عائلة الفقيد عبد اللطيف الحسن حكاية مأساة

بواسطة أيمن الشعبان قراءة 1473

عائلة الفقيد عبد اللطيف الحسن حكاية مأساة

قليلة بل نادرة جدا العوائل الفلسطينية التي ليس لها حكاية مأساة أو قصة معاناة أو فترة مظلمة في بلاد الرافدين الجريح المحتل ، لا سيما بعد عام 2003 حيث توالي النكبات وكثرة الانتكاسات ومن شدة الفاجعة وهول المصيبة وفظاعتها لم نتمكن أو نقدر جمع كل الجراحات واللئواء بل هي محاولة لإظهار بعض العينات والنماذج التي عانت ما عانت وما خفي أعظم وليس الخبر كالمعاينة .

الفلسطيني عبد اللطيف علي محمود الحسن ولد في قرية إجزم عام 1940 وانتقل مع ذويه إلى العراق بعد نكبة عام 1948 لتبدأ رحلة وحقبة جديدة ، وعاش كسائر الفلسطينيين المهجرين وكان من القلائل الذين تزوجوا بامرأة عراقية ، حصل على شهادة البكالوريوس في الآداب قسم الفلسفة من جامعة بغداد ، وزوجته العراقية صديقة فخري رباح أيضاً بكالوريوس آداب قسم الفلسفة من جامعة بغداد وهي معلمة متقاعدة .

يسكن الفلسطيني عبد اللطيف الحسن مع زوجته العراقية وثلاثة من أولاده وابنتان في منطقة نواب الضباط ( الأمين الثانية ) جنوب شرق بغداد ذات الغالبية الشيعية ( محلة 745 ، زقاق 32 ، دار 21 ) حيث يملك بيت هناك بعد أن بناه بعرق جبينه حيث يعمل مدير عام في معمل الصمغ في منطقة العبيدي وهم من قدامى العائلات سكنا في تلك المنطقة ، والأولاد هم :

الأكبر سامر ( أبو مريم ) دبلوم في التحليلات المرضية / بكالوريوس في كلية العلوم – جامعة بغداد قسم علوم الحياة ، وكان يحاضر في مدينة الطب وهو أب لأربع بنات وكان يعمل أيضا بعد الدوام في مختبر خاص للتحاليل المرضية .

ثم سامح دبلوم معهد معلمين بكالوريوس قرآن وأصول دين كلية التربية جامعة بغداد ، كان في مرحلة كتابة رسالة الماجستير عند الحادثة وحصل على درجة الماجستير من كلية العلوم الإسلامية قسم أصول الدين بعد بتر ساقه وما تعرض له من محاولة اغتيال كما سيأتي معنا وعمل في تدريس التربية الإسلامية قبل وبعد الاحتلال .

ثم سائد بكالوريوس لغة عربية في كلية العلوم الإسلامية كان أيضا بمرحلة كتابة رسالة الماجستير عند الحادث ، وقد حصل على درجة الماجستير وهو على الكرسي المتحرك من جامعة بغداد كلية العلوم الإسلامية قسم اللغة العربية وعمل في التدريس بعد احتلال العراق عام 2003 .

ولديهم شقيقتان الأولى : سوزان بكالوريوس إدارة واقتصاد جامعة بغداد وعملت في تدريس اللغة الإنكليزية قبل وبعد الاحتلال ، وعادت لتكمل دراسة الماجستير حيث كانت بمرحلة كتابة الرسالة عند الحادثة وحصلت على درجة الماجستير من كلية الإدارة والاقتصاد جامعة بغداد قسم الإدارة العامة بعد الحادثة بسنة وعدة شهور .

والشقيقة الثانية : سيرين بكالوريوس علوم إسلامية قسم أصول الدين .

تلك العائلة من ضمن عدد من العوائل التي سكنت في أحياء عراقية صرفة بعيدا عن التجمعات الفلسطينية ، لكن الحقد الشعوبي الطائفي الصفوي لم يفرق بين هذه وتلك ، لا سيما بعد انفلات الأمور في العراق وإظهار الأحقاد الدفينة المخفية فنالها نصيب كبير من الاعتقالات ومحاولات الاختطاف والقتل والتهديد والتهجير كما سيأتي معنا .

بينما كان سائد في زيارة لدى أبناء عمه ماجد ورأفت ومحمد سعد علي الشنبور حيث يسكنون في عمارة خاصة بالفلسطينيين المهجرين في منطقة النعيرية ، حيث قامت قوة أمنية عراقية تسمى لواء الصقر بمداهمة تلك العمارة في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف ليلة الجمعة / السبت الموافق 25/6/2005 واعتقلت سبعة فلسطينيين وهم سائد وأبناء عمه الثلاثة والفقيد زهير حسن رحمه الله الذي لقي حتفه في المعتقل بعد التعذيب الشديد واثنين آخرين ، وكانوا يحاولون اعتقال أحد أبناء ماجد سعد إلا أن كثرة صراخ أمه تركوه وحاولوا أضا اعتقال رجل مسن ليغمى عليه فتركوه أيضا .

وبعد 28 يوما على هذه الحادثة وبينما سائد في المعتقل إذ داهمت قوة من لواء الذيب وبصحبتها ميليشيات منزل المعتقل سائد فخرج لهم والده الفقيد عبد اللطيف حيث كان يعاني من عوق في رجله وهو كبير بالسن ثم سألوه عن ابنه سائد ؟!! فأجابهم بأنه عندكم في المعتقل !! فقالوا له : لا تكذب أين ابنك ؟ أين هرب ؟ ثم أظهر لهم بعض الأوراق التي نثبت بأن ابنه وأبناء عمه في المعتقل وهو موكل محامي للدفاع عنهم ، فما كان منهم إلا أن ينصرفوا خائبين .

بينما انتهينا من صلاة المغرب في جامع القدس يوم السبت الموافق 24/9/2005 بلغنا خبر إصابة فلسطينيين بجروح بالغة ومصرع والدهم نتيجة اعتداء ميليشيا جيش المهدي عليهم دون معرفة المزيد من التفاصيل .

وفي اليوم التالي في وقت صلاة الظهر أحضر عدد من الفلسطينيين جنازة رجل كبير ومسن وقمنا بالصلاة عليه بعد ذلك وتبين أنه الفقيد عبد اللطيف علي محمود الحسن رحمه الله وتقبله في عداد الشهداء ، ثم بعد الاستفسار والاهتمام بهذا الموضوع تبين ما يلي :

ستة عناصر مسلحة من ميليشيا جيش المهدي يرتدون ملابس سوداء في سيارة أوبل و( 21 ) شخص في سيارة بيكب قديمة ، حيث اقتحم عدد منهم منزل الفلسطيني عبد اللطيف الحسن في تمام الساعة السادسة من مساء السبت الموافق 24/9/2005 محاولين اختطاف كل من سائد وسامح ، وعندما أدرك والدهم ذلك فوضعهم في ممر بينهم وبين جيرانهم على أمل أن لا يرونهم ، ثم طلبوا منه الأولاد فقال لهم غير موجودين ، ثم قاموا بضرب والدهم بكعب المسدسات وواجه الأشخاص الستة بنفسه ليغمى عليه ثم ربط أحدهم حزام سلاحه برقبته ليفارق الحياة بعد ذلك ، ثم قال أولئك المجرمون لزوجة الفقيد عبد اللطيف : أين الدكتور سامر وأين الأستاذ سامح والأستاذ سائد !!!؟؟ ونحن جيش المهدي ولا تتدخلي أنت لأنك ( عراقية على الراس !!! ) .

ثم دخلوا وفتشوا المنزل ليجدوا سائد وسامح ليسحبوهم إلى داخل المنزل محاولين اعتقالهم وبهذه الحالة المصير المحتوم والنهاية تعذيب بالمثقاب وحرق بماء النار ثم إلقاء جثثهم في أقرب مزبلة أو في الطرقات ،

بهذه الأثناء أخرجوا سامح ولما قاومهم أطلق عليه النار من قبل عناصر الإسناد من خارج المنزل وعندها سقط أرضا وكانت السبب في بتر ساقه لاحقا ، وعند مغادرتهم خائبين أطلقوا عليه رصاصة أخرى في نفس الساق .

ثم توجهوا نحو سائد ولأنه خفيف الوزن حملوه إلى السيارة الأوبل ، إلا أن والدته رمت بنفسها على السيارة مطالبة بإخراجه عندها خرج المجرمون من السيارة وأطلقوا الرصاص قرب قدمها وقالوا لها قلنا لك ( أنت عراقية على الراس ) وفي تلك الأثناء انتهز سائد الفرصة وخرج من السيارة فأصابته أولى الإطلاقات في فخذه ليطرح أرضا ثم أقبل أشقاهم وأطلق على رأسه إطلاقة ثم قال ( مات ) ثم أطلق أخرى على ساقه أفقدته ( 9.5 سم ) من عظمه ليبقى بعد ذلك في صراع مع المرض والعلاج لقرابة السنتين ليتسنى له المشي عليها بشكل طبيعي .

في تلك الأثناء سائد ينتظر ملك الموت في لحظات عصيبة جدا - وقد أخبرني بهذا بنفسه عندما كنت أزوره في علاجه لاحقا - ثم قالت والدتهم لتلك العناصر الآثمة المجرمة مستغربة ومتعجبة : لماذا كل هذا الذي تفعلونه بنا وأنا عراقية منكم ؟!! قالوا لها : نعم أنتي من عندنا لكن أولادك إرهابيين ولنا عشرين سنة نتدرب كي نصفي العراق من هؤلاء الخونة ونحن جيش المهدي !!! .

بعد ذلك تم نقل سائد وسامح إلى المستشفى بمساعدة جيرانهم بعد انصراف الغربان السود وتم علاجهم بصعوبة وسرية تامة خوفا من اللحاق بهم ومتابعتهم وتصفيتهم ، ليتم دفن والدهم في اليوم التالي ، وبعد عدة أيام من رجوع البنات ووالدتهم إلى منزلهم عاودت تلك العناصر بمحاصرة المنزل بعد معرفتهم بعودة شقيقهم سامر بعد انتهاء مجلس العزاء ، واتصلوا ببعض أقاربهم كي ينقذوهم من تلك الفئة المجرمة التي هددتهم بضرورة إخلاء المنزل وعدم الرجوع إلى المنطقة نهائيا .

وفعلا انتقلت المرأة وبناتها إلى منطقة أخرى وحاولت لاحقا بعد مدة لتصفية ما بقي لهم من منزل وحاجيات إلا أنها فوجئت من قبل أصحاب العقار في المنطقة بعدم إمكانية بيع المنزل مع أن ملكيته تعود لهم !!!.

وبعد عناء ومشقة قام أحد الأشخاص بشراء حاجيات المنزل بسعر بخس ومع ذلك قامت الميليشيات بمطاردته واعتقاله أثناء نقل آثاث المنزل ، وبعد صعوبة ومشقة وعنا اضطرت والدتهم لبيع البيت بسعر بخس ، وانتقلوا بشكل مؤقت إلى منطقة أخرى لتبدأ محنة جديدة بخصوص العلاج ، فسامح تم بتر ساقه نتيجة خطورة الإصابة وصعوبتها ، وسائد حصل تكسر كبير في عظام الساق خلف حفرة كبيرة وهما بحاجة لعناية فائقة واهتمام كبير وبالمقابل لا يتسنى لهم البقاء بأي مستشفى لسيطرة الميليشيات عليها ، فكانت حقيقة مأساة حقيقة وأوقات عصيبة لتلك العائلة .

فقدوا والدهم وسامح بترت ساقه وسائد إصابته بليغة وفقدوا منزلهم ، ووالدتهم وشقيقاتهم في مكان وشقيقهم بمكان وهما في مكان آخر مع ضرورة العلاج والعناية المركزة ، لكن ألهم الله تلك العائلة الصبر على هذا المصاب واستطاعوا الثبات وعندما أحسوا بانفراج خفيف سارعوا بمغادرة البلاد إلى وجهات مختلفة .

أحدهم بقي في دولة عربية كلاجئ واثنين منهم وصلوا بعد عناء ومشقة إلى بلغاريا ووالدتهم وابنتيها ينتظرون في تركيا بعد ضياع معظم نقودهم بعد محاولة الأم والبنات للالتحاق بالأخ الأكبر في بلغاريا إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن وتم في حينها إلقاء القبض على المهرب متزامنا مع حملة كبيرة للقضاء على التهريب هناك ، وهم الآن يتواجدون في تركيا ليعيشوا مأساة اللجوء في بلد قوانينه غاية في الصعوبة لاسيما بما يخص اللاجئين الفلسطينيين الذين تقطعت بهم السبل .

قد يظن قارئ هذه القصة والمأساة بأنها من نسيج الخيال وقد تشاهد في بعض الأفلام الهندية وما إلى ذلك ، لكن كل ما ذكر هو حقيقة ولولا أنني قد عشت أجزاء من هذه القصة لم أكن بمستوى من الجرأة في كتابتها ، وهذه القصة ومثيلاتها متعددة لكن يبدو أن قدرنا كفلسطينيين عشنا في العراق ونصيبنا الإهمال وعدم الاكتراث لما يحصل لنا ، فالبعض قد يعتبرنا فلسطينيون من الدرجة العاشرة وآخرين لا زالوا في طور التشكيك في كل ما حصل لنا ، مع أن العديد من المؤسسات والمنظمات الحقوقية والإنسانية قد ذكرت أشياء من هذه القصص والنماذج ، وكما يقول المثل ( الذي لا يرى من الغربال أعمى ) فنحن مع أناس قد أصيبوا بعمى البصيرة لا البصر نسأل الله العافية .

عائلة كهذه مثقفة متعلمة مثابرة قد رفعوا العلم شعارا لهم ، وقد كرسوا حياتهم للتعلم والتعليم ووصلوا إلى مراحل متقدمة ومنحوا شهادات قيمة ، السؤال الذي يطرح نفسه : لو كانت هذه العائلة في أي دولة غربية أو تهتم بحقوق مواطنيها لاسيما لهذه العائلة هل سيكون حظهم ونصيبهم الإهمال !!!؟؟؟ أم أنهم سيهتموا بهم وينتفعوا من خبراتهم وشهاداتهم ، لكن للأسف الحقيقة المرة في عالمنا العربي والإسلامي أن تلك النماذج نصيبها الإهمال واللامبالاة ، وأصبحت المقاييس مادية محضة وذات طابع مصلحي إلا من رحم الله وقليل ما هم .

نسأل الله لفقيدنا عبد اللطيف الحسن الرحمة والمغفرة وأن يتقبله في عداد الشهداء ، ونسأله عز وجل أن يثبت ويهون عن أفراد عائلته ويثيب أولاده خيرا على صبرهم وما لاقوه من عناء ومشقة ونسأله أن ييسر أمرهم ويفرج همهم وينفس كربهم ويجمعهم عن قريب ويلتئم شملهم إنه ولي ذلك والقادر عليه .

21/3/2009

أيمن الشعبان

 

 



مقالات ذات صلة