الفقيد الشيخ توفيق عبد الخالق ثبات حتى الممات
كثيرة هي المواقف والآثار التي تركناها في بغداد الرشيد ، والأعز من ذلك فقدان عدد من الأحبة والخلان الذين لازالت ذكراهم في قلوبنا ونفوسنا وإن زهقت أرواحهم وصعدت إلى باريها لكن أحوالهم وثمارهم وما قدموا تكتنف مخيلتنا وتتداخل في حياتنا لأنهم سطروا أروع الأمثلة في التضحية والعطاء والدعوة إلى الله والهمة العالية والثبات ونشر الخير والصدع بالحق والحرص على الخير لعامة الناس .
من أولئك علم عرفناه عن قرب ، وداعية بذل نفسه وجهده ووقته بل ودمه في سبيل نصرة الحق والثبات عليه ونشر الخير حيثما وجد ، ذلك الشيخ الكبير في سنه والكبير في همته وعلمه وصدعه بالحق الفقيد الشهيد بإذنه تعالى الشيخ توفيق عبد الخالق الداود ( أبو العبد ) رحمه الله .
ولد الشيخ في قرية إجزم عام 1935 ونشأ فيها ليضطر لتركها والهجرة منها عام 1948 ضمن عدد من الفلسطينيين الذين هجروا من قراهم وبلداتهم لا سيما قرى المثلث ( جبع وإجزم وعين غزال ) الذين سطروا في تلك الفترة أروع المواقف البطولية وصمدوا وقاوموا المغتصبين إلا أن أسباب عديدة لعبت دورا في احتلال قراهم ومدنهم ليصلوا في آخر المطاف إلى العراق .
عرف الشيخ رحمه الله بهمته العالية في طلب العلم والتدريس والدعوة إلى الله ،فقد عمل خطيبا في عدة مساجد من بغداد وبرع في هذا المجال فله أسلوب مشوق وقدرة على إيصال المعلومة بأسلوب مبسط وسهل ، يعتبر من أبرز الواجهات في المجتمع الفلسطيني في العراق وساعد في حل العديد من المشاكل والقضايا العالقة ، وله علاقات اجتماعية واسعة ومحترم من قبل مختلف شرائح المجتمع الفلسطيني في العراق .
كان للشيخ دور بارز في نشر قضية الفلسطينيين في العراق لا سيما بعد الاحتلال عام 2003 ، ولم يترك جهدا أو سعة إلا بذلها وكان حريصا على إيصال تك المعاناة لجميع الجهات والمؤسسات الرسمية وغيرها ، ولم يكن يتأخر عن أي جهد أو لقاء أو حضور أو مكان فيه خدمة للصالح العام ، وهذا لمسته بنفسي عندما كنا نذهب سويا لبعض الشخصيات الدينية والسياسية في العراق لننقل لهم معاناة أهلنا هناك ، بل حضرنا سويا العديد من المؤتمرات واللقاءات وكان دوما يرأس تلك الوفود واللقاءات .
لم أجده متأخرا أو متلكئا في أي زيارة أو لأي جهد ينفع قضيتنا بل في بعض الأحيان تكون هنالك لقاءات وجلسات فجائية غير معد له مسبقا وبمجرد إخباره بذلك يكون على أتم الاستعداد للذهاب رغم كبر سنه وأحيانا يكون مريضا لكن حرصه على تقديم الخير وإيصال القضية وتقديم شيء دفعه لكل ذلك .
من أبرز الصفات التي وجدتها فيه ولمستها التواضع الكبير للشيخ رحمه الله فلم يكن يحتكر المجلس ولم يتكبر عن الجلوس أو الحديث مع من هو أقل منه علما أو عمرا ، كان يصبر ويتحمل من المقابل الكلام ويتحاور معه بالحجة والبيان من غير أي تجاوز أو تكبر أو ازدراء ، بل أذكر في هذا المقام موقفن لتواضع الشيخ رحمه الله وتقبله مع الشهداء تدل على مدى بساطته ولين جانبه وتواضعه الجم .
في إحدى المرات دعيت لحضور عقد زواج أحد الشباب في مجمع البلديات له قرابة مع الشيخ رحمه الله ، وكان المعتاد أن أقوم بعمل عقد الزواج الشرعي آنذاك ، وعندما حضرت ووجدت الشيخ رحمه الله حاضرا ومن باب إذا حضر الماء بطل التيمم قلت في نفسي لا يمكن أن أقوم بعقد الزواج والشيخ موجود فتركت الأمر له وعندما أشير إلي بالمباشرة قلت كلا طالما الشيخ توفيق موجود فهو الأولى ، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن أصر بأن أقوم أنا بإجراء العقد الشرعي ، وهذا يدل على تواضعه ولين جانبه وبساطته وعدم ترفعه أو تكبره فرحمك الله يا أبا العبد وأسكنك العلى من الجنة وجمعنا بك في دار رحمته مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
موقف آخر دل على تواضع الشيخ رحمه الله عندما توفي جاري وأخي في الله الفقيد أياد طه الهاشم ( أبو محمد ) رحمه الله رحمة واسعة وحضرنا مجلس العزاء في جامع القدس واعتاد العديد من الأهالي هناك أن أقوم بعمل درس وعظي قصير لمواساة أهل الفقيد وتصبيرهم وما إلى ذلك وقد حضرنا في اليوم الثالث وكان الشيخ أيضا حاضر وكنت أظن بأنه سيلقي على مسامعنا تلك المواعظ إلا أنه يصر مرة أخرى بأن أقوم أنا بالحديث ، فرحمه الله رحمة واسعة .
عرف الشيخ رحمه الله بصدعه بالحق وعدم المداهنة والمجاملة شديد فيه متمسكنا به لا يحابي فيه أحدا ثابتا عليه ، وقد كان متمسكا بسنة النبي عليه الصلاة والسلام ولم يأخذ حتى بالرخص في أحلك الظروف حتى فارق الحياة وهو على ذلك .
ترأس الشيخ رحمه الله الوفد الشعبي الذي زار مقتدى الصدر في النجف منتصف عام 2005 على أمل إيصال فكرة له وبدوره يوصي أتباعه بالتخفيف عن الفلسطينيين في العراق إلا أن الأمر ازداد سوءا بعد هذا اللقاء حيث كثرت عمليات اختطاف وقتل واستهداف وتهديد وتهجير العديد من الفلسطينيين والقرائن الكثيرة الأدلة تثبت تورط ما يسمى بميليشيا جيش المهدي بها .
الشيخ توفيق رحمه الله لم يمنعه أو يعصم دمه لقاء مقتدى الصدر ليبوء الأخير بإثم تلك الجريمة والخزي والعار على من قاموا حقا باختطافه رحمه الله وقتله بينما كان في زيارة لأقرباءه في الطوبجي بتاريخ 22/11/2006 ، وبعد البحث والتحري عثر على جثته بتاريخ 27/11/2006 في مستشفى الكاظمية التعليمي وقد قتل خنقا بعد جلده وتعذيبه في أجزاء من جسده ليسطر بدمه حقيقة الحقد الأسود الفارسي الصفوي لميليشيا المهدي التي ارتكبت أبشع المجازر بحق أهلنا في العراق بين قتيل وجريح ومعاق ومهجر ، بل كل ما يحصل الآن من عناء ومشقة ولئواء وفرقة وشتات جديد وضياع في دول أوربا وغيرها وتفسخ للنسيج الاجتماعي وضعف الأواصر الأسرية يتحمل تبعته مقتدى وأتباعه من جيش المهدي لأنه السبب الرئيسي في كل تلك المآسي لأننا لغاية منتصف عام 2005 لم يكن هنالك استهداف مباشر ومبرمج ومنظم في الاستهداف .
فرحم الله جميع من فقدنا ونسأل الله أن يتقبلهم في عداد الشهداء والخزي والعار على من يدعون العروبة ويشاركون في قتلنا وتهجيرنا ، والخزي والشنار على أتباع ابن العلقمي الذين يدعون كذبا وزورا نصرة القضية الفلسطينية ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) .
رحمك الله يا أبا العبد وأسكنك فسيح جناته وجمعنا وإياك في جنات النعيم وصبر ذويك ومحبيك على فراقك وعوضا خيرا من ذلك وشفعهم فيك يوم القيامة .
31/1/2009
أيمن الشعبان
باحث متخصص في شأن الفلسطينيين في العراق