ما وراء صفقة التبادل الشيعية الإسرائيلية
حسن الرشيدي
يتعجب المرء ويحتار عندما يرى الجماهير والشعوب وهم يهتفون بحياة الطغاة والذين يبيعون قضيتهم بأبخس الأثمان ويزيفون الحقائق على الناس، فيجعلون الهزيمة نصرًا والتراجع تقدمًا وتفوقًا، ويبيعون الكلام ويدبجون الخطب والشعارات والشعوب غافلة لاهية عن مؤامراتهم وكيدهم، ولن تستيقظ إلا وقد اقتلع أصحاب الحق الغافلون ليس من بيوتهم فقط ولكن أيضًا من غرف نومهم.
لقد انسابت تلك الخواطر وأنا أرى بطل العرب والمسلمين سيد المقاومة... هكذا يصفونه وهو يحرر الأسرى اللبنانيين من سجون إسرائيل، وقد تعلق بعض المسلمين به وظنوا أنه هو طريق خلاصهم من الحكومات المستبدة، ومن تجبر المشروع الأمريكي اليهودي في المنطقة.
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، هذه هي السنة الربانية لحالة الجماهير حين تطيع وتصفق وتنقاد خلف كل ناعق طاغ، ولكن قبلها هناك الطاغية والمستبد، فهو يفعل الأمور التي تحول بين الناس والحقيقية ويفسر سيد في ظلاله حالة هؤلاء الطغاة فيقول: واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه، فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك ويلين قيادهم فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين. بينما يذكر ابن كثير في تفسيره عن هؤلاء المتلاعبين بقوله: أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا لها.
تلك حالة الطغاة... أما حالة الجماهير التي تصدق هذا المتلاعب بعقلها فيقول عنها سيد: ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق ولا يمسكون بحبل الله ولا يزنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ونقل القرطبي عن ابن الأعرابي قوله: فاستجهل قومه فأطاعوه لخفة أحلامهم وقلة عقولهم.
ويصف أمير الشعراء شوقي تلك الحالة فيقول:
ياله من ببغاء عقله في أذنيه
أثر البهتان فيه وانطلى الزور عليه
ملأ الجو صراخًا بحياة قاتليه
ولكن بعيدًا عن حالة الجماهير التي تحتاج إلى مجلدات لتفسيرها وبيان كيفية تجاوزها، يبقى السؤال: لماذا بادرت إسرائيل بإطلاق سراح الأسرى لديها؟ وما مغزى التوقيت ودلالته؟
تبدو الصورة داخل إسرائيل في بعض الأوساط الصحفية أن هناك هزيمة قد لحقت بإسرائيل، فهل يمكن تفسير عملية التبادل وكأنها تنفيس أو تجاوز أو صرف للأنظار عن أزمة داخلية إسرائيلية تتعلق بوضع أولمرت كرئيس للوزراء، ومطالبة أوساط سياسية إسرائيلية له بالاستقالة على خلفية تورطه في عمليات للرشوة وأنشطة غير مشروعة على حد وصف جهات التحقيق الإسرائيلية؟
أم أن الأمر يتجاوز الحالة الداخلية الإسرائيلية لتكون عملية التبادل جزءًا من خريطة طريق لصفقة كبرى تجري فصولها المتتالية بين القطب الأمريكي وحليفه الإسرائيلي والقطب الإيراني وتوابعه من أمثال حزب الله وسوريا، وأن خريطة الطريق تلك تحوي جزءًا منها مفاوضات سورية إسرائيلية وتحول في سياسة فرنسا ساركوزي تجاه الأسد، وتخلي إيران عن جيش المهدي وترك سوريا عملاءها في لبنان ينجزون اتفاق الدوحة، وغيرها من الأمور التي تجري تحت الطاولة وبعيدًا عن وسائل الإعلام ثمة محادثات سرية تجري بين مسئولين إيرانيين وأمريكيين في أنقرة.
ولكن ثمة من يقول: إن تعجل إسرائيل في إتمام هذه الصفقة لكي تتفرغ إسرائيل للتحضير للضربة التي تريد شنها على إيران، فبإقفال ملف الأسرى الإسرائيليين وجثثهم لدى حزب الله تبقى إسرائيل حرة في توجيه ضربتها لإيران دون أن تكون تحت ضغط حزب الله الذي من المتوقع أن يتولى الرد على إسرائيل بتوجيه صواريخه في العمق الإسرائيلي باعتباره يد إيران الطولى.
بالنسبة لحزب الله تعني صفقة التبادل له الكثير:
أولاً: الظهور بمظهر المنتصر مرة أخرى أمام العرب والمسلمين؛ حيث تجتهد آلته الإعلامية الضخمة من خلال قناة فضائية يملكها وأخريات يمولها وبعضها الذي اخترقها تحاول تسويق عملية التبادل كانتصار ساحق للأمة التي يقودها نصر الله، فقد صرح نبيل قاووق قائد حزب الله في الجنوب أن توقيع أولمرت وبيرس على الصفقة معناه المصادقة الرسمية على هزيمة عدوان تموز أمام إرادة المقاومة، يقصد حزب الله، هذا المظهر يساعد حزب الله على التغلغل بالسياسات الشيعية داخل المنطقة بكسبها المتزايد جمهورًا متعاطفًا مما يسهل تمدد المشروع الإيراني في المنطقة والذي يعتبر حزب الله أداة مهمة من بين أدواته الكثيرة.
ثانيًا: نجاح صفقة التبادل معناه تحسين وضع الحزب داخليًا بعد اجتياح بيروت واتفاق الدوحة وانتخاب سليمان رئيسًا وتشكيل الحكومة برئاسة السنيورة؛ حيث بدا أن الحزب قد تآكلت شعبيته حتى داخل الوسط الشيعي وسط انتصارات سياسية نجح فريق الموالاة بزعامة الحريري في انتزاعها في خضم بلبلة داخل الحزب حول الموقف من تيار المستقبل، فبينما يسعى نصر الله جاهدًا إلى إعادة مد جسور التواصل مع سعد الحريري وفق المعادلة التي كانت قبل اغتيال الحريري والتي يسميها نصر الله الإعمار مقابل المقاومة، أي أن الحريري يلتزم بجذب الأموال اللازمة للتغطية على أعمال الحزب ومغامراته، بينما يترك للحزب القوة الفاعلة على الأرض ويرفض الحريري تلك المعادلة والتي يعتبرها سقطت باغتيال والده ويأبى أن تعود مرة أخرى على مذبح بيروت واجتياحها من قبل الميليشيات الشيعية، حيث إن الرصيد الشعبي لدى الحريري داخل أهل السنة في تراجع مستمر، ولكن في المقابل لا يجد الشيعة بديلاً مقبولاً وجماهيريًا أفضل من الحريري وجماعته، ويظن حزب الله أن صفقة التبادل سوف تكون رسالة إلى الحريري بأن تمنعه حتى هذه اللحظة عن لقاء نصر الله لا يخدم قضيته؛ حيث إن موقفه الإستراتيجي يتآكل بصفة مستمرة وأن لا مفر من الإذعان في النهاية إلى حزب الله، ولكن الحريري لا يبدو أنه حتى هذه اللحظة في معرض استسلام قد يزيحه نهائيًا عن زعامة الطائفة التي تغلي في داخلها من تصرفات حزب الله.
ثالثًا: أن هذه الصفقة تعزز قوة حزب الله وبالتالي راعيه الأساسي وهو إيران وسط هواجس إيرانية عن نية سورية في التخلي عن الحلف الإيراني رغبة في تجنب ضربة إسرائيلية أمريكية محتملة، فإستراتيجية الحزب في الفترة القادمة أصبحت تبنى على عدم الاعتماد على الحليف السوري، بل وضع آلية للتعامل مع أدواته في لبنان إذا تطورت الأمور إلى صدام مرتقب معه... ومن هنا كانت محاولة الحزب تهدئة الأمور مع إسرائيل حتى لا يقع الحزب بين طرفي كماشة سورية إسرائيلية.