الجمهورية... علي حسين باكير
حتى الأمس القريب، كانت القيادة السياسية التركية لا تزال متمسّكة بتصوّرها عن علاقات تركية - إيرانيّة متميّزة تقوم على تعزيز التعاون الثاني وتعميق التفاهم والتنسيق في الملفات المشتركة، واحتواء نقاط الاختلاف وتضارب المصالح أو تجاهلها.
أمّا الدافع لتأكيد صحة هذا التصور لدى هؤلاء، فكان يتمّ اشتقاقه من مصادر عدّة، منها ما يتعلّق بالحقائق الجغرافية، ومنها ما يتعلّق بسياسة تصفير النزاعات ومنها ما يتعلق بالحقائق الاقتصادية المتمثلة باعتماد تركيا على الغاز الإيراني بالدرجة الأولى.
وفي هذا السياق، لوحظ احتواء الخلافات الثنائية خلال المرحلة الماضية لدرجة أنّ البعض في تركيا راح يعتقد أن لا اختلاف في أصل العلاقات. وفي غمرة هذه السياسة، كانت العلاقات العربية - الإيرانية ولا سيّما الخليجية - الإيرانية متوترة وسيئة، وكان البعض في العالم العربي يرى إمكان موازنة الخطر الإيراني بالدور التركي.
وعلى رغم أنّ الأتراك بدوا منفتحين على تعاون أكبر مع العالم العربي، وإن كان يتضمّن في الخلفية استخدام الدور التركي لموازنة الخطر الإيراني، إلّا أنّهم بقوا مُصّرين على أنّ انفتاحاً مماثلاً غير موجّه ضدّ إيران ولا يستهدفها، كما انّهم رفضوا أيّاً من المبادرات التي من شأنها أن تصوّرهم في موقع المتحيّز ولا سيّما طائفياً.
فبدت أنقرة وكأنها تؤدّي دورها الإقليمي انطلاقاً من ثقلها السنّي في مواجهة التشيّع الإيراني، أو كأنّها تنخرط في تحالفات قائمة على أساس طائفي أو فئوي، وقد أدّى هذا عملياً إلى محاباة إيران في كثير من المواقف.
ولا شكّ أنّ الوضع يختلف الآن وإن بحكم الواقع وليس التخطيط. فعامل أساسي كان وراء تغيير طبيعة تفكير صانع القرار التركي تجاه السياسة الإيرانية أخيراً، وهو الثورة السورية. فعدا أنّها وضعت تركيا والدول العربية، ولا سيّما الدول الخليجية التي لديها موقف قوي من النظام السوري كالسعودية وقطر، في اتّجاه واحد بحكم الواقع، فإنّ الوقائع أثبتت أنّ العرب أكثر خبرة بإيران وأساليبها وسياساتها من الأتراك.
ولدى سؤالنا أحد المصادر الرسمية عن سبب عدم وجود رد قوي من الحكومة التركية على اكتشاف شبكات التجسس الإيرانية أخيراً في البلاد، جاء الرد على صيغة "أنّنا لا نريد افتعال المشاكل مع إيران". ولكن ما بات يعرفه مسؤولون رسميّون ولا يقولونه، يعبر عنه متخصصون ومراقبون أتراك بشكل أفضل.
ويقول أحدهم: "لإيران قدرة على التخريب في العمق التركي. نحن دولة مؤسسات ومفهوم الدولة لدينا قديم وعميق وراسخ، أما هم فلديهم مفهوم مختلف، الدولة تُدار بعقلية مافيا، هم والإسرائيليون يعتمدون الأسلوب نفسه".
النفوذ الإيراني داخل تركيا شبيه إلى حدّ ما في تركيبته بالنفوذ الإيراني داخل الدول العربية، وإن بقدرة تأثير وتخريب أقل ولا سيما من الناحية المذهبية. لكن ذلك لا ينفي أنّ لإيران مصادرَ يمكن الاعتماد عليها في تركيا وتوظيفها لخدمة المصالح الإيرانية أو للإضرار بالمصالح التركية نفسها.
يرى متابعون أنّ الأزمة السورية كشفت أنصار إيران في الداخل التركي بشكل غير مسبوق، وقد تبيّن أنّ هؤلاء ليسوا محصورين في إطار واحد أو تحت يافطة أو تجمّع واحد، حتى الحزب الحاكم مخترق بعناصر متعاطفة مع إيران، إن لم تكن مؤيدة لها عموماً، وهو ما يعني أنّ إيران كانت حريصة طيلة الفترة الماضية على الاستثمار في الداخل التركي في أكثر من مجال، في الإعلام، في الاقتصاد، في السياحة، وحتى في دعم الأقليات الطائفية في تركيا.
ويقول هؤلاء إنّ "في استطاعة إيران الرد بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي الثانية قدرتنا على المواجهة أقل. يمكن لطهران تقليص تعاونها الاقتصادي وقطع إمدادات الغاز والحد من تدفّق السياح الإيرانيين ومنع أنقرة من استخدام الممر الإيراني لإيصال الشاحنات التركية إلى وسط آسيا.
لكن الأهم من كل ذلك قدرة إيران على خلق مشاكل لتركيا وحلفائها على الصعيد الأمني، خصوصاً في ما يتعلق بقدرة طهران على القيام بعمليات أمنية تضليلية منظّمة في الداخل التركي، كاستعمال المنظمات الإرهابية على سبيل المثال".
وتوضح المصادر لـ"الجمهورية" أنّ "قدرتنا على المناورة أقلّ، وضمن هذا الأسلوب تكاد تكون معدومة. هم يمكنهم أن يوظفوا الشيعة والعلويين، وفي مراحل كثيرة استخدموا الأكراد وحزب العمال الكردستاني، لذلك هم يوظفون الإرهاب الطائفي والإثني والأيديولوجي. ليس لدينا هذه الأساليب، وحتى لو لدينا لا يمكننا استغلالها. فعلى رغم أنّ الأقليّة الأذرية - التركية هي اكبر الأقليات الموجودة في إيران على الإطلاق، فإنهم ينتمون إلى المذهب الشيعي، وإنّ الجواسيس الإيرانيين الذين اعتقلوا أخيراً كانوا من الأقلية الأذرية على الأرجح نظراً للهجتهم".
وتضيف المصادر: "المشكلة هي أنّ في العلاقة مع إيران لا يعتمد الأمر على الرؤية الذاتية فقط تجاه العلاقات الثنائية وعلى حسن النيات، إذ عليك أن ترى كيف ينظر الإيرانيون إليك وكيف يتعاملون معك، وعلى هذا الأساس يجب تحديد السياسة المتّبعة، وإلا فإنّ التعامل مع إيران بالطرق والوسائل والسياسات التقليدية غير مجدٍ على ما أثبتت الوقائع. صحيح أن لا نية لدى الحكومة التركية للاصطدام بطهران، لكنّ الأكيد أنّ توجُّهَ الحكومة التركية بات أقرب من أي وقت مضى إلى الرؤية العربية والخليجية عموماً للخطر الإيراني، وهو مؤشر على أنّ الفترة المقبلة ستشهد صراع قوى إقليمياً شرساً على وقع انهيار النظام السوري، لأنّ اللاعب الإيراني الذي يمتلك أفضلية اللعب بالطرق غير التقليدية في مواجهة منافسيه على رقعة الشطرنج الإقليمية لن يستكين لهزيمته، وسيستخدم ما يعرفه جيداً وما يمارسه في عدد من الساحات الإقليمية كرافعة لموقفه في مواجهتهم، فالكشف الرسمي في تركيا عن استخدام إيران لحزب العمال وزرع جواسيس داخل الأراضي التركية يُعدّ مجرّد مثال".