حرب اليمن.. وضع العنوان قبل فوات الأوان
ربيع الحافظ
إذا ثبتت أنباء اشتراك قوات مغربية وأردنية إلى جانب القوات السعودية في الحرب ضد المتمردين الحوثيين في اليمن، فتلك خطوة مهمة على طريق الألف خطوة في التعامل الإقليمي لإخماد فتائل الحروب الإقليمية. هذا الحدث ينبغي أن يُشهر، وتشتق منه عناوين تنسجم مع طبيعة الحرب عوضاً أن يحاط بالسرية.
الجندي السعودي والجندي اليمني يذهبان إلى معركة لا عنوان لها، وبلا توجيه سياسي وآيديولوجي، وبلا آفاق يتم تطوير أهداف المعركة في اتجاهها ويرفع سقف المطالب حال تحقيق نصر سهل، بل هي معركة أفرغت من محتواها الاستراتيجي مذ أعلنت السعودية أن غاية الأمر هو إخراج المتسللين الحوثيين من أراضيها، ودفعهم مسافة عشرة كيلومترات داخل الأراضي اليمنية، لا أكثر ولا أقل.
هذه هي الرسالة التي يذهب بها الجندي السعودي إلى الخطوط الأمامية، وهذه هي عقيدته العسكرية. أما العقيدة العسكرية للجندي اليمني فأكثر التباساً، فالخصم المتمرد على وحدة الدولة ضمن صراع إقليمي، والذي يراد من الجندي مقاتلته، هو نفسه الذي دعمه النظام السياسي بالأمس في إطار صراع قوى محلي ضد الإسلاميين.
الرسالة التي يحملها المقاتل الحوثي إلى جبهة القتال أكثر وضوحاً من خصميه السعودي واليمني، وعقيدته العسكرية أسهل على المدارك، وهي ببساطة: إخراج الوهابيين من الحجاز والإحساء، وإعادتهم إلى مهدهم في نجد، وإيجاد إسلامَين: إسلام غني يتمتع بعوائد النفط في المنطقة الشرقية، وعوائد الحج في الحجاز، وإسلام فقير في وسط الجزيرة العربية، حيث لا مال ولا ماء.
بذلك تكون إيران قد أنجزت أمرين هامين على طريق بسط نفوذها في العالمين العربي والإسلامي،
الأول: أنها تكون قد انتهت من تفكيك آخر الدول في المشرق العربي ( العراق تحت سيطرتها ـ سوريا يحكمها النصيريون وفي عداد الساقطة أمنياً وفكرياً قبل العراق ـ لبنان إمارة ولاية فقيه في انتظار الإعلان ـ اليمن سائر نحو التقسيم ـ دويلات حاشية الخليج تعلن ولاءها بشكل تلقائي للدولة الإقليمية التي تحسم المعركة الإقليمية ـ مملكة الأردن ليس له ثقل إقليمي).
الأمر الثاني: أنها تكون قد جففت المنابع المالية التي تغذي المشاريع الدعوية الإسلامية الخيرية في إفريقيا، وجنوب شرق آسيا، وآسيا الوسطى، وأمريكا اللاتينية والتي تقف عائقاً في وجه المشاريع الإيرانية. في المقابل تفيض أموال النفط العربي على المشاريع الإيرانية في هذه القارات، كمليارات الدولارات من مبيعات النفط العراقي التي تختفي وتذهب إلى مصارف لا يعرف كنهها أحد. بعبارة أخرى: إيقاف الدورة الدموية في الكيان السني.
وهذا هو الهدف.
المشهد قاتم لكنه ليس تشاؤمياً. تفكيك الدولة السعودية إلى مكوناتها الرئيسية أسهل مما يبدو للإنسان العادي ـ والإنسان غير العادي كذلك ـ ولهذه المكونات رؤى آيديولوجية جاهزة ليست إيران بمنأىً عنها، بل هي قد قطعت معها أشواطاً على مسار "التوأمة الآيديولوجية"، أي إدخال مشروعين متناقضين تحت عنوان واحد، وهذه هي الوسيلة.
العنوان التوأم هنا هو "آل البيت"، الذي هو لافتة لحب آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأزواجه أصحابه عند أهل السنة، يقابلها لافتة "آل البيت" عند الشيعة، التي هي مشروع يعتبر نزول الرسالة الخاتمة مسلسلاً خيانياً بدءاً من جبريل عليه السلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بدلاً نن علي رضي الله عنه، مروراً بأمهات المؤمنين، والصحابة، وانتهاءً بتعطيل مصادر التشريع. هذا العنوان يغرر به البسطاء من الزهاد والمتصوفة من أهل السنة ـ ومعهم غلاة التصوف ـ فيكونوا حطباً للمحرقة الكبيرة.
ليس الخطأ رفع الصوت بحقائق تضيق لها الصدور، وإنما السكوت عما يحدّثُ الخصم به نفسه ويعمل على تحقيقه. ومما تضيق له الصدور ويفكر به الخصم هو أن سيناريو التفكك هذا لا يحتاج إلى شرارة حرب، وإنما إلى شرارة سخط شعبي تنجم عن تصرف لا مسؤول لمسؤول رسمي، لتتولى خلايا الآيديولوجية المتوائمة ركوب موجة السخط الشعبي وتحويلها إلى سخط سياسي، ثم يتدخل "العالم الحر" و "المجتمع الدولي" لطرح صيغ حلول وسطية فتصاب سيادة الدولة بجرح غائر.
حرب جنوب الجزيرة العربية التي لا يشكل الحوثيون اليمنيون سوى جزءاً يسيراً من مقاتليها، والتي تغدق فيها الأموال على ألوف المرتزقة من الشباب الصوماليين والباكستانيين، الذين يُنقلون إلى إيران لتلقي التدريب على السلاح، وقبلها في دمشق، التي هي محطة "ترانزيت" يعرض فيها الجنس (المتعة) بالتعاون مع الجار الحليف لكسب الشباب غرائزياً، هذه الحرب حرب إقليمية بأجلى صورة، وهي حرب تدار بالمال والجنس ولا يخمدها المدفع وحده.
كان موسم الحج لهذا العام غارة استطلاعية أخرى ـ بعد غارة البقيع ـ أضافت بها إيران معلومات ميدانية إلى قاعدة معلوماتها، وقاست مدى جدية الدولة السعودية في التصدي الحقيقي لشغب جماهيري واسع النطاق يمكن إعادة إنتاجه في مكان وزمان مختلفين وبذرائع مختلفة، حينما وقفت قوى الأمن السعودية موقف المتفرج أمام "بروفا" إساءة الأدب التي أداها الحجاج الإيرانيون في المشاعر المقدسة، وهتافاتهم الطائفية وخطبهم السياسية التي استفزت الحجيج وأفسدت أجواء المناسك، ووردت أخبار غير مؤكدة من أن بعض الوعاظ في المشاعر المقدسة كانوا يقللون من ذكر الصحابة في أدعيتهم بسبب الأجواء المشحونة بالطائفية.
ثمة حقيقة، وهي أنه ليست الحروب ما يخشاه العرب من إيران، فالسجل القتالي للفرس منذ ذي قار لا يدل على أمة تبلي بلاءً حسناً في ساحات الحروب، أو أمة تحصل على ما تريد بطرق المواجهة المباشرة، وإنما هو سجل انكسارات عسكرية، لكن سجلها الكيدي هو سجل النجاحات، وقد كان إشعال الفرس للحرب مع العراق خطأ استراتيجياً فادحاً، أدركه حكماؤهم بعد ثمانية أعوام، ليحصلوا على بغيتهم في العراق بعد عقد ونصف من دون إراقة قطرة دم.
بات العرب اليوم يتذكرون كيف وقف العراق في حرب الأعوام الثمانية سداً تضاءلت أمامه إيران، وتضاءل أمامه جنديها، فانهار جيشها، وأعلن الخميني تجرعه كأس السم، وعرفت إيران حجمها الطبيعي، وتعلمت الأدب الإقليمي، وتصرفت على أساس منه عندما هنأ هاشمي رافسنجاني في العام التالي خصمه صدام حسين بعيد ثورة البعث وجراحات إيران لمّا تندمل بعد.
شيء لا يتذكره العرب، وهو أن تماسك العراق وانتصاره على إيران لم يتأتَ بالطريقة التي تدار بها حرب جنوب الجزيرة العربية، فقد أدار النظام السياسي في العراق ـ بصرف النظر عن آيديولوجيته ـ الحرب بحِرَفية وشراسة ضد الخصم الذي سيحرق بغداد بعد عقد ونصف بالتحالف مع الأمريكان، ولم يكن العراقيين أنفسهم في مأمن مستطار شرر تلك الشراسة.
لم تكن تلك الحرب صامتة، بل عبرت عن نفسها وهويتها بصوت جهوري، وكان العراق على مدى ثمانية أعوام خلية نحل لم تعرف الهدوء، وغدا كل عراقي دبوراً يلسع المشروع الطائفي الإيراني من موقعه في المجتمع وحسب تخصصه، ولم يضع الجندي لأمته، والكاتب قلمه، والفنان قيثارته، والرسام ريشته، إلا عند سماع الخميني وهو يعلن للعالم قبوله بالانكسار.
مع ذلك، ومما لا يذكره العرب اليوم، ويهربون منه هروب السليم من الجذام أمام العلو الإيراني اليوم، هو وقوف العرب وراء العراق في الحرب، طوعاً أو كرها، إن لم يكن بالأنفس فبالمال والسلاح والإعلام والتسهيلات "اللوجستية"، ما جعلها حرباً إقليمية، وجعل نصر العراق نصراً عربياً إقليمياً.
بعبارة أخرى: الحرب أكثر بكثير من إطلاقة مدفع، وركوب دبابة، والتحليق بطائرة فوق السحاب، وقد قيل: الحرب تحسم في الإعلام والأذهان قبل النزول إلى الميدان، وما كل نظام سياسي يقدر على استيفاء متطلبات المعركة وقيادتها.
بعد تدمير العراق أصبحت المنطقة الممتدة من شواطئ بحر العرب جنوباً، إلى حدود تركيا شمالاً، والخليج العربي شرقاً، وشواطئ المتوسط غرباً، والبالغة مساحتها قرابة أربعة ملايين كيلومتر مربع، أصبحت منطقة من دون جيش من الناحية العملية، وأصبحت أكثر نقاطها رخاوة هي منطقة الصدع الآيديولوجي الممتد برياً بطول 1300كم في مواجهة إيران، حيث ألغي الجيش الذي كان يقف على امتداده.
ما هو أعظم من إلغاء الجيش، هو محو الشخصية العربية العراقية بموروثها الأيديولوجي التراكمي إزاء الآيديولوجية القومية الفارسية، منذ إحراق الفرس لبابل، وتحرير أسرى السبي اليهودي وإعادتهم إلى "أورشليم" [حادثة تسجلها إسرائيل اليوم لإيران]، مروراً بسقوط بغداد في 656هـ، ثم إغراقها بالدم والطائفية في 913هـ/ 1508م ثم 928هـ/ 1522م ثم 938هـ 1532م ثم 1038هـ/ 1629م، ثم حصار الموصل في 1743م وهي العناصر التي تكونت منها العقيدة العسكرية للجيش العراقي، التي هي ليست عقيدة مطالعات ثقافية وشهادات أكاديمية تختص بها فئة من الشعب دون أخرى، أو قناعات موسمية تعلو ثم تخفو، وإنما عقيدة ميدانية صنعتها أحداث التاريخ، وهي عقيدة العسس والخفير الذي لا يداعب النعس جفنيه.
هذه الشخصية تستبدل اليوم بالشخصية التافهة والمائعة التي نراها منذ سقوط بغداد، حيث لا انتماء، ولا هم، ولا طموح، ولا أنفة، فينزاح من أمام فارس ولأول مرة التكوين الآيديولوجي الاجتماعي التراكمي الذي وقف حاجزاً أمام غاراتها على السهول العربية، ويبيت العرب ليلهم من دون عسس.
قد يخفق الحوثيون في مهمتهم الراهنة، لكن أهداف الإجهاز على المشرق العربي وآليات تمزيقه لن تتغير، وهي ملفات لا يمكن التوقف عن الحديث عنها مع إعلان وقف إطلاق النار.
لقد كانت أنظمة الحكم في المشرق العربي تجلس على غصن في أعلى شجرة باسقة يجتمع عند جذعها ذئاب جائعة، اختارت هذه الأنظمة استعارة منشار كبير وقطع الغصن الذي تجلس عليه، فهوت حيث الذئاب التي ما طفقت تنهش لحمها.
إعادة عقارب الساعة إلى الوراء غدا أمراً مستحيلاً، ولكن ليس هذا وقت الحسرات والندب، وإنما وقت النظر إلى أمام بثقة. فما من ورقة في هذا الصراع الإقليمي هي في صالح إيران، لا المعتقد الديني، ولا الآيديولوجية، ولا البناء الاجتماعي، ولا التاريخ، ولا العدد، ولا العدة، شيء واحد في صالحها هو حسن التدبير.
تعويض معادلة الشجرة الباسقة والذئاب الجائعة بصيغة جديدة هي قضية حياة وفناء بالنسبة لمجتمعات المنطقة، هذه الصيغة لا يمكن الجزم بشكلها النهائي، ولكن لابد لهذه الحرب ابتداءً من الخروج من إطار التراشقات الحدودية الذي وضعت فيه، ولابد أن يخفف الطرف الأكبر فيها ـ السعودية ـ من حيائها السياسي ولا تكون كالعذراء في خدرها، وتتصرف بطريقة تتناسب مع حجمها، فتجاهر بتعاونها مع اليمن، وتعلن بثقة أن لها مصالح استراتيجية خارج حدودها السياسية، وأنها بمثابة خطوط حمراء.
من حق السعودية واليمن تشكيل فرق عسكرية مشتركة، والاشتراك بالمطارات والموانئ، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة معلنة وليست سرية، ومن حق سلاح الجو اليمني استدعاء سلاح الجو السعودي لمعاجلة مهمة صعبة، ومن خياراتهما أن تربض طائرات سعودية في قواعد يمينية بشكل دائم، أو تعبر قوات يمنية الحدود لتعقب المتمردين.
بعبارة واضحة: إعادة تعريف لمعنى السيادة الوطنية، فلا يكون أي من هذه الأفعال انتهاكاً لحرمة الوطن ومفاهيم الدولة القومية التي اقتبست من أوربا في القرن العشرين، والتي أهملتها أوربا نفسها.
وعلى المستوى العربي، فلا أقل من مجلس استراتيجي، وقوات محمولة للتعامل مع الدمامل الطائفية، فالكيّ نال اليمن والسعودية هذه المرة، والمحطة القادمة هي شمال إفريقيا، حيث القطاف اليانعة لثلاثة عقود من غراس التشييع في تونس والجزائر، الذي زرعته وسقته البعثات الديبلوماسية الإيرانية والمدرسون الشيعة العراقيون الذين كانت تبتعثهم الحكومة العراقية لغرض التدريس، وحيث العوز الاجتماعي، وحيث تجارة شراء ذمم السياسيين والمثقفين، وحيث تغض الحكومات الطرف عن التغلغل الطائفي ليكون حليفاً ضد الإسلاميين، وحيث الدور الذي ينتظر موريتانيا الشبيه بدور إريتريا كرأس جسر إيراني متقدم.
قد يبدأ التكامل بين الدول سياسياً، وقد يبدأ اقتصادياً، أو ثقافياً، وفي حالات يبدأ عسكرياً، كحال الدول التي تعرض نفسها على عضوية حلف الناتو، وليس بينها وبين أمريكا غير المظلة الأمنية.
هذه الحرب لابد من أقلمتها على الأرض، وأقلمتها في الأذهان، وأقلمة العنوان قبل فوات الأوان.
المصدر: صحيفة المصريون