمة التحرير - فلم يبق إلا أهل السنة من الفلسطينيين واللبنانيين، وما كانت القوات النصيرية بقادرة على منعهم لأنها قابعة على الحدود السورية اللبنانية.

هذه هي مسألة اجتياح إسرائيل للأراضي اللبنانية.. وهذه هي أهداف حملة سلامة الجليل، حيث تلاقت مصلحة الموارنة اللبنانيين مع الكيان الصهيوني؛ فبشير الجميل أراد من وراء هذه الحملة إخراج منظمة التحرير وقوات الجيش السوري من لبنان، وبيجن أراد عقد اتفاقية سلام مع لبنان تنهي حالة الحرب.

إلا أن موقف بشير الجميل بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية تغير من الكيان الصهيوني، واعتذر عن عقد اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني لأن الوقت غير مناسب، ووعد بالعمل من أجل تهيئة الأجواء التي تسمح بذلك، وصُدِمَ بيجين أكثر من موقف الزعيم الماروني بيار الجميل - والد بشير الجميل - الذي أكد تمسكه بالموقف العربي العام.

وتعارضت المصالح الصهيونية مع المصالح المارونية، وسقطت نظرية الزعيم اليهودي 'بن جوريون' الذي كان ينادي بدولة مارونية في لبنان تتحالف مع الكيان الصهيوني ضد الإسلام السني العربي، وبعد أن فقدت إسرائيل أي أمل بالموارنة، فقد راحت تبحث عن مخرج لها من ورطتها منذ عام 1982.

 

 ولهذا لم نستغرب أن يعلن باراك تعهده بالانسحاب من لبنان فور فوزه بالانتخابات الإسرائيلية، ووعد أن يكون ذلك بعد عام واحد، أما لماذا كان الانسحاب قبل شهرين من الموعد المحدد؛ فلأن الكيان الصهيوني أراد تفويت الفرصة على النظام السوري للاستفادة من ورقة ضغط كانت بيده؛ حيث كان حافظ الأسد يعلق آمالاً عريضة على جبهة حزب الله مع الكيان الصهيوني، وإذا طالبت حكومة باراك المسئولين اللبنانيين بتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة كان الرد السوري واللبناني: الانسحاب من لبنان والجولان صفقة واحدة لا تتجزأ، وبعد تكرار هذا الرد، أرادت حكومة باراك سلب سوريا هذه الورقة الوحيدة التي تستخدمها في الضغط على الكيان الصهيوني، وجاء اتخاذ هذا القرار بعد فشل مفاوضات واشنطن، وفشل لقاء الأسد مع كلينتون في سويسرا.

وفوجئت سوريا بقرار الانسحاب، وحاولت استغلال عدم انسحاب الكيان الصهيوني من مزارع 'شبعا'، فجاءت التهديدات الصهيونية بأنها ستعتبر سوريا مسئولة عن أي هجوم يشنه حزب الله بعد الانسحاب، وستهاجم البنية العسكرية السورية في لبنان، وأنـها ستضرب الجسور المقامة على طريق دمشق بيروت السريع، ومنشآت سورية رئيسة في بيروت ووادي البقاع [عن رويتر 24/5/2000].

فما كان من الأسد إلا التراجع!! وسكت الجميع عن مزارع 'شبعا' والتي يقدر عدد سكان هذه المنطقة بحوالي [70 ألفاً], وهم من أهل السنة.. ثم تغيرت المواقف، وصارت أجهزة إعلام حزب الله وكل من حكومة: لبنان وسوريا وإيران، تتغنى بـهذا النصر الكاسح الذي حققه الحزب، وقال نصر الله فيما قاله: إن عصر الهزائم العربية قد انتهى، وعاد السكان إلى قراهم. وتولى حزب الله حفظ الأمن في الجنوب, فلم تطلق حتى رصاصة واحدة باتجاه الجليل.

هذه هي حقيقة هذا الانتصار الذي حققه حزب الله ومن يقف وراءه آنذاك.. وهذه صفحات موجزة تحكي المأساة التي صنعها الثنائي الإيراني النصيري في لبنان.. وهذه هي مأساة أهل السنة في هذا البلد المنكوب المحتل.

 

ثمار الانتصار العظيم !!! :

وأما عن ثمار هذا الانتصار العظيم بالنسبة للأمة والمقاومة ؛ فيحدثنا عن بعضها سلطان أبو العينين أمين سر حركة فتح في لبنان؛ حيث يقول: لقد أحبط حزب الله أربع عمليات للفلسطينيين خلال أسبوع ، وقدمهم للمحاكمة.

ويقول أيضا: نعيش جحيما منذ ثلاث سنوات ، ومللنا الشعارات والجعجعة!!!.

وكان ذلك التصريح بعد ثلاث سنوات من الانتصار العظيم!

 

وسيأتي ذكر مزيد الآثار العظيمة لهذا الانتصار العظيم قريباًً.

وأما على المستوى الصهيوني؛ فيحدثنا عن ذلك القوم أنفسهم حيث امتدحت جريدة هآرتز في 6/7/2006 الأمين العام للحزب بسبب عقلانيته وتحمله للمسؤولية، وأنه حافظ على الهدوء في الجليل الأعلى بشكل أفضل من جيش لبنان الجنوبي...!!

وأما على مستوى المشروع الطائفي الرافضي؛ فسبق ذكر بعض هذه الآثار وكيف أن كثيراً من الجماعات والهيئات الإسلامية السنية قد أقاموا المهرجانات والاحتفالات وأرسلوا برقيات التأييد والتهنئة لقادة حزب الله مشفوعة بأسمى آيات التبجيل والتعظيم .. وسبق ذكر قول أحد قادة هذه الجماعات لحسن نصر الله: إنك مجدد هذا العصر، وقول آخر له: إنك قدوة لشباب الإسلام .. يحدث هذا وملايين الناس يستمعون!!

فكيف يكون أثر هذه المواقف و تلك التصريحات وغيرها كثير في تقديم وتصدير المشروع الرافضي وعقيدته؟!!

 ألا يحق لأتباع هؤلاء القادة الذين ابتليت بـهم أمتنا في آخر هذا الزمان أن يقولوا: هذا والله هو الإسلام [الشيعي] وهؤلاء هم الرجال والقادة والعلماء!!

 

التاريخ يعيد نفسه!!

 

اليوم يعيد التاريخ نفسه لطبيعة متلونة لذلك الحزب وبطولة موهومة ينتصب لها دومًا في ظل تغييب الأبطال الحقيقيين عن الميدان.

إنها الطبيعة المتلونة لفعاليات حزب الله، التي تنطفئ عامًا، وتشتعل يومًا، لتعود وتنطفئ من جديد، ومع ذلك فإن انعكاساتها العميقة على المجتمع والدولة والجوار العربي، تعطي الحق للجميع لمناقشتها.

لو كان لفعاليات الحزب صفة الديمومة كالمقاومة العراقية وشقيقتها الفلسطينية؛ لو كانت فعلاً تنسجم مع العنوان؛ لو عرف لماذا تبدأ حينما تبدأ، ولماذا تنطفئ، لو أنها حق مباح لكامل الطيف اللبناني ـ ولا نقول العربي ـ؛ لو أنها تتحرك بقرار يشترك فيه الآخرون المعنيون، وليست مفاجآت تصلهم من المذياع.

لو أنها هذه وتلك، لهانت الأموال والأنفس والبني التحتية والاقتصاد، ولما نبس أحد ببنت شفة، كما هو حادث في العراق وفلسطين، اللتان لا يعزّ فيهما شيء ما دامت الأرض تحت الاحتلال.

 

 لكنها فعاليات متقطعة، تنطق باسم اللبنانيين وهم ممنوعون منها ومحجوبون عنها، وتنطق باسم العرب والمقدسات، وفلسطين ليست على أجندتها [الإستراتيجية وليس الإعلامية]، وواقع الحال يشير إلى أنها فعاليات حدود شريطية، مداها الأيديولوجي والعسكري أقصر مما تبلغه صواريخ الحزب، يحرم من قرارها اللبنانيون، ويطالبون بتسديد فاتورتها، بدمائهم وأقواتهم وأمنهم، ولا يحصد أوسمتها سوى حزب الله وإيران وسوريا.

الأهم من ذلك، أنها لا تأتي إلا متزامنة مع ظروف سياسية، ومع الحاجة إلى أوراق جديدة لفك أزمة أو تحريك جمود في المواقف، وإلا فالحزب كما يقول أمينه العام السابق صبحي الطفيلي، خفر حدود، يحرس حدود إسرائيل الشمالية، التي هي أكثر حدودها أمنًا، رغم أنها الوحيدة التي تقع تحت سيطرة ميليشيات شعبية وليس جيشًا نظاميًا.

أي أن هدنة الحزب مع إسرائيل تنظمها تفاهمات مع الدولة الصهيونية، لكن فعالياته لا تضبطها مشورة مع الدولة اللبنانية.

وقد ألمح السيد نصر الله أكثر من مرة منذ بدء القتال الحالي، إلى أن قواعد اللعبة قد تغيرت، أي أنه هناك بالأساس لعبة وقواعد، لكن التغير الذي تحدث عنه نصر الله ليس على الإطلاق، فمصفاة حيفا وتل أبيب اللتان تقعان ضمن مدى صواريخ الحزب 'حيّدتا' [اللفظ للسيد نصر الله] ولم تقصفا حتى هذه اللحظة.

 وقد كانت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس قد طلبت من إيران الضغط على حزب الله بعدم قصف الهدفين، وهو الحلقة الأهم في هذا الصراع.

ما قاله الطفيلي وطالبت به رايس وسعت من أجله طهران، شهدت به إسرائيل لحزب الله، فقد امتدحت جريدة هاآرتس في 6/7/2006 الأمين العام للحزب بسبب عقلانيته وتحمله للمسئولية، وأنه حافظ على الهدوء في الجليل الأعلى بشكل أفضل من جيش لبنان الجنوبي، وهو اليوم يتعقل فلا يضرب المنشآت الحيوية لإسرائيل كما صرح بذلك.

وقال حسن نصر الله في تجمع حضره مائة ألف في الجنوب بعد الانسحاب: إننا لسنا مسئولين عن فلسطين.. كما ذكرت ذلك صحيفة النهار اللبنانية.

وقد سبق كلام [سلطان أبو العينين] أمين سر حركة فتح في لبنان: لقد أحبط حزب الله أربع عمليات للفلسطينيين خلال أسبوع وقدمهم للمحاكمة، ويتابع: نعيش جحيمًا منذ ثلاث سنوات ومللنا الشعارات والجعجعة.

ومطلب رايس له أكثر من دلالة، منها: فهو مؤشر لا يحتمل الخطأ على المكان الحقيقي لغرفة عمليات حزب الله، وأن قنوات أمريكا مع إيران مفتوحة على الدوام، رغم الملف النووي، ورغم كل ما يقال، وأن هامش التفاهم قائم وفاعل، وفقًا لعقلية البازار الإيرانية، التي تسير مع الزبون إلى آخر خطوة، ما دام أن في النهاية كسبًا يرتجى من الصفقة.

وهنا يتبادر سؤال طبيعي وتلقائي: أمَا وقد بدأت الحرب المفتوحة، فهل ستتحول إلى حرب تحرير طويلة الأمد مثلاً؟! أم أنها ستنتهي كسابقاتها بوقف إطلاق نار مفاجئ، تحدد موعده إسرائيل، متبوعًا باتفاقية أمنية جديدة، بتفاهمات إقليمية هذه المرة لا علاقة لها بمصالح الأرض التي يدور عليها القتال، ولا يكون قد تبقى لدينا سوى الخرائب؟!

 

رسائل حزب الله التي يبعثها عبر هذه المزاجية المتلونة:

أيًا كانت الإجابة على السؤال السابق فإن هناك مجموعة من الرسائل أراد حزب الله بعثها من خلال مغامرته الأخيرة وهي:

الرسالة الأولى: وهي أهم رسالة وأخطرها يبعث بها حزب الله إلى العالم الخارجي عبر مقاومة مزاجية، هي رسالة مؤداها أنه دون غيره من يحمل المسئولية ويرفع السلاح وسط تخاذل الآخرين، وما ذاك إلا من واقع المذهب الذي يعتنقه، الذي ينبغي أن يكون مذهب المرحلة الراهنة، وما سواه مذاهب خائرة.

هذه الرسالة لها وللأسف رواج كبير في الشارعين العربي والإسلامي، وقليل من يعلم، أو يريد أن يعلم، أن الشاب اللبناني المسلم السني، أو الفلسطيني على أرض لبنان، أو الحركات الإسلامية والوطنية، تُرَدّ رغبتهم في المقاومة، أفرادًا وجماعات، بل إن هذا الشاب لا يأمن على نفسه في مناطق نفوذ الحزب إن هو قرر الذهاب لهذه الغاية.

قليل من يدرك، أو يريد أن يدرك، أن الحزب يقف سدًا منيعًا أمام مقاومة يشد إليها الرحال من جميع أطراف لبنان، ولا نقول أنحاء الوطن العربي أو العالم، كما الحال في العراق، الذي تطوى الصحاري وتقطع الأنهر والوهاد للوصول إليه.

والرسالة الثانية: والخطيرة أيضًا فهي اقتران اسم المقاومة اللبنانية، التي هي حكر على الحزب، بعناوين المقاومة الرئيسة في المنطقة، وتحديدًا مقاومة الشعب الفلسطيني، فلا تذكر حماس إلا ذكر، وذكرتا معهما إيران ودمشق، ويترسخ في الأذهان عنوان كبير اسمه 'محور المقاومة في المنطقة' طهران – دمشق – حزب الله + غزة.

 هذا المحور مرشح لملء فراغ سياسي في المنطقة، أو هكذا تسعى طهران. وهو محور حقيقي، وليس دعائيًا، فإن بين أطرافه الحقيقية [إيران – حزب الله – سوريا] من القواسم التاريخية والطائفية، والرؤى المستقبلية المشتركة، ما يمكّنه من التماسك والاستمرار.

 كما تجتمع بين أطرافه مقومات البنية القوية، من كثافة بشرية، وثروات طبيعية ومائية، إضافة إلى الاتصال الجغرافي بين أجزائه الذي حصل بسقوط العراق.

 على الرغم من وجود هذا المحور نظريًا، منذ سني الحرب العراقية – الإيرانية، إلا أنه دخل مرحلة التنفيذ الفعلي على الأرض بسقوط العراق.

 وكما يقول الأستاذ ربيع الحافظ المحلل السياسي المعروف: يمكن القول: إن دخول المحور الثلاثي حيز التنفيذ، وانفتاح الممر الجغرافي من خراسان شرقًا إلى شواطئ المتوسط غربًا، مثل بداية عملية إعادة تكوين للتركيبة السياسية في المنطقة، هي الأولى منذ سايكس – بيكو، ونشوء دائرة نفوذ سياسي جديدة، بزعامة غير عربية، موازية للمنظومة العربية الآفلة.

فثمة تشابه بين المنطقة العربية في ظل انهيار المنظومة السياسية العربية، وانفراط العقد العربي، ودولة إيران من جهة. وبين أوربا الشرقية في أعقاب انهيار المنظومة الاشتراكية، وأمريكا من جهة أخرى؛ ففي كلتا الحالتين منظومة إقليمية منهارة، ودول تبحث عن مدار سياسي جديد، ودولة كبيرة تتربص للتوغل في منطقة التخلخل وملء الفراغ السياسي لصالحها.

وتوقيع سوريا لاتفاق التعاون العسكري مع إيران، ودنوها المنتظم من المدار السياسي والاقتصادي الإيراني، ووثوقها بالآصرة السياسية الفارسية الفاعلة على المسرح السياسي الإقليمي والعالمي، للعب دور الجامعة في المنطقة، على حساب الآصرة العربية المنحلة، يبرز المعالم الأولية للاصطفاف السياسي الجديد في المنطقة.

والحضور الإيراني في سوريا لن يتوقف عند الجانب العسكري، فستتبعه المؤسسة الأمنية الإيرانية وباقي مؤسسات المجتمع المدني الإيراني، التي ستتغلغل في زوايا المجتمع السوري. وما فعلته سوريا، غيرها أولى به من الدول الأصغر، والكيانات الانفصالية الطازجة و'الفيدراليات'، التي ازدهرت بعد سقوط العراق.

في المقابل نجد محور [الرياض – الكويت – عمان – القاهرة] المنبثق من أطلال النظام السياسي العربي، وكانت عمان قد حذرت من نشوء هلال شيعي في المنطقة، وهو الذي أيدته مصر بالحديث عن ولاء الشيعة العرب لإيران على حساب دولهم، لكنه جهد قليل متأخر، وربما مفاجئ للشارع العربي، نظراً لعدم انسجامه مع ثقافة قومية أو قطرية فرضتها الدولة العربية الحديثة على هذا الشارع ورسختها على مدى تسعة عقود.

الأهم، هو أن التحذير لا يحمل مشروعًا، ولا يتخذ من الشعوب شريكًا له، ولم يسند إلى مؤسسات متخصصة لنقل مهمته من صيغة إعلامية إلى صيغة طوارئ ميدانية؛ لذا لا يتوقع أن يكون تحذيرًا فاعلاً في مواجهة المحور الآخر، الذي يحظى ببرنامج ثقافي وفكري وإعلامي متكامل ومتطور وإمكانيات هائلة.

بل إن الدول العربية قد ساهمت في خدمة المشروع الإيراني بتسهيلها وسكوتها عن العدوان الأمريكي على العراق, فأخلّت بتوازن استراتيجي تفتقده المنطقة, حاليًا فأصبح العراق خاضعًا لاحتلالٍ فارسيٍ صفويٍ بالدبابة الأمريكية!.. في حين دفنت الدول العربية رءوسها في الرمال مثل النعام.

مع هذا كله نقول: ليس الطريق ممهدًا أمام إيران ومحورها، وتبقى هي وأيديولوجيتها في وضع أخلاقي وفكري حرج أمام الشارع العربي، لاسيما بعد حرب احتلال العراق، وانكشاف شراكة طهران والمرجعيات الشيعية في المشروع الأمريكي الإقليمي. وتبقى الحاجة قائمة لديه لإعادة تأهيل أخلاقي وأيديولوجي وبناء للمصداقية.

الوجه الآخر للعقبة الأخلاقية، هو أن أطراف المحور الثلاثة تمثل أقليات مذهبية، ولَغت جميعها في دماء الأغلبية؛ بدءًا بالنظام السوري الذي سحق مدينة حماة، وهمش سنّة لبنان. وحركة أمل التي نكبت الفلسطينيين في مخيمات بيروت، التي خرج من عباءتها حزب الله، وحمامات الدم الإيرانية مع سنة العراق وعربه، وشراكتها المعلنة في إسقاط دولتين جارتين مسلمتين تحت احتلال أجنبي، هما أفغانستان والعراق، ودور المرجعية الشيعية في التمهيد السياسي للاحتلال ثم التقعيد الفقهي لإدارته وحكوماته.

أمام هذه المعطيات تمثل حماس بما ترمز إليه من معاني الجهاد والمقاومة والتضحية والصمود، حجر الزاوية في هيكل إعادة المصداقية للمحور. وبالأدق، هي الوقود الذي سيستهلكه صاروخ المحور في عملية الانطلاق، ولن تكون حماس [المحاصرة عربيًا وماليًا والمستغلة إيرانيًا] بتكوينها المذهبي والفكري، ومنطلقاتها وغاياتها المختلفة كليًا عن المحور، سوى جزء المركبة الفضائية التي يرمي به نظام الملاحة إلى الأرض ثانية حال استواء المركبة في مدار التحليق الحر.

 حاجة الغرباء - مع عروبة المنطقة ومذهبها العام - إلى حماس ماسة، لكن منافسة حماس ـ خلال فترة زواج المتعة السياسي ـ على رصيدها في المقاومة، ومصداقيتها المحلية والعربية والعالمية، ومكانتها في الإعلام، ونجاح مذهبها السياسي والفقهي في إدارة شئون شعبها، نقول: منافسة حماس في هذه المضامير مجتمعة هو حاجة ماسة أخرى، وهذه هي مهمة حزب الله، الذي يبقى أداة إيران لحجب الشمس، وخلط الأوراق كلما دعت الحاجة.

 

الحصاد المر

 

لقد راحت السكرة وجاءت الفكرة. لكننا نبدو نحن العرب والمسلمين غير قادرين على الخروج من السكرة.

سقطت الصواريخ على مدن الكيان الصهيوني، نعم. الكيان الصهيوني هرع إلى الجدر والقرى المحصنة، نعم. غبطة في الشارع العربي، نعم.

ولكن ما من أحد من شعوب الأرض أعلم منا نحن العرب والمسلمين، أن هذا جميعه سينتهي، طال الزمن أو قصر، مثلما انتهى في المرات السابقة، وأن العواطف ستخبو، ولن يبقى حولنا سوى الخراب واليتم والتشرد.

وضرب حزب الله ضمن عمليته الرتوش الأخيرة [الانسحاب عشرة كيلومترات إلى الوراء، مبادلة تل بجبل، استرداد مزرعة، اقتسام مصدر مياه، تحديد الترسانة العسكرية] للصيغة النهائية لخريطة الشرق الأوسط الجديد، ومنها تحديد نفوذ الشركاء، ليس تناقضًا مع السياق آنف الذكر.

فبين المعسكرين الأمريكي والإيراني ـ الذي يشكل حزب الله نتوئه في بلاد الشام ـ مساحات وفاق تام، ومساحات خلاف، وقد تجلت الأولى في أوضح صورها في المراحل الرئيسة من عملية إعادة تشكيل المنطقة، بدءًا بإسقاط أفغانستان تحت الاحتلال الأمريكي، ثم العراق، ودور إيران المباشر والجراحي فيهما، وهو دور لا تنفيه طهران بل تعلنه، وقبلها 'إيران ـ جيت' مع الكيان الصهيوني.

جيوب الاختلاف والتنافس الذي يلي الانتصار هو الوجه الأصعب، وهو الذي يحرص كل طرف على الخروج منه بأحسن النتائج، في صورة أقرب ما تكون إلى اختلاف السراق على السرقة بعد اقتحام المنزل. وهذه الجيوب قد تكون نفطًا أو أرضًا أو تقنية نووية أو نفوذًا سياسيًا أو منفذًا بحريًا، أو شيئًا آخر لا يقصد لذاته، وإنما ورقة لكسب أمر قد لا يكون منظورًا.

الصراع على الجيوب، هو الذي سيحدد نوع الصواريخ التي يطلقها حزب الله على الكيان الصهيوني، وأهدافها ومداها وكثافتها، وشروط قبول وقف إطلاق النار.

أما دمار لبنان الذي تحقق منذ اليوم الأول، فهو العربون الذي يفتتح به 'البازار' وتنطلق به عملية خذ وهات.

أخذًا بالاعتبار ما قاله الطفيلي وأكدته صحيفة هاآرتس، مضافًا إليه الضعف الأمني للدولة اللبنانية، فإن الاستئصال الأمني الكامل لحزب الله لن يصب في المصلحة الأمنية للكيان الصهيوني، فزوال الحزام الأمني العازل الذي يشكله الحزب بين الكيان الصهيوني وباقي لبنان، الذي حفظ السلام في الجليل الأعلى، يعني عودة التماس الجغرافي مع قطاعات الشعب اللبناني والفلسطينيين، التي تختلف مع مدرسة الحزب السياسية والمذهبية، ومع رؤيته إلى طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي احتل هذا الكيان الغاصب من أجله جنوب لبنان في عام 1982، وأوجد جيش لبنان الجنوبي، ذا الأغلبية الشيعية، الذي لم يثبت فاعلية في حماية مناطقها الشمالية من عمليات المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية التي كانت تنشط قبل وصول حزب الله وتوقفت تمامًا بمجيئه.

الحدث الذي يختصر الأمر كله في المنطقة التي يدور على أرضها القتال اليوم، ويضع حساباتها في إطار أكثر وضوحًا، هو استقبال لبنان لجيش الكيان الصهيوني الغازي في عام 1982 بأذرع مفتوحة، والذي اعتبرته جيش التحرير، ونثرت الورود على دباباته الذاهبة للقضاء على المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية.

والنتيجة هي خروج الجبهة اللبنانية من الصراع الأيديولوجي، وخروج الصراع من بُعده العربي والإسلامي، وتوقفه عند خط الحدود الدولي. وهو ما عنته صحيفة هاآرتس في معرض تقويمها لدور الحزب في إدامة السلام في الجليل الأعلى.

على المدى البعيد نسبيًا، فإن زوال حزب الله بالكامل يعني ـ من المنظور الصهيوني ـ تحول لبنان إلى منطقة أمنية رخوة، وقبلة لفصائل المقاومة الإسلامية التي تجوب العالم بحثًا عن نقطة تماس مباشرة مع ما تعتبره العدو الحقيقي، وما تعده أيضًا تجسيدًا لخطابها السياسي، الذي ينتقده خصومه على أنه ينشط بعيدًا عن جغرافية المواجهة الحقيقية، وهو ما فعلته بعد سقوط العراق، وتواجه دورًا من قبل الميليشيات الشيعية المحلية والوافدة شبيهًا بدور حزب الله الذي تحدثت عنه صحيفة هاآرتس، وفي ذلك إضاءة أخرى على خلفيات موقف السيد نصر الله من المقاومة العراقية.

لا أدق في هذا السياق مما ذكره كاتب لبناني نصراني عن طبيعة المدرستين بالقول: 'نضال حزب الله قروي، ونضال الآخرين [السنة] قاري'. بعبارة أخرى، ستبقى حاجة الكيان الصهيوني قائمة إلى حزام أمني طائفي يعزلها عن محيط الأغلبية ذات المنطلقات والرؤى المختلفة.

ومع هذا فليس من المستبعد وجود تنسيق بين دول عربية والكيان الصهيوني لضرب حزب الله، للتخلص من ظاهرة التمرد على الدولة العربية العاجزة التي يمثلها حزب الله بأجندات خارجية، لكن الخسارة الكبرى والضحية النهائية لهذا التنسيق، إن وجد، هم العزل من النساء والشيوخ والأطفال، وهو لبنان الذي خرج لتوه من دمار الحرب الأهلية، وعادت إلى محياه البسمة، ليدخل مرة أخرى في دمار مماثل. هذه هي الخسارة، وهؤلاء هم الضحية، وليس أحدًا آخر.

وهذه الجماهير السادرة بل وأكثر الإسلاميين مازالوا سكارى إلى حد الثمالة بمنظر صواريخ حزب الله التي تسقط على مدن الكيان الصهيوني، وعاجزين عن استرداد الوعي ولو للحظات لتواجه فيها نفسها بسؤال سهل:  ألسنا في عالم أُلف فيه تعاضد قوى التحرر، وإن تباينت المنطلقات والغايات؟ فضلاً عن قيم العرب والمسلمين في التعاضد والتآزر؟!!

فبم يفسر موقف السيد نصر الله المعلن والمناوئ للمقاومة العراقية، التي يفترض أنها تحارب عدوًا مشتركًا هو أمريكا وإسرائيل؟! سوى أنها تحارب في نفس الوقت مشروعًا إيرانيًا شعوبيًا، يمثل حزبه نتوئه في بلاد الشام؟!

 

الذاكرة الجماعية العربية والإسلامية!!:

ما أقصر ذاكرتنا الجماعية!! لم ينقض عام بعد على تلك التصريحات، التي صنف فيها السيد نصر الله المقاومة العراقية إلى فريقين: فريق الجنرالات الصدَّاميين التكفيريين الذين يريدون العودة بالبلاد إلى الحكم السابق، وفريق عملاء الأمريكان، بل إنه أقام علاقة وثيقة بين الاثنين، دون ذكر ولو بكلمة واحدة للمقاومة الحقيقية، التي وضعت العصي في دواليب المشروع الأمريكي، وقلبت النظريات العسكرية، وابتدعت فنونًا جديدة في حروب المقاومة، وهي تواجه أكبر جيوش الأرض، وهي المحاصرة برًا وبحرًا وجوًا.

وبرر نصر الله الانتظار والتروي قبل اتخاذ موقف من الاحتلال، مثلما برر اعتماد المقاومة السلمية، وهاجم بشدة مقاطعة الانتخابات، وتبنى جميع العناوين التي يسوّقها الاحتلال الأمريكي، مرسخًا بحرفية خطا السيستاني، ولم يأتِ على ذكر دور الموساد، وسوّق بحماس المطلب الأمريكي في مشاركة العراقيين في الاستفتاء على دستور الاحتلال، الذي لا يعترف بحق المقاومة ويرسخ تفكيك العراق إلى كانتونات طائفية.

يتساءل المرء متعجبًا مشدوهًا مصدومًا: كيف يُنسى هذا كله في عجالة كهذه؟! أين الذاكرة الجماعية من ساحة المقاومة الحقيقية، التي تواجه جيوش الدنيا، لغاية واضحة، ولا تضع الرصاصة في الجيب الأيمن، ومسودة وقف إطلاق النار في الجيب الأيسر؟! أم أين الذاكرة من صمود عشرين عامًا من مقاومة الشعب الفلسطيني المحاصر، وصواريخ تصنع في المطابخ خط الدفاع الأخير؟!!

كيف تنشغل الذاكرة الجماعية بمناوشات حدودية، من غير الواضح لماذا تبدأ، ولماذا تتوقف، بل قد بدأ الحديث عن توقفها. وكيف يتحول إنسان في النظرة الجماعية، بين يوم وليلة، من منظّر لآليات مشروع الاحتلال الصهيو ـ أمريكي، مبرر لها ومجاهر بها، إلى زعيم للأمة يطلق اسمه على المواليد الجدد!

السياق هنا ليس عن العواطف، فلا تشكيك بمشاعر الشعوب العربية والإسلامية، وإنما سياق المصير، فالصين وروسيا واليابان وألمانيا وغيرهم تبدو أكثر عمقًا في نظرتهم إلى المقاومة في العراق، وتعتبرها خط دفاعها الأخير الذي سيحسم مصائرها في القرن الجديد أمام عربدة الإمبراطورية الأمريكية، وعلى هذا الأساس تتصرف وتحسب.

لن نقول: إن الصواريخ التي سقطت على الكيان الصهيوني لن تترك ندبًا نفسية مزمنة عند المستوطن اليهودي، مثلما سببت الصواريخ العراقية في حرب عام 1991، ولا أنها لم تقدم برهانًا على تفاهة الدولة الصهيونية، وأنها ساقطة بالمفهوم العسكري، وأنها لن يكون لها انعكاسات سلبية على الهجرة اليهودية من وإلى فلسطين. لكنها صواريخ لن تغير واقعًا فكريًا مزمنًا قائمًا على الأرض، لأنها صواريخ موسمية، ولا تنطلق من فكرة، فلن ترتطم بفكرة في الطرف الآخر، بل ينتهي مشوارها بارتطامها بالأرض, وهذا ما يحدث.

نحن العرب والمسلمين ـ لاسيما النخب منا ـ بحاجة إلى مراجعة حقيقية لطرائق تفكيرنا، واتخاذ مواقفنا في لحظات المصير وزحمة العواطف، فقد كانت العاطفة والسطحية، والسذاجة أحيانًا، سمة الندوات التحليلية والحوارية وبرامج الإثارة السياسية في الفضائيات العربية منذ بدء الأحداث.

ولضعف ذاكرة جماهيرنا ونخبنا فإننا نعود ونذكر بما أشرنا إليه عن التاريخ الميمون والسيرة العطرة لسيد المقاومة الجديد - كما يسميه البعض - وموقعه في حركة أمل التي نكبت الفلسطينيين أكثر مما يفعل الكيان الصهيوني اليوم، والتي كان ضمن صفوفها قبل قيام حزب الله، وعلاقته اللصيقة والوثيقة والمعلنة بخميني إيران وتصريحه بهذه التبعية والمرجعية.

إن فهم الطبيعة المتلونة لذلك الحزب واستفاقة من الثمالة ولو يسيرة من شأنها أن تجيب عن تساؤلات وتناقضات في واقع هذا الحزب كثيرة؛ سندرك كيف يستقيم أن تكون إيران ـ الأب الروحي لحزب الله ـ شريان حياة لأمريكا والكيان الصهيوني في العراق، وسمًّا مميتًا لهما في لبنان؟! وأيهما هو الموقف الحقيقي؟ أم أن كليهما حقيقي؟ لأنه لا تعارض بين الاثنين؟!

 سندرك كيف يستقيم أن يحمل حزب الله بندقية المقاومة بيد، وبوقًا بالأخرى ينعت فيه المقاومة العراقية بأعلى الصوت بالتكفير والعمالة للأمريكان؟ ثم لا يقول كلمة واحدة ـ بنفس البوق ـ عن مظالم المسلمين في سوريا المجاورة، التي يصف نظامها بالشقيق، ويصمت عن حراستها لجبهة الجولان ولصناعة الاصطياف الصهيونية فيها؟ أم أن البندقية والبوق وجهان لظاهرة صوتية واحدة؟!

لعله قد انجلى شيء من الضباب! وأخذت مواقف وتصريحات السيد نصر الله مدلولها الصحيح وحجمها الحقيقي وأبعادها الموضوعة لها.

لعل العاطفة الهوجاء للجماهير المندفعة تضع قدمها على الطريق الصحيح، وينجلي عن ساستها ونخبها العشا السياسي، وعمى الألوان، الني تكاد تفقدها القدرة على التمييز.

ومع رؤيتنا هذه للأحداث والأهداف؛ فإننا نؤكد أنه ليس في السياسية صواب مطلق أو خطأ مطلق، ولكن الحقائق المتعاضدة والتسلسل المنطقي الذي اعتمده هذا التحليل يجعله صوابًا يحتمل الخطأ.

 فإذا كانت الأولى، فإن حزب الله يكون قد جنى على لبنان وقدمه قربانًا لمصالح إيران الإقليمية، وإذا كانت الأخرى، فيكون هو القربان، الذي جنى على نفسه وعلى لبنان في آن واحد، بقبوله بدور الذراع لإيران، وأدوار الوكالة التي لا تخدم المحيط الذي يوجد فيه، لتبيعه إيران ضمن صفقة إقليمية شاملة، وتتركه للدمار مقابل مكافأة أكبر، أقرب إليها وأبعد عن الكيان الصهيوني، هي العراق.

 

وموقف كهذا ليس مستغربًا على إيران من وجهين:

الأول: انتظام مصالحها السياسية بشكل طبيعي وتاريخي في إطار مصالح القوى السياسية الدولية في المنطقة العربية والإسلامية بشكل عام، منذ الانقلاب السياسي الصفوي الذي نقلها إلى المذهب الشيعي.

 الثاني: نوازعها القومية والشعوبية، فلن يشفع لشيعة لبنان العرب ـ عندما تحين اللحظة السياسية المناسبة لها ـ حبٌ لآل البيت أو حداد على الحسين، ولهم في ذلك أسوة في إخوتهم شيعة الأحواز العرب، الذين تعاملهم إيران معاملة الكيان الصهيوني ليهود الشرق، وكذلك في العشائر الشيعية العربية في العراق المبعدة عن القرار الديني والسياسي لصالح الفرس المستوطنين في العراق، وفي شيعة أذربيجان، الذين اصطفت إيران ضدهم في نزاعهم مع الأرمن، لا لشيء سوى أنهم أتراك.

وبهذا السيناريو تصبح الدولة الصهيونية على بعد 500 كيلومتر من أقرب كيان عربي ذي اعتبار عسكري، فمصر التي تفصلها سيناء منزوعة السلاح غربًا، والعراق منزوع الأسنان وتحت الضمانات الإيرانية شرقًا، وسوريا وشهادة حسن السيرة والسلوك لثلاثة عقود ونيف من حفظ السلام في الجولان شمالاً، وإلى حين صدور الخريطة الجديدة للمنطقة بتقسيماتها الجديدة، نبقى مع هذا السيناريو.

وعندئذ تكون سفينة المقاومة الفلسطينية الوحيدة المبحرة، على بعد مئات الكيلومترات عن أقرب الشواطئ، والتي يؤمّل إغراقها في عرض البحر بعيدًا عن أنظار خفر السواحل، وخارج مدى فرق الإنقاذ، ليسدل الستار على آخر أشكال المقاومة في المنطقة. إنه الشرق الأوسط الكبير.

ويبقى احتمال ثالث؛ وهو أن تكون طهران قد أخطأت هذه المرة في حساباتها وتقديراتها وأنها استعجلت حتفها بظلفها؟! فتكون لطمة يوجهها الشيعة لأنفسهم كما تعودوا في كل عاشوراء؟!

فتكون هذه الحرب هي 'الحرب التي قد تنهي كل الحروب في لبنان وتنقلها إلى إيران'، كما خلص إليه عدد من المسئولين والباحثين الغربيين في تحليلهم.

 

ما الموقف الصحيح من هذه الأحداث؟!!

 

وأما بيت القصيد من هذا فهو الإجابة عن هذا السؤال: ما الموقف الصحيح من هذه الأحداث؟!!

للإجابة عن هذا السؤال المهم لابد أولاً من تأكيد عدة أمور:

الأول : أن هناك قدرًا متفقًا عليه بين الجميع.

الثاني : أن هناك قدرًا هو محل اختلاف غير سائغ.

الثالث : أن هناك قدرًا هو محل اختلاف سائغ.

 

أما القدر المتفق عليه: فهو أننا مع كل عملٍ يؤذي العدو اليهودي الغاصب ويُضعفه ويضع من هيبته!.. وينالُ من العدوّ اليهودي ونفرح به..

ومن المتفق عليه أيضًا: أن من دين المؤمن وأخلاق المسلم نصرة المظلومين والسعي في فكاك المأسورين وعون المحتاجين في كل مكان وزمان، فإن الله تعالى قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرمًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسعى في رفع الظلم والوقوف مع المظلومين، وما ثناؤه على حلف الفضول إلا مثال لذلك.

وهذا الأمر يقوم به المسلم دون غفلة منه عن طبيعة الأحداث ومؤدياتها ومعرفة بحقيقة المشاركين فيها وطبيعة أدوارهم.

وعليه، فلا شك في وجوب الوقوف في وجه المعتدي الظالم وردعه والأخذ على يديه، والوقوف مع المنكوبين والمستضعفين في فلسطين ولبنان والعمل على دعمهم ومساندتهم وإغاثتهم بما يمكن، بعيدًا عن المزايدات الحزبية الرخيصة ، والمتاجرة بمشاعر الأمة وعاطفتها الجياشة، والاندفاعات العشوائية غير الشرعية، والعواطف الهوجاء.

وهنا يتبادر سؤال مهم يخطر ببال كثير من الشباب، وربما سأله البعض لمن لا يحسن الإجابة عليه، ومن ثم تحدث عواقب وخيمة، على الشخص والدعوة والأمة كلها دون تحصيل أية مصلحة في الغالب تتناسب مع هذه المفاسد: وهذا السؤال هو:

هل السفر للجهاد حيث كان فرض عين؟!

فالجواب: أولا لابد من أن نعرف أنه من المتقرر في كتب الفقه أن الجهاد فرض عين إذا دهم العدو بلدًا من بلاد المسلمين - أي فرض عين على أهل تلك البلدة - فإن لم يكفِ أهل تلك البلدة لدفع العدو، امتد الوجوب إلى البلدة التي تليها أو تجاورها، فإن لم يكْفوا وجب الجهاد على من يلي تلك البلاد، حتى يعم الوجوب المسلمين في كل الأرض، إذا لم يمكن دفع العدو بما دون ذلك من البلدان.

وهذا الحكم لا مجال لإنكاره، فهو مدون في مذاهب الفقهاء، ولكن كلامنا يتعلق بنقاط يجب تأملها عند كيفية تطبيق ذلك في واقعنا، حتى يتوافق عملنا مع علة هذا الحكم وحكمته؛ إذ هو حكم أريد به تحقيق النصرة ودفع العدو الصائل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو كغيره من فروض الأعيان، بمعنى أنه لا يخرج عن مناط التكليف وهو القدرة.

وليس العجز محصورًا في العجز البدني عن المقاتلة، بل يشمل أسباب العجز، غير المتعلقة بالعجز البدني عن المقاتلة، كالعاجز عن الوصول إلى ساحة الجهاد؛ لانقطاع الطريق، أو حصول الهلكة فيه قبل الوصول إلى ساحة الجهاد.

ولا يقال : إن الجهاد مبني على هلكة النفس والمال في سبيل الله، لأن تلك المقالة إنما تنطبق على الممارسة العملية في ساحة الجهاد، من جهة المعلوم ضرورة من سقوط شهداء في المعركة، وذلك غير مانع للجهاد؛ بل هو من ثمرات الجهاد المباركة؛ إذ المسلم يرجو منه إحدى الحسنين النصر أو الشهادة، أما الهلكة من دون الجهاد؛ كما لو كانت الطريق للجهاد منقطعة، أو مؤدية للهلاك.

فطلب الهلكة في ذلك ليس مما انبنى عليه وجوب الجهاد؛ بل ذلك من مسقطات الإثم عمن لم يجد الطريق الآمن، على نحو إسقاط الله تعالى الإثم عمن لم يهاجر؛ لعدم تمكنه من طريق آمن للهجرة، لما هو فيه من استضعاف وقلة حيلة.

وهذه نقطة مهمة، لأن الفقهاء حين نصوا على حالة كون الجهاد فرض عين، إنما تحدثوا عن الأصل العام في الحالة الطبيعية؛ التي لا يحول فيها حائل بين العبد وبين الجهاد، ولم يتحدثوا عن الاستثناءات في حق بعض الأشخاص؛ الذين تلم بهم بعض الأعذار، التي لا يستطيعون معها الجهاد، والتي منها عدم الاهتداء إلى طريق للجهاد، أو وجود من يمنعه من سلوكه.

ومن ثم نعلم أن ما يمارسه البعض من ضغوط على الشباب، بمطالبتهم بالسفر، وإيجابه عليهم كلما وقع جهاد في بلد من البلدان، بناءً على تلك النصوص الفقهية، دون اعتبار لحال العجز والتعرض للهلكة، ووجود الموانع، لهو نوع من الاستدلال في غير محله، ينشأ عنه تعرض الشاب للتمزق النفسي، بين شعوره بالعجز، وشعوره بالإثم، في آن واحد؛ لأنه فهم أنه آثم بتركه الجهاد، وفي نفس الوقت يشعر بوجود الخطر المانع له من السفر للجهاد، فإما أن يترك السفر للجهاد، مع تألمه وتأنيب نفسه ليل نهار، بسبب ما دمغه به المنكرون عليه، من الإثم والتخاذل إلى غير ذلك، وإما أن يلقي بنفسه إلى الهلكة، في مجرد السفر مع غلبة ظنه وقناعته بالتعرض للأذى أو الهلاك، دون أن يصل للجهاد، لكنه يفعل ذلك، لينجو من وصمة الإثم والعار، بقعوده عن الجهاد.

ثم إذا وقع المحذور، ووجد نفسه في العذاب والأغلال، وهو ما توقعه من قبل، دارت في نفسه صراعات، وهل كان ما فعله هو الصواب أم كان الأفضل التأني؟! وهل كان الجهاد سيقوى به بالفعل، أم كان سفره غير مفيد للمجاهدين؟! وهل كان السفر مع التعرض للهلكة واجبًا عليه بالفعل، ووجب على جميع أمثاله، أم أن الحكم يختلف من شخص لآخر، ومن حال لحال، ولا يعمم حكم واحد على الجميع؟!

إلى آخر تلك الهواجس والتساؤلات، والحوارات والأحاديث، التي تدور وتتصارع داخل النفس، وتحدث فيها من التعب والضنى والتمزق ما تحدثه، لا سيما إذا أوذي بسببه أهلُه وجيرانُه وأصحابُه، من رجال ونساء.

هذا فيما يتعلق بالموانع وحالة العجز، أما ما ذكرناه أولاً مما قرره الفقهاء في تعين الجهاد، واتساع دائرة الوجوب من بلدة لأخرى، حتى يتم دفع العدو والتغلب عليه، فإنما أرادوا به تحقيق النصرة لمن وقع عليهم الاعتداء، والتمكن من دفع العدو الصائل، ولا يليق أن ينفك الحكم عن علته، أو أن يكون غير محقق للمقصود، وهذا نقوله بسبب تغير صور الجهاد وآلاته، وما يحتاجه المجاهدون، وما يمكن به حسم المعركة، وما لا يمكن، إلى غير ذلك مما تتغير به موازين القوى.

فالحكم الذي قرره الفقهاء، يمكن - على سبيل المثال - تطبيقه وتحقيق المقصود منه، إذا خوطبت به دول وحكومات مجاورة لبلد الجهاد، تتبنى قضية الإسلام؛ بحيث يتوفر لأهل البلدة المحتلة ما يمكنهم به دفع العدو بالفعل؛ إذ الغالب في هذا الزمان قيام الحروب على آليات حديثة، أكثر من قيامها على تكثير عدد الأفراد دون تحصيل تلك الآليات.

وذلك بخلاف حروب العرب قديمًا، حين أتتهم رسالة الإسلام؛ إذ كان عمادها المواجهة المباشرة بين الأشخاص، وكل شخص معه سلاحه أو سيفه الشخصي، دون انقسام المجتمع إلى مدنيين وعسكريين، ودون وجود جيوش نظامية، مخصصة للقتال، ومجهزة بصفة مستمرة، بأحدث التجهيزات؛ التي تفوق في قوتها القوة البدنية المجردة، للجموع الغفيرة من الأفراد.

ولهذا نجد أن الناحية العددية كانت الأساس في حسابات القوى في القديم، والسبب الأساس في إلحاق الهزيمة بالخصم، وهذا يمكن تصوره في الحروب الأرضية بالأيدي والسيوف أو الأسلحة النارية ونحوها، أما لو تصورنا مئات المسلمين على الأرض، معهم أسلحة يدوية، ولا يواجهون العدو مباشرة، وإنما تحل بهم قذائف تبيدهم، يتحكم في إطلاقها من بُعد بضعة أفراد؛ ففي تلك الحال، لا يصح أن ينحصر تصورنا للقيام بفرض العين في حشد مزيد من الأفراد، في المنطقة المهاجَمة أو المعتدي عليها.

فالشاهد والمقصود من سوق تلك الصور أو الأمثلة، التنبيه إلى ضرورة فهم الأحكام، وما نص عليه الفقهاء فهمًا دقيقًا متأنيًا، دون تعجل أو اندفاع أو تعميم، يخرج بها عن مقاصدها وعللها وحكمها، أو يؤدي لتحمل وزر فتوى معيبة أو خاطئة من متعجل، يلزم بها شخصًا معينًا بما لا يلزمه، أو يوجب عليه ما لم يوجبه عليه الله ورسوله.

هذا هو القدر الأول المتفق عليه فرحنا بما يصيب العدو الصهيوني، و نصرتنا للمظلوم بكافة سبل النصر المتاحة وفق الضوابط السابقة.

 

وأما القدر الذي هو محل اختلاف غير سائغ: فهو التهوين من شأن الانحراف العقدي الخطير للشيعة الرافضة.

وإغفال الانحراف العقدي الخطير لهذه الفرقة، واعتقادهم بتحريف القرآن ونقصانه وأن القرآن الصحيح غائب مع مهديهم المنتظر، وسيخرج مع خروجه، وما تحمله عقيدتهم المنحرفة من حقد دفين وتطاول قبيح على الصحابة الكرام وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها واتهامها صراحة والعياذ بالله بالفاحشة، ناهيك عن دورهم الخطير والخبيث عبر التاريخ القديم والحديث في التآمر على أهل السنة مع أعدائهم من التتار واليهود والصليبيين، وما سقوط بغداد عنا ببعيد.

من الاختلاف غير السائغ: التعامل مع هذه القضية الخطيرة مع تغييب ثوابت العقيدة وقواطعها وتخدير مشاعر الجماهير الهائجة المتحمسة وإيهامهم أن تحرير الأقصى أنما هو على يد صلاح الدين الجديد سيد المقاومة!!!

هذه الأوهام والأحلام التي يكذبها الواقع والتاريخ بل ولسان حال ومقال صلاح الدين المزعوم نفسه!!!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: 'كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديمًا على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم'.

وأول عمل أظهر صلاح الدين الأيوبي وعرّف الناس به: هو القضاء على الدولة العبيدية الرافضية في مصر.

وقد عرف حقيقتهم حق المعرفة شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال عنهم قبل سبعمائة سنة في كتابه العظيم : منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة: 'وكذلك إذا صار اليهود دولة في العراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائمًا يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم'. [منهاج السنة 3/378]

واليوم... وبعد مرور 700 عام على هذه الكلمات نسمع ونشاهد واقعها في العراق..

وقد تبجح قادتهم أنه لولا مساعدة إيران لما سقطت بغداد وكابول ومنهم رفسنجاني وأبطحي نائب الرئيس الإيراني للشئون القانونية والبرلمانية الذي أدلى به في ختام مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل الذي ينظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية سنويًا بإمارة أبو ظبي مساء الثلاثاء [15/1/2004].

قال الأبطحي: 'إن بلاده قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربيهم ضد أفغانستان والعراق، وأكد أنه لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بـهذه السهولة... ثم استدرك قائلاً: لكننا بعد أفغانستان حصلنا على مكافأة وأصبحنا ضمن محور الشر، وبعد العراق نتعرض لهجمة إعلامية أمريكية شرسة'.

وليت شعري كيف حال أولئك الذين هللوا لمجدد العصر كما سماه بعض الجهلاء ذلكم الخميني الذي ظن السذج أن قيام الجمهورية الإسلامية الفارسية على يديه هو أول خطوات تحرير القدس!!

فكان ما جناه أهل السنة على يديه من الاضطهاد والتشريد والتهجير والتقتيل أضعاف أضعاف ما لاقوه على يد الشاه، وحتى لم يعد للسنة مسجد واحد في طهران، على الرغم من أنها تضم على مرأى ومسمع من الحكومة الإيرانية اثني عشر كنيسة، وأربعة معابد يهودية وعدداً من معابد المجوس عبدة النار؟!

ثم كيف نثق بهم ومهديهم المزعوم سيكون له - حسبما نصت كتبهم - ثلاثة أعمال رئيسة هي:

أ‌- يضع السيف في [[العرب]] ويسالم اليهود والنصارى.

ب- يهدم البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف ليبني بدلاً عنهما في كربلاء والنجف.

ج- يقيم حكم آل داود وسليمان ويلغي العمل بالقرآن كما ذكر ذلك الكليني.

إننا عندما نصرح بتلك الحقائق التي ربما يسمعها البعض لأول مرة أو سمع بها دون أن يتصور مدى بشاعتها وخطورتها - نقول: إننا عندما نصرح بذلك يجب أن نفرق بين محتوى خطاب هذا الحزب الرافضي الذي هو من سلالة القوم وحامل عقيدتهم ولوائهم الجديد وبين حقيقته:

فما يحمله هذا الخطاب من استنفار للأمة وإحياء مفاهيم الجهاد، وعدم الاعتراف بأسطورة قوة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، وإثبات شيء من ذلك عن أرض الواقع وغير ذلك من معان هي لاشك صحيحة، كذلك فإنه من الظلم إنكار أن هذا الحزب وقيادته وأفراده يضحون لأجل فكرتهم وهدفهم وأنهم أذاقوا العدو الصهيوني خسائر فادحة؛ بل بإمكانه أن يثخن في العدو الصهيوني أكثر من ذلك بما لديهم من صواريخ أشد وأقوى لكنه يجنبها ويحيدها كما صرح نصر الله، وبالطبع هذا حتى لا تنقطع حبال الود كلية و يبقى هناك خط للرجعة، وهو ما أثنت عليه رايس والكيان الصهيوني نفسه.

نقول: كل ذلك لا ننكره بل ينبغي تفعيله والاستفادة منه في إطاره الصحيح والعمل على إزالة الإحباط الذي أصاب الأمة، وهي ترى ذلك التضخيم والتهويل الإعلامي من قوة العدو الصهيوني وآلته، فهاهي ذا ترى بأم عينها كيف أن مجموعة صغيرة لا تبلغ قوتها ولا ترسانتها من الأسلحة معشار ما تملكه أية دولة أخرى – كيف استطاعت أن تدخل هذا الكيان الملاجئ وتصيبه بالرعب؛ وهي التي تحارب لأجل عقيدة باطلة وأهداف طائفية ومشروع فارسي؟!

لكن هذا المحتوى شيء والحقيقة التي لا تنفك عن التاريخ القديم والحديث شيء آخر.

أما التاريخ القديم : فسجل الرافضة فيه واضح وضوح الشمس, ولم يكن يجادل عنهم أحد كاليوم.

وأما التاريخ الحديث : ففتِّشوا في صفحاته كله، فلن تجدوا ما يفيد بأن إيران قد دخلت معركةً أو حربًا مع اليهود.. أو حتى مع أمريكا؟! بل سنجد أن إيران التي افتضح أمرها باستيراد السلاح اليهودي والأمريكي أثناء الحرب مع العراق.. هي نفسها إيران التي تقود المشروع الرافضي في المنطقة، وهي نفسها إيران التي تمالئ أمريكا وتُعينها على استمرار احتلالها للعراق، وهي نفسها التي تُسخِّر النظام السوري لتصفية خيرة أبناء شعبه، وهي نفسها التي تستخدم حزب الله في تدمير لبنان وتهديد أمنه واستقراره، وهي نفسها التي ما تزال عَينُها على الخليج العربي، وهي نفسها التي تحوّل الحركات الفلسطينية إلى ورقةٍ ولعبةٍ تلعبها متى أرادت على حساب أمن المنطقة العربية والإسلامية كلها!!

لو كان هؤلاء الرافضة جادّين في مقاومة المحتل اليهودي، فلماذا تبقى جبهة الجولان هادئةً وادعةً حتى الآن؟!

أفيليق بعد هذا.. أن يغتر أقوام بهذا الحزب الرافضي.. ويصفقوا له بحماس؟!! وتاريخهم الأسود شاهد على إجرامهم المنظم ضد أهل السنة.

أيليق أن نقبل أن تكون هذه العملية وسيلة لتحقيق المشروع الرافضي، وأن يقومَ الرافضة بالترويج لأنفسهم زورًا وبهتانًا، بأنهم أصحاب المقاومة الباسلة، بينما هم يمالئون الأعداء على رءوس الأشهاد؟!!

أو أن يتاجر الرافضة بهذه العملية بقضية فلسطين، وفي ذات الوقت يذبحون إخواننا الفلسطينيين  في بغداد.. ويستبيحون أرواحَهم ودماءهم وأعراضَهم وأموالَهم؟!!

 

وأما ذلك القدر من الخلاف السائغ فهو: بعد الاتفاق على وجوب نصرة إخواننا المستضعفين المظلومين في فلسطين ولبنان وخطورة العقيدة الرافضية ومشروعها في بلاد السنة؛ ووجوب الحذر والتحذير منها، يبقى بعد ذلك مساحة من الاختلاف المعتبر في بعض المسائل المتعلقة بنصرة المقاومة بجميع فصائلها السنية والشيعية:

فيبقى هذا - في رأينا - من مسائل الاجتهاد المرتبطة بالمصالح والمفاسد المتحققة أو التي يغلب على الظن وقوعها؛ فقد يرى البعض في المشروع الرافضي الخطر الأكبر على الإسلام والمسلمين وأن هذا الاختلاف صوري ومؤقت من باب اختلاف السراق على الغنيمة، فهذا قد يسعه أن يرفض دعم حزب الله بأية صورة من صور الدعم ولو بالدعاء، مع التأكيد على القدر المتفق عليه من وجوب نصرة المستضعفين والمظلومين وردع الظالمين بجميع سبل الردع المتاحة. وأن المقاومة التي يشرف المسلم بالانتساب إليها ويسعى إلى دعمها والوقوف خلفها وتأييدها، هي المقاومة التي تنطلق من أسس واضحة ومنطلقات شرعية صحيحة تسعى لطرد المحتل وعودة الأرض لأصحابها ولإعلاء كلمة الله، وتسعى لتطبيق شريعته دون أن يكون لها تعلقات مشبوهة وارتباطات مريبة بوعي منها أو بلا وعي.

وقد يرى البعض الآخر - بعد الاتفاق على خطر الرافضة ومشروعهم الخبيث في الأمة وأهدافهم الحقيقية من تحريك الأحداث – قد يرى هذا الفريق بعد ذلك أن من  مصلحة الأمة كسر شوكة العدو الصهيوني أولاً.

وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة؟!

فأجاب: 'الحمد لله، كل من كان مؤمنًا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو خير من كل من كفر به وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء أكانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم، فإن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له لم يكن كافرًا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم'.

وأخيرًا فإنه ليس من العدل ولا من الحكمة أن يحشر الناس في زاوية ضيقة وأن يخيروا بين خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تكون مع هذا الطرف أو مع ذاك، فتستبدل عدوًا بعدو، وخصمًا بآخر.

والمسلم، وإن كان يفرح بكل ما يقع في العدو الصهيوني من خسائر وجراحات ونكايات، فلا يلزم من هذا أنه يؤيد كل الأطراف المقاومة في لبنان، أو يقف معها في خندق واحد ويشاركها مشروعها وأهدافها.

كما أن انتقاده المقاومة وبيانه لحقيقتها وحديثه عن أخطائها ومثالبها لا يعني أبدًا أنه يقف مع العدو الصهيوني أو يسكت على جرائمه ويغض الطرف عنها، أو يسوغ له عدوانه الذي يقع في حقيقة الأمر على الشعب اللبناني الأعزل كله، وعلى كافة مناطقه وفئاته.

وبعد؛ فإن الأمة جميعها مطالبة بالعودة إلى ربها ودينها؛ فإننا لا نشك في أن اشتداد البلاء, وتعاظم المحنة إنما هو بسبب ذنوبنا ومعاصينا؛ لذا فإن على الأمة، أفرادًا وجماعات ودولا، أن تعود إلى ربها, وتتوب إليه، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}.

ثم لتعلم الأمة ولتوقن تمامًا أن تحرير بيت المقدس الذي فتحه عمر رضي الله عنه لن يكون أبدًا على يد من يسب عمر ويطعن فيه!!

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

اللهم رب جبريل وميكال وإسرافيل اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

نسأل الله أن يحفظ إخواننا المستضعفين في كل مكان وأن يرفع عنهم الضر وكيد الكائدين وعدوان المعتدين وظلم الظالمين وأن يعجل بنصره لعباده المؤمنين وأن يخذل الكافرين وأعوانهم في كل مكان.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 



مقالات ذات صلة