إبان “تعفيش” بيوتات مخيم اليرموك كتب لي صديق عن مصرع فتى اسمه محمود البكر، على أيدي “الجيش العربي السوري”، أي جيش الممانعة والمقاومة، أمام أعين مقاتلين في صفوف بعض الفصائل الفلسطينية الموالية للنظام، لاعتراضه على تعفيشهم منزل أهله، فقتل بالرصاص بدم بارد، وسقط على ركام المنزل في شارع العروبة.
وكتب لي آخر عن حادثة أخرى لفلسطيني، فقد ابنه، وُجد واقفاً أمام ركام منزله، الذي هدمته براميل النظام وصواريخه، ليوصي ابنه الآخر بالصمود، ويعطيه درساً في الوطنية، باعتبار أن المؤامرة سقطت!
أما الفنان الفلسطيني التشكيلي، ورسام الكاريكاتير هاني عباس (من سكان المخيم سابقا)، فكتب على صفحته يقول: “أكثر ما يحزّ بقلبي ويحزنني هني الناس الطيبة، ولاد مخيمنا النازحين بالشام و غير الشام… يلي باعهم النظام والفصائل أمل كبير إنه يرجعوا عالمخيم… وللأسف، ضحكوا عليهم ودمروا المخيم و حرموا الناس من الرجعة… قبل فترة والمخيم كان عم ينقصف بشكل هستيري من قبل النظام وروسيا… كانوا يروجوا للناس هاشتاغ: ضبّوا الشناتي وراجعين عمخيمنا… في شب وقف اليوم عسطح بيته المهدم بالمخيم وصار يبكي… في شب تاني من لواء القدس العفيشة قلعوه من بيته… في شيخ شبيح بعت رسالة لرأس النظام السافل ولفت نظره إنو في حالات تعفيش بالمخيم… عأساس رأس النظام مش هو التعفيش الأول… الفصائل الفلسطينية لا حس ولا خبر ولا مكتوب… هي مشغولة الآن بعقد جلسات عصف فكري حول موضوع حق العودة”.
هكذا فإن المأساة السورية، إضافة إلى أهوالها، التي تأسّست على توحّش النظام، وساديته، تجاه شعبه، أو من يفترض أنهم شعبه، وإنكار ضحاياها، تكشّفت عن أناس يتعشّقون الاستبداد، أي يتذللون له، بل ويمجّدونه. يكشف هذا عن نفسية دونية، تكره حتى ذاتها، أو تنفيها، وهي نفسية تتّسم بالخسّة والوضاعة، لا سيما مع انعدام إحساسها بالآخرين وبالقيم الاخلاقية، لسبب بسيط مفاده أنها تفتقد الإحساس بالكرامة وبإنسانيتها هي قبل غيرها.
إنها “المازوشية” ذاتها، قرينة السادية النابعة من النظام، إذ ثمة ضحايا يتلذذون بألم ضحايا آخرين ويتغنّون به، لا ينفونه فقط ، علماً أنه جزء من ألمهم! هذا النمط من المازوشيين لا يستطيع العيش بدون المستبد، فهو بالنسبة إليهم بمثابة الأب والقائد والملهم، والماضي والحاضر، والرمز والمعنى.
هكذا فإن المأساة السورية، إضافة إلى أهوالها، التي تأسّست على توحّش النظام، وساديته، تجاه شعبه، أو من يفترض أنهم شعبه، وإنكار ضحاياها، تكشّفت عن أناس يتعشّقون الاستبداد، أي يتذللون له، بل ويمجّدونه. يكشف هذا عن نفسية دونية، تكره حتى ذاتها، أو تنفيها، وهي نفسية تتّسم بالخسّة والوضاعة، لا سيما مع انعدام إحساسها بالآخرين وبالقيم الاخلاقية، لسبب بسيط مفاده أنها تفتقد الإحساس بالكرامة وبإنسانيتها هي قبل غيرها.
هؤلاء يشعرون بالغبطة في التعايش مع شعارات من مثل: “سورية الأسد إلى الأبد”، أو “سورية الأسد أو لا أحد”، أو “سوريا الأسد أو نحرق البلد”، هم فقط من يستطيع، أو يستطيب، العيش مع نظام قام على الاستبداد والفساد، نظام يقتل شعبه ويقتل التوق في قلبه إلى الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية بالبراميل المتفجرة، وبالصواريخ الارتجاجية والفراغية الروسية، وبالميليشيات الداعشية الإيرانية، من مثل “فاطميون” و”زينبيون” و”عصائب الحق” و”كتائب أبو الفضل العباس” … هذا النوع من الطحالب والرخويات والطفيليات هو فقط من يستطيع العيش مع هذا النظام الغارق في السادية، من دون أن يرى المأساة أو الكارثة السورية، التي تتضمن تشريد أكثر من نصف السوريين ومصرع مئات الآلاف، وتدمير عمران مدن.
هؤلاء لم يرقصوا على دمائنا فقط، ولم يصفقوا لتشريدنا، ويهتفوا لقاتلنا، ويمجّدوا طاغيتنا وحسب، ولم يكتفوا بسرقة عفشنا (آثاث بيوتنا)، كما حدث في مخيم اليرموك، إذ إنهم قبل أن يسرقوا بيوتنا ومدارسنا ورياض اطفالنا ومستوصفاتنا وبقالياتنا ومكاتبنا، قبل كل ذلك سرقوا حياتنا، وأنكروا علينا حق الخروج من الاستبداد، وحق التوق إلى الحرية. إضافة إلى كل ذلك سرقوا أحلامنا ودفاتر اطفالنا وصور ذاكرتنا والشوارع التي كبرنا بها والحيطان التي كتبنا عليها شعاراتنا وآمالنا… والمشكلة أن كل ذلك باسم المقاومة والممانعة، إنها الخساسة والوضاعة والمازوشية، والتجسيد الفعلي لتفاهة الشر (بحسب تعبير حنا آرندت) الذي تعممه الفاشية على محازبيها والمستعبدين لها…
في غضون ذلك، لا أظن أن توماس هوبز حينما تحدث عن “التوحش” وعن الطبيعة البشرية، التي تقوم على حرب الكل ضد الكل، كان يمكن أن يتصور ما وصلت إليه، حال التوحش في الصراع السوري، علماً أن النظام هو الذي يقوم بهذه الحرب، وهو المسؤول عنها، وعن بشاعتها ووحشيتها.
ثمة ملاحظات هنا، الأولى، أن مخيم اليرموك ليس الأول من نوعه الذي يقوم النظام السوري بمحوه، بطريقة مباشرة أو عبر وكلاء أو عبر تسهيلات منه، إذ سبقه مخيمي تل الزعتر والضبية في بيروت (1976)، على يد “الكتائب”، ثم حدث ذلك في حرب الثلاثة أعوام ضد مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا في بيروت (1985-1988)، وهي حرب خاضتها حركة أمل، تحت أنظار حزب الله، بالوكالة عن النظام السوري. ثم تم تدمير مخيم نهر البارد (2007) بعد افتعال ظاهرة “فتح الإسلام”، لزعيمها شاكر العبسي الذي اختفت آثاره بجهود النظام، وفي الصراع السوري تم شطب مخيمات درعا وحندرات واليرموك (عاصمة مخيمات اللاجئين)، واللافت أن ذلك حصل على يد نظام المقاومة والممانعة والمزايدة، نظام فرع فلسطين والضابطة الفدائية، الحليف للنظام الإيراني الممانع، الذي تكفل بطرد اللاجئين الفلسطينيين من العراق، إثر الغزو الأميركي (2003).
ثاني تلك الملاحظات تفتح على سؤالين مفادهما: هل خدم أحد ما "إسرائيل" كما خدمها هذا النظام بمحوه المخيمات الشاهد على قضية اللاجئين وتالياً بتصفية حق العودة؟ أو هل خدم أحد ما "إسرائيل" بتصديعه البنيان المجتمعي والدولتي في المشرق العربي، في العراق وسوريا ولبنان، كما خدمها النظامان الإيراني والروسي؟
ثالث تلك الملاحظات، تفيد بأنه تم تشريد الفلسطينيين من مخيم اليرموك، وتم تدميره، بيد أن “داعش” خرج بسلام! والفكرة هنا أن تنظيم “داعش” كان مجرد ذريعة، فمن يعرف كيف دخلت “داعش”، والمخيم محاصر بشكل مطبق منذ خمسة أعوام، يعرف كيف خرجت داعش بسلام… فهذا ما حصل في مناطق أخرى في الجغرافيا السورية، في حُمص وحلب والزبداني ودوما والغوطة… والهدف هو تغيير الخرائط العمرانية والديموغرافية وإعادة هندسة البلد والمجتمع بالطريقة الفاشية.
رابع تلك الملاحظات، وهي عودة إلى هؤلاء المازوشيين، محابي الاستبداد، أن تذكروا وأنتم تبررون للنظام ما فعله بشعبه، أو وأنتم تبررون له محو مخيم اليرموك، تذكروا أنكم في ذلك تبررون لـ"إسرائيل" أن تفعل أكثر.
المصدر : على الدرج
16/9/1439
1/6/2018