الإنكار على أهل البدع واجب شرعي وليس ظلماً

بواسطة مجلة التوحيد قراءة 1901

الإنكار على أهل البدع واجب شرعي وليس ظلماً

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فقد درج أهل الأهواء والبدع والافتراق على تسمية احتساب السلف الصالح على أهل الأهواء والبدع والافتراق والتحذير من بدعهم وحماية عقيدة الأمة منها ظلمًا وعدوانًا وحجرًا، وكتمًا للحريات، وإرهاب المخالف، واستعداء عليه، وكان من أبرز هذه المزاعم: دعوى أن السلف الصالح أهل السنة ظلموا الفرق، وأنهم بإنكارهم للبدع والمحدثات يفرقون المسلمين، وقد جهل هؤلاء أو تجاهلوا أنه قد ثبت في النصوص القاطعة أن هذه الأمة - كسائر الأمم السابقة - ستفترق، وأنه ستبقى طائفة واحدة من ثلاث وسبعين على الحق، كما قال الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود: 118، 119]، وقال صلى الله عليه وسلم : «لتتعبن سنن من كان قبلكم».

وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع والمحدثات والأهواء والافتراق، وأخبر عن دعاة السبل وحذر منهم، ومن دعاة الضلالة، وأمر الله تعالى بالاعتصام بحبل الله، ونهى عن التفرق فقال سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وأمر صلى الله عليه وسلم بالجماعة والسنة، ونهى عن الفرقة والبدعة، وقد استجاب السلف الصالح - الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان - لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا خبره وأخذوا بوصيته، وقاموا بواجب النصيحة في نشر السنة والنهي عن البدعة والتحذير منها وحماية الأمة من غوائلها، واستجابوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». [رواه مسلم رقم: 49].

فإن البدع أعظم المنكرات بعد الشرك، وجهود السلف في هذا الصدد مشهورة، ومن ذلك:
- لما حدثت الردة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم قيض الله تعالى لها أبا بكر - رضي الله عنه - فوقف وقفته الحازمة المشهورة التي كسر الله بها موجة الردة، وأعز الله بها الدين، وأيده على ذلك الصحابة - بإجماع - وناصروه.

- ولما ظهرت بعض بذور البدع في عهد عمر - رضي الله عنه - كالكلام في القدر، والاحتجاج على المعاصي، ومتشابه الآيات، فأقام عمر معوجها بدرته المشهورة، فأدّب صبيغًا لخوضه في الآيات المتشابهات، وأدب الأمة كلها عندما هدد النصراني القدري - بطريك الشام - حينما زعم أن الله لا يضل من يشاء، كما أدب عمر - رضي الله عنه - الأمة كلها كذلك بقطع شجرة الحديبية لقطع دابر البدع، ونهى الذين كانوا يرتادون مواطن محددة للتعبد عندها مما لم يرد به الشرع.

ونَهَرَ كعب الأحبار، وقال له: «لقد ضاهيت اليهودية» حينما أشار كعب أن يصلي عمر إلى الصخرة في بيت المقدس.

- وأدب علي - رضي الله عنه - الشيعة الغلاة، وحرقهم في النار حينما علم أنهم يغلون فيه ويقدسونه، وأمر بجلد المفترية من الشيعة الذين فضلوه على أبي بكر وعمر.

ولما ظهرت الخوارج قيض الله لها سائر الصحابة وعلى رأسهم عليّ رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما، فأقاموا عليهم الحجة، وبينوا لهم المحجة حتى رجع منهم من كان يريد الحق، وأصر أهل الأهواء على بدعتهم، فقاتلهم الصحابة احتسابًا وامتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمعًا لبدعهم، وحذروا منهم ومن مجالستهم.

ولما ظهرت القدرية في النصف الثاني من القرن الأول تصدى لها متأخروا الصحابة كعبد الله بن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع، رضي الله عنهم، وكان من أشدهم على القدرية ابن عمر، الذي حذر منها وأنذر، وكشف عوارها، وحذر من معبد الجهني رأس القدرية وأصحابه، ونهى عن مجالستهم ومخالطتهم والتلقي عنهم، وكذلك ابن عباس وكذلك لما أعلن غيلان الدمشقي بدعة القول بالقدر تصدى لها التابعون وعلى رأسهم مجاهد، والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وريحانة الشام الأوزاعي، لكنه أصر على بدعته حتى قتله هشام بن عبد الملك لبدعته، وقد زعم أهل الأهواء أن قتله كان سياسيًا! وهذا ضرب من الحكم على القلوب والنوايا التي لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه واتهام للنيات، والعدول عن الأمر البيّن المشهور الثابت عن الثقات إلى الظنون والأوهام والمشتبهات.

ثم اعتزلت المعتزلة الأولى وعلى رأسهم واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، فتصدى لهم أئمة السنة أمثال الحسن البصري، وأيوب السختياني، وابن عون، وثابت البناني، وابن سيرين، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، وأبي حنيفة، وابن المبارك، وهكذا كلما كثرت حشود البدعة تصدت لها جحافل السنة.

ولما نبغت الرافضة قيض الله لها أمثال: الشعبي والشافعي وعبد الله بن إدريس الأودي وغيرهم.

ولما برز رأس الجهمية الجهم بن صفوان، تصدى له سائر أئمة السلف: كالزهري، ومالك، وأبي حنيفة، ثم عبد الله بن المبارك، وأمثالهم.

ولما نبغ بشر المريسي - رأس الجهمية في زمانه - تصدى له أمثال عثمان بن سعيد الدارمي، والشافعي، والكناني.

ولما احتشدت حشود الأهواء زمن المأمون وبعده من الجهمية والمعتزلة ومن سار على نهجهم، وعلى رأسهم ابن أبي دؤاد، تصدى لهم إمام السنة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل، فكسرهم كسرة لم ينهضوا بعدها إلا متعثرين بحمد الله.

ولما تجمعت فلول الجهمية المعتزلة في آخر القرن الثالث، وصالت صولتها، قيض الله لها أبا الحسن الأشعري، وكان الخبير بعوارها، لأنه كان معتزليًا فهداه الله للسنة، فحشر المعتزلة في قمع السمسمة - كما قيل - وكسرهم، فانهزموا هزيمة منكرة.

ولما نبغت نابغة الكلام وريثة الجهمية والمعتزلة، وبدأ أهل الكلام يخوضون في صفات الله تعالى والإيمان والقدر، تصدى لهم أئمة السلف في القرنين الرابع والخامس الهجريين: كالبربهاري، وابن خزيمة، وابن بطة، والهروي واللالكائي، وابن منده، والملطي، والصابوني، والآجري، وابن وضاح، والبغوي، وابن عبد البر، وأمثالهم.

وفي القرون السادس والسابع والثامن الهجرية عمت البلوى بالبدع والأهواء والافتراق، وهيمنة الفرق في سائر البلاد الإسلامية، واستحكمت الصوفية ببدعها، وساد الكلام والفلسفة والباطنية والدجل، وتسلط الكفار على كثير من بلاد المسلمين في الشام وغيرها.

فقيض الله أمثال: الشاطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلاميذه (كابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وابن رجب)، فتصدى شيخ الإسلام لجحافل البدع وعساكر الضلالة وجاهد في كل ميدان بلسانه وقلمه ويده، فقد تصدى لأهل الكلام، والفلاسفة، والباطنية، والصوفية، والرافضة، واليهود، والنصارى، والصابئة.

كما كان مجاهدًا بعلمه ولسانه وسيفه للكفار التتار والنصارى الصليبيين والبغاة، وكان يشجع المسلمين على الجهاد في كل ميدان، وله في ذلك إسهامات مشهورة مشهودة.

وكان ناصحًا لولاة المسلمين وأئمتهم، يذكرهم ويعظهم، ويحثهم على الجهاد ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر بحكمة وقوة، كما كان ناصحًا لعامة المسلمين وعلمائهم، وكان آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، هو وأتباعه يصدع بذلك، ولا يخاف في الله لومة لائم، حتى أبان الله به السنة، ونصر به راية السلف، وكشف الله به أهل البدع وعقائدهم ومناهجهم، وحتى أقام الحجة، وأبان المحجة، ونصر الملة، ولا تزال آثاره ومؤلفاته مرجعًا لكل صاحب سنة، وقذى في عين كل صاحب بدعة، وفيها فرقان بين الحق وأهله، وبين الباطل وأهله، رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

وفي العصور المتأخرة: استحكمت البدع والشركيات، وانتشرت الطرق الصوفية والمقابرية والعادات الجاهلية حتى في جزيرة العرب، فتصدى لها ناصر السنة وقامع البدعة: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، فطهر الله بدعوته المباركة أرض جزيرة العرب خاصة الحجاز ونجد وما حولها من البدع والشركيات والمقابرية والصوفية الضالة، كما نفع الله بدعوته سائر أقطار المسلمين، حيث اعتزت بها السنة وأنصارها، وانتصرت السلفية، واحتمت وآوت إلى ركن شديد، حيث قامت لها وعليها دولة نشرتها وحمتها بالسيف والقلم وهي الدولة السعودية، أعزها الله بالإسلام ونصر بها السنة وأهلها.

ولا نزال - بحمد الله - نرى ثمار هذه الدعوة في كل مكان، رغم تكالب جحافل البدعة، وما أجلبوه عليها بخيلهم ورجلهم: بالسب، والهمز، واللمز، وإعلان العداوة، وصد الناس بشتى الوسائل، والله غالب على أمره.

ولما نبغت نابغة (سب السلف) في القرن الماضي (الرابع عشر الهجري) على لسان الكوثرية، معلنة انتقاص بعض أئمة السلف، ورافعة راية الكلام والتجهم، واتهام السلف وأتباعهم، ورميهم بالألقاب المشينة والألفاظ المقذعة مثل: (الحشوية، والمشبهة، والحمقى، والجهلة، والأوباش والرعاع)، قيض الله لهم أمثال: المعلمي، والألباني، وبكر أبو زيد، وسائر مشايخنا، حفظهم الله.

ولما أخرجت البدع أعناقها في البلاد الطاهرة على يد أحد المنتسبين للعلوية وأتباعهم، تصدى لها طائفة من المشايخ وطلاب العلم وفقنا الله وإياهم، ولا يزال مشايخنا لهم جهود مشكورة في هذا المضمار، وفقهم الله وسدد خطاهم، والآن وقد بدأ (نبَّاشة القبور) يثيرون المشتبهات ويشككون أبناء المسلمين بالمسلَّمات، وينهشون علماء السلف، وينبِّشون في كتبهم عن الزلات، ويطعنون في سلف الأمة ويبكون على أطلال الفرق والبدع، ويمجدون رؤوس الضلالة والأهواء، ويرددون مطاعن الزنادقة في خيار الأمة، وإنّا لمنتظرون - تحقيقًا لوعد الله بحفظ دينه - مَنْ يتصدى لهذه النابتة الخبيثة كفانا الله شرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ومما ينبغي التنبيه له، أن أهل الأهواء - قديمًا وحديثًا - يضيقون ذرعًا بإنكار البدع والتصدي للمبتدعة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجعلون ذلك - حسب موازينهم التي تقوم على الأهواء من الظلم والشتم والسب، والحجر، وكتم الحريات، والاستعداء ضد الخصوم، والتضييق على المخالفين.

ويتهمون السلف الذين ينهون عن البدع والآثام ويحذرون منها ومن أهلها: بالتكفير والتبديع والتفسيق ونحو ذلك، وكل ذلك من التلبيس والبهتان، فإن هذه أحكام شرعية يطلقها المجتهدون من العلماء الثقات على من يستحقها شرعًا، حسب اجتهادهم، وقد يخطئ الواحد منهم، لكن ليس ذلك من منهجهم.

ولذلك فإن أهل الأهواء يتهمون السلف بالسب والشتم واللعن ونحو ذلك من هذا المنطلق، أعني أنهم يسمون إطلاق الأحكام الشرعية من الكفر والبدعة والفسق ونحوها على من يستحقها شرعًا: شتمًا ولعنًا وسبًا، وهذا هو منهج أعداء الرسل في كل زمان.

مع العلم أن السب للكفر والشرك والبدع والأهواء والفسوق مشروع ومطلوب شرعًا بالضوابط الشرعية، وقد جاء ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما كان يأمر بالتوحيد، كان كذلك ينهى عن الشرك ويذم عبادة الأصنام والأوثان، وقد وصفه المشركون بأنه صلى الله عليه وسلم حين ينهى عن الشرك (يسبُّ آلهتهم) وهو سبٌّ مشروع ومن دعائم الدين الكبرى في كل زمان.

والحمد لله رب العالمين.

 

المصدر مجلة التوحيد

 

http://www.altawhed.com/Detail.asp?InNewsItemID=247092



مقالات ذات صلة