العرب بين مجزرة بيت حانون واختطاف فلسطين

بواسطة محمد الزواوي قراءة 2265

العرب بين مجزرة بيت حانون واختطاف فلسطين

محمد الزواوي

صرح رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية أن مجزرة بيت حانون هي استمرار للممارسات "الإسرائيلية" الوحشية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، في ظل حالة من الصمت العربي والدولي، وتوعدت الفصائل برد "مزلزل" على هذه المجازر، في حين توعد خالد مشعل برد "هادر" على تلك الممارسات الوحشية التي يقوم بها الصهاينة، فقد دعا خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في تصريحات صحفية، الأجنحة العسكرية في فصائل المقاومة إلى الرد على المجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في بلدة بيت حانون بشمال قطاع غزة، وسقط خلالها 19 شهيدًا، بينهم أطفال ونساء.

هي التصريحات ذاتها، وهي التهديدات عينها التي تأتي من قادة المقاومة الفلسطينية الباسلة، برغم اختلاف المجازر؛ فاليوم استهدفت "إسرائيل" تظاهرات النساء وهدمت المساجد، ودمرت بيوتًا على أهلها من النساء والأطفال، وكانت التصريحات كما هي، كما لو كنا نرى شريطًا تسجيليًا لإحدى المجازر الفلسطينية السابقة في التسعينيات.. ولكن الجديد أن الكلام والتصريحات أوشكا على النفاد من قادة المقاومة مثلما نفد السلاح، بسبب حصار الداخل والخارج ومعاداة القريب والبعيد، ولم تتبق سوى بضعة كلمات للحفاظ على الروح المعنوية للشعب الفلسطيني.

إن الوضع في الأراضي الفلسطينية أسوأ ما يكون في تلك الحقبة التي خرجت فيها "إسرائيل" من تجربة مريرة في لبنان، بعد أن "جرحت" في كبريائها وغطرستها وسياسة الردع التي طالما اشتهرت بها في المنطقة، فما كان من سبيل لاستعادة تلك الهيبة التي كانت تمنع من يفكر في الهجوم عليها إلا أن تقتل مزيدًا من النساء والأطفال وتعثو في الأرض فسادًا، لكي تعيد رسم الصورة لذلك الكيان: صورة "الجبار المجرم المستبد الذي يظلم ولا يقف أحد أمامه"، وهو نوع جديد من الردع في عالم الفيتو الأمريكي وتخدر المشهد السياسي العربي.

ويقول المثل العربي: "اصبر على جار السوء: إما يرحل أو تحل به مصيبة"؛ ولكن انتظار حدوث هذا أو ذاك لن يجدي نفعًا؛ بعد أن استنفد الشعب الفلسطيني كل قواه، بل استنفد كل تصريحاته، في ظل حالة من الصمت العربي المشين، كما استنفد كل أسلحته أمام آلة الحرب "الإسرائيلية" التي تقتل الفلسطينيين بالحديد والنار، والذين لا يملكون إلا بضع رصاصات لا تغني ولا تسمن من جوع أمام الدبابات "الإسرائيلية"، في حين توجهت نصف رصاصات الفلسطينيين (بعضها صنع في "إسرائيل") إلى صدور النصف الآخر منه، واشتركت فتح في مؤامرة دولية لوأد حركة حماس في المهد سياسيًا، وقتل طموحها في اعتلاء السلطة وفي أن تكون أنموذجًا إسلاميًا يحتذى يمكن استنساخه في دول عربية أخرى.

فقد أكدت صحيفة "معاريف" العبرية في عددها الصادر الاثنين 16 أكتوبر 2006 المعلومات التي كانت أشارت إلى "وجود معسكر تدريب أمريكي في مدينة أريحا بالضفة الغربية، تابع لقوات خاصة تخضع لإمرة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، بدعم وتمويل أمريكي، ووصفت الصحيفة هذه القوات بأنها "جيش دفاع أبو مازن"، مشيرة إلى أنّ رئيس السلطة الفلسطينية يموِّل ما أسمته بالجيش بأموال أمريكية، كما قامت بنشر صور لمعسكر يتدرب فيه الحرس الرئاسي الفلسطيني على يد ضباط أمريكيين، مشيرة إلى أنّ الحديث يدور عن مقر أمني كبير يُبنَى بإشراف أحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية" (المركز الفلسطيني للإعلام 16/10/2006)، كما أكدت مصادر صحفية أخرى أن أولمرت أمد عباس بخمسة آلاف قطعة سلاح لمواجهة حركة حماس (موقع والاه العبري الإليكتروني، 25/5/2006).

وكان هنية قد صرح أنه سوف يتنحى عن منصب رئاسة الوزراء، وقال في عبارات قل أن يوجد لها نظير في عالمنا العربي أن "كرسي السلطة ليس أهم من الشعب الفلسطيني" الذي يتعرض لأبشع أنواع الحصار والقتل والتشريد، لتكون حماس مثلاً وقدوة في زهدها في السلطة كما كانت مثلاً في اعتلائها لها، ليثبت الشعب الفلسطيني مرة ثانية أنه من يعلم العرب ومن يثبتهم ومن يقدم لهم بارقة الأمل في ذلك الليل البهيم.

لقد مارست حركة حماس أقصى درجات ضبط النفس يمكن أن يتحلى بها بشر، فقد صرح هنية اليوم السبت 11 نوفمبر 2006 عندما سئل عن المبادرة العربية فقال: "لا مشكلة مع العرب بشأنها، لكن المشكلة مع «إسرائيل» التي لا تريد دولة فلسطينية في حدود أراضي الـ67"، ولم يخرج عن أسلوبه الدبلوماسي الرصين ولم ينبس ببنت شفة على الصمت العربي المشين والذي لم يخرج منه حتى الشجب الرسمي الذي طالما اعتدناه وألفناه.

لقد استمرت المأساة الفلسطينية لعدة عقود دون حراك، واستمرت المجازر الصهيونية التي أكلت الأخضر واليابس في فلسطين، وقتلت النساء والأطفال والقادة، كما استمر الصمت العربي كما هو، وجاء كثيرون ليتاجرون بدماء وأشلاء الشعب الفلسطيني الأعزل الذي لا يجد ركنًا شديدًا يأوي إليه أو داعمًا ثابتًا يدافع عنه كما للكيان الصهيوني، كما لا يجد محكّمًا أو وسيطًا نزيهًا أو حتى منظمة دولية تقدم شيئًا أو تؤخر أمام المذابح اليومية للنساء والأطفال.

وقد تحسس الكثير من المراقبين وجود أصابع إيرانية فارسية شيعية بدأت محاولة اختراق الصف الفلسطيني طمعًا في وجود قدم لها في تلك البقعة التي تعد من أكثر النقاط حساسية وعاطفية للشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، لوجود أولى القبلتين بها ولوجود صراع مع أشد الناس عداوة للذين آمنوا، مع وجود اختراق لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والتي طال الكثير من قادتها المد الصفوي الإيراني كما تشير العديد من التقارير الإعلامية.

والتشيع له شقان: شق ديني وآخر سياسي؛ ففي ظل غياب التركيز على البعد العقدي للقيادات الفلسطينية الناشئة والاهتمام بالاشتغال بالسياسة والمقاومة وعدم التركيز على الثوابت والمسلمات العقدية الإسلامية، فإن كثيرًا من المشتغلين بالمقاومة في فلسطين ربما ينبهرون بتجربة "حزب الله" أو النووي وصناعة السلاح والتجربة السياسية الإيرانية ونفوذها في المنطقة الذي بدأ يتصاعد، ومن ثم التبرير بأن وضعهم مثل الغريق الذي يتعلق بخشبة في عرض بحر متلاطم الأمواج.

إن استمرار غياب البعد العربي الفعال عن قضية فلسطين ـ مثلما هو غائب عن قضية العراق وما يحدث فيها من تصفية للسنة ـ فإن أمتنا العربية والإسلامية ستكون في خطر هو الأكبر في تاريخها منذ غزو التتار، فاختطاف فلسطين بصفة خاصة سيكون بمثابة السيطرة على أفئدة المسلمين، بعد السيطرة على الذراع اليمنى للوطن العربي المتمثلة في العراق في المشرق، وسوف تنقسم الشعوب العربية ذاتها حول الاستنجاد بنجاد وأشباهه، بعد أن كانت قد اجتمعت في السابق على لفظ الكيان الصهيوني.

ويجب على العرب أن يعلموا أن الولايات المتحدة لن تحرس عروش ولن تمول جيوش، ولكنها لها عينان فقط في المنطقة: واحدة على النفط والأخرى على طفلها غير الشرعي "إسرائيل"،  ومذهب "فرق تسد" يسير على أكمل وجه, وعناصر اللعبة تقتضي تقوية النفوذ الإيراني في المنطقة من أجل معادلة القوتين وتجميد الوضع والتحريش ما بين العنصرين، ليلاشي بعضهم بعضًا، ولا تصبح هناك "كلمة عليا" حاكمة أو "دولة قائدة"، أو نفوذ مسموع.

وعلى الجانب الآخر فإن القضاء على ثقافة المقاومة في المنطقة سيكون له تداعيات خطيرة على العرب، فإذا ما تكسرت الأسنان واقتلعت الأظافر فسوف يستسلم الحمل إلى سكين الجزار، وسوف تشكل دولة شيعية في جنوب العراق خطرًا مباشرًا على السعودية، كما ستخرج أمريكا من أرشيفها خطط تقسيم مصر وإعطاء دولة للأقباط فيها، ولن يكون حال البقية الباقية من الدول العربية أفضل حالاً من الأخرى.

يجب على العرب انتشال فلسطين سياسيًا ومعنويًا قبل أن تصل إلى نقطة الكسر، وقبل أن تتقاذفها الأنواء الشرقية والغربية، فالوضع بالنسبة لحركة حماس أصبح مثل التاجر المديون الذي لا تستطيع بضاعته أن تفي بدينه، ولا يوجد أمامه من يقرضه لينقذه من الحبس أو الفضيحة، ويلاحقه الديّانة والزبانية من كل حدب وصوب، وخسائره تزداد كل يوم، ولا يوجد أمامه سوى تاجر مرابٍ يلوح له من بعيد بسداد كل ديونه وإقالته من عثراته، ولكن مقابل ربا فاحش وتغيير في سياساته التجارية وأخلاق البيع والشراء التي تربى عليها.

إن الشرق والغرب قد رمى حماس عن قوس واحدة، واشتركوا معًا في وأد تجربتها للحكم في الأراضي الفلسطينية.. فلا تتركوا حماس فريسة لـ "فارس" جديد.. أو لمرابٍ من بلاد فارس.

 



مقالات ذات صلة