يوماً بعد يوم يزداد تعقد المشهد السياسي في لبنان مع إصرار المتظاهرين على استقالة رئيس "الجمهورية" والحكومة وحل "البرلمان"، مع تمسك "التيار الوطني الحر" الذي يهيمن عليه "حزب الله" برفض استقالة الحكومة الحالية تحت أي ظرف من الظروف، فما سر إصرار "حزب الله" على بقاء الحكومة؟ وهل هناك بدائل ممكنة على أرض الواقع؟.
نشر موقع لوب لوغ الأمريكي تقريراً أعدته مجموعة الأزمات الدولية بعنوان «ثورة لبنان»، استعرض فيه الأسباب التي أدت لاندلاع الموجة الحالية من الاحتجاجات، وكيف تحولت إلى "ثورة شعبية" لها مطالب واضحة تحت الراية اللبنانية بعيداً عن الطائفية، في بلد يقوم نظامه السياسي منذ نشأته على المحاصصة الطائفية.
لعبة عض الأصابع بين الطرفين
منذ الإثنين الماضي 21 "أكتوبر/تشرين الأول"، تبلور الموقف في "ثورة لبنان" بين طرفين هما النخبة السياسية المتمثلة في الرئاسات الثلاث (رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمان) من ناحية وبين "الثوار" في الشارع من ناحية أخرى، حيث أعلن سعد الحريري، رئيس الوزراء، في ذلك اليوم، حزمة إصلاحات اقتصادية بعد انتهاء مهلة الأيام الثلاثة التي قال إنه منحها لشركائه في الحكومة، وكانت الطبقة السياسية تعول على أن تؤدي تلك الإصلاحات لإقناع غالبية المحتجين بالعودة لمنازلهم ومن ثم عودة الأمور إلى ما كانت عليه مع بعض الإجراءات التي ربما تحسن قليلاً من الظروف المعيشية الضاغطة.
لكن الطرف الآخر وهم المحتجون في الشارع تمسكوا أكثر بمطلبهم وهو التغيير الشامل واستقالة الطبقة السياسية بأكملها (كلن يعني كلن)، وبدأوا في التصعيد بطرق متعددة، أبرزها إغلاق الشوارع والاعتصامات في الساحات الرئيسية لفرض حالة عصيان مدني على أرض الواقع.
الموقف إذن أصبح يشبه لعبة عض الأصابع، السلطة تراهن على الوقت لإنهاك "الثوار" والطرف "الثائر" "يراهن" على الإصرار وحسن التنظيم وعدم التراجع.
ما موقف الكتل السياسية من "الثورة"؟
يصب "الثوار" جام غضبهم على الطبقة السياسية الحاكمة برمتها دون استثناء، وعلى الرغم من ذلك تزعم كل التيارات السياسية أنها تدعم الاحتجاجات وتقف في صف الشارع، لكن تلك الخطابات لا يبدو أنها تلقى آذاناً مصغية ولا تخدع أحداً حتى الآن، حيث دعا قادة "الأحزاب" والكتل منتسبيهم للمشاركة في الحراك وربما حتى لقيادته وتوجيهه دون أن يكون لهذا أي انعكاس ملموس على الأرض مع دخول الاحتجاجات أسبوعها الثاني اليوم الخميس 24 "أكتوبر/تشرين الأول".
وفي بعض مناطق جنوب لبنان –معقل "حركة أمل" وزعيمها رئيس "البرلمان" نبيه بري– قامت بعض العناصر المسلحة من أعضاء "الحركة" بالاعتداء على المحتجين ومحاولة فتح الطرق المغلقة بالقوة يوم 19 "أكتوبر/تشرين الأول"، لكنهم فشلوا في ترهيب المحتجين وتم سحب تلك العناصر وتبرأت منهم "حركة أمل" في بيان في اليوم التالي، وزعمت أنها مع الحراك ولا تقف ضده.
وفي بيروت مساء 18 "أكتوبر/تشرين الأول" قام بعض المحسوبين على "الثوار" بتخريب بعض المحال التجارية في وسط بيروت، واستخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق "المتظاهرين" في ساحة رياض الصلح الشهيرة والقريبة من مبنى "البرلمان" وقصر الحكومة، وفي بيان لاحق أعلنت قوات الأمن إصابة 52 من عناصرها إصابات طفيفة، والقبض على 70 من "المتظاهرين"، ولكن تم احتواء الموقف وعاد المحتجون للساحة وأصبحت أحد مقرات الاحتجاج والاعتصام الرئيسية.
لماذا ترفض الحكومة الاستقالة؟
الحكومة اللبنانية الحالية هي حكومة "وحدة وطنية" من حيث الشكل، وتضم 30 وزيراً يمثلون التيارات والكتل والطوائف، ورغم أن رئيس الوزراء سعد الحريري زعيم تيار المستقبل الممثل الأبرز للطائفة السنية، فإنه على أرض الواقع يهيمن تحالف "التيار الوطني الحر" بزعامة جبران باسيل و"حركة أمل" بزعامة نبيه بري و"حزب الله" بزعامة حسن نصرالله على قرارات الحكومة، وبالتالي يرفض "حزب الله" رفضاً تاماً استقالة الحكومة، وهدد حسن نصرالله، السبت 19 "أكتوبر/تشرين الأول"، أي "حزب" أو سياسي يستقيل، لماذا؟
يزعم نصرالله والمتحالفون معه أن استقالة الحكومة ستؤدي لانهيار لبنان ودخول البلاد إلى المجهول، وعلى الرغم من أن ذلك يبدو احتمالاً وراداً، فإن المؤكد أن هذا الطرح تقف وراءه مصالح سياسية بل ووجودية تخص "حزب الله" على وجه الخصوص، فـ"الحزب" يتمتع بالتأثير الأبرز داخل الحكومة الحالية، وذلك من خلال حلفائه.
أبرز حلفاء "حزب الله" هو "التيار الوطني الحر"، بزعامة وزير الخارجية جبران باسيل، وقد حصل التيار بمساعدة "حزب الله" على حصة تاريخية في الوزارة الحالية لأول مرة في تاريخه، وباسيل نفسه وهو صهر رئيس "الجمهورية" ميشيل عون، ويطمح إلى أن يحل محله بعد أن تنتهي ولايته في 2022. منصب رئيس "الجمهورية" في لبنان يشغله نصراني من الموارنة، وبتحالف باسيل مع "حزب الله" أصبح "التيار" "الحزب" الأبرز بين النصارى على حساب "حزب القوات" بزعامة سمير جعجع.
وبالتالي فإن جعجع المعارض لتحالف "التيار الوطني الحر" مع "حزب الله" والمجاهر برفضه التام للنفوذ الإيراني في الساحة اللبنانية من خلال "حزب الله"، أعلن استقالة وزراء القوات في الحكومة وعددهم أربعة، وهو الموقف الذي اتخذه وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي، بإعلان استقالة وزيرَيه في الحكومة، لكنه عاد وتراجع عنه.
"حزب الله" إذن يرفض استقالة الحكومة بسبب هيمنته الفعلية على قراراتها، لكن هناك سبب آخر أهم، وهو كون الحكومة الحالية تمثل حكومة "وحدة وطنية" تضم كل التيارات السياسية في لبنان، وبالتالي تمثل درعاً واقية أمام الضغوط الأمريكية التي تصنف "حزب الله" كمنظمة إرهابية، والأمر نفسه بالنسبة لأوروبا، وبالتالي استقالة الحكومة الحالية أو انسحاب المعارضين منها وبقاء المتحالفين مع "حزب الله" فقط سيعرضها للعقوبات والضغوط الدولية.
لماذا لا يستقيل سعد الحريري؟
هذا المشهد يطرح السؤال الخاص برفض سعد الحريري الاستقالة، أو على الأقل عدم الإقدام عليها حتى الآن، والإجابة تكمن في موقف سعد الحريري نفسه كزعيم للتيار السني في لبنان، وخشيته من فقدان موقعه هذا الذي ورثه عن والده رفيق الحريري الذي تعرض للاغتيال في عملية تفجير ضخمة في الرابع عشر من "فبراير/شباط" 2005، ووجهت أصابع الاتهام لـ"حزب الله"، بل وربما يخشى رئيس الوزراء الحالي تعرضه للمصير ذاته إذا ما أقدم على الاستقالة وانحاز لمطلب "الثوار" مخالفاً تحذيرات نصرالله.
ماذا ينتظر لبنان؟
مع فشل ورقة الإصلاحات الاقتصادية، وازدياد رقعة التظاهرات، واستمرار الزخم، ورفض الجانب صاحب القرار الحقيقي فكرة الاستقالة، يبرز السؤال: وماذا بعد؟ استمرار "الثورة" والحراك في الشارع في الأيام القادمة يشير إلى أن لبنان مقبل على فترة طويلة من عدم الاستقرار، حيث لا يوجد بديل سياسي واضح على الساحة يمكنه أن يتولى زمام الأمور حال استقالة الحكومة بالفعل.
موقف الجيش اللبناني حتى الآن يبدو متوازناً بين مطالب السلطة بمنع إغلاق الطرق وبين عدم المساس بحرية الاحتجاج السلمي والتواجد في الشارع، لكن الموقف ربما يتغير بشكل درامي حال انتشار قوات من الجيش في الضاحية الجنوبية (معقل "حزب الله") لمنع تعرض المحتجين لمضايقات أو اعتداءات من جانب ميليشيات "الحزب" أو "حركة أمل"، وقد تدخل الجيش بالفعل لتفريق "مسيرة" بالدراجات النارية لمسلحي "الحزب" في بيروت قرب تجمع للمتظاهرين قبل يومين، في إشارة على ما قد يحدث لو تصاعدت الأمور.المؤكد أنه لو نجحت "الثورة" في لبنان وصمد المحتجون ولم تفلح محاولات السلطة في احتواء الشارع، واضطرت الحكومة بالفعل للاستقالة، سيكون "حزب الله" هو أكبر الخاسرين، وهو ما يشير إلى أن "الحزب" وزعيمه حسن نصرالله لن يقبلا بتلك الاستقالة قبل استنفاد كل أدواتهما وأوراقهما للحفاظ عليها، والقلق الحقيقي هنا هو اللجوء للقوة لتفريق المظاهرات.
المصدر : ترجمة عربي بوست لتقرير موقع لوب لوغ الأمريكي
25/2/1441
24/10/2019