الفقيد جمال فيصل عبد الحفيظ الماضي ذكريات ومآسي
بينما الذهن شارد ومشتت في محاولة للملمة الجراح وتجميع الأفكار والجرأة على نسيان المآسي ، إلا أن هول الفاجعة ومفارقة الأهل والأحباب تحول دون ذلك ، وملامح الذكريات تلاحقنا وصور ومواقف الضحايا الأبرياء مرسومة في مخيلتنا .
وفي بعض الأوقات نمر بصراع مع النفس بمن نبدأ وبقصة من نسطر هذا التاريخ المؤلم فالكل عزيز والجميع قد تعرض للظلم ، وتلك الكلمات التي نكتبها هي أقل ما نواسي به أنفسنا ونعزي بها ذوي الشهداء بإذنه تعالى عسى أن تصبرهم وتعيننا على الاستفادة من كل جراحاتنا .
من أولئك أخ لا تقل معزته عنا من غير مبالغة ، حيث عرفته عن قرب بحسن خلقه وهدوءه وتواضعه ، ولم أبالغ إذا وصفنا حال وصول خبر مصرعه بالفاجعة ، ذلك الفقيد جمال فيصل عبد الحفيظ الماضي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وتقبله في عداد الشهداء .
الفقيد جمال ولد في منطقة بغداد الجديدة عام 1961 وله خمسة من الأخوة لأب وتسعة أشقاء هو أحدهم ، عاش في هذه المنطقة الشعبية وترعرع فيها في مختلف مراحل حياته الطفولة والشباب ، وكان محباً للرياضة خصوصاً لعبة كرة القدم ، جمال رحمه الله قد سطر حقيقة ولاء الفلسطينيين في العراق لتلك البلاد التي نشأوا فيها وتربوا وقد جسد هذا الولاء من خلال تعلقه وحبه لمنتخبات كرة القدم العراقية حيث كان يحب انتصارهم وفوزهم في المباريات حباً كبيراً .
فهذا نموذج رائع يسطر هذه الحقيقة التي قد يتهم الفلسطيني بعكسها ، جمال كان رجلاً بسيطاً بعيداً عن أي مشاكل واشتغل في أعمال حرة عديدة حيث عمل في البناء وعدد من المطاعم استقر به المطاف للعمل في دكان ابن خاله .
لم يعرف عنه أي انتماء لأي حزب أو تكتل أو جهة كان مستقلا طيلة حياته ، ويذكر لي أحد المقربين عليه أنه طلب منه أن يكون مخبراً عن أقرانه لصالح مديرية الإقامة في زمن النظام السابق فرفض ذلك بشكل قطعي وقال لهم : لن أكون جاسوساً على أهلي ، ما جعلهم يؤخرون إصدار وثيقة سفره لخمس سنوات ، وهذا الموقف يدل على ثباته على المبدأ وعدم مداهنته في أصعب الظروف .
تزوج من ابنة خاله التي هي شقيقة الفقيد رائد عبد نافع الذي لقي مصرعه بتاريخ 17/7/2006 عندما أراد ستر جثة جاره في العمل فانفجرت عبوة ناسفة كانت مزروعة بالقرب من الجثة فسقط شهيداً بإذن الله تعالى ، ليكون هذا الحدث فاجعة ونكسة لجمال حيث بمجرد سماعه الخبر سارع إليه فوجده صريعاً حتى صدم من أثر هذا المشهد المروع لعدة أيام .
رزقه الله تعالى بعد زواجه بست سنوات مولود ذكر سماه ( محمد ) وشاء الله أن يتوفى بعد ستة شهور من ولادته بمرض تكسر كريات الدم الحمراء ، فاحتسبه إلى الله وصبر حتى رزقه الله طفلة بعد عام سماها ( تمارة ) وهي مع أمها الآن وجدها أم جمال .
الفقيد أيضاً يكون عم الشهيد بإذنه تعالى الشاب محمود سالم فيصل الذي لقي مصرعه بتاريخ 4/4/2003 في منطقة بسمايه ضمن محافظة الكوت في ظروف غامضة يرجح بقيام قوات الاحتلال الأمريكي بقتله مع اثنين من أصدقائه .
وفي تمام الساعة الرابعة من عصر يوم السبت الموافق 14/1/2007 اقتحمت مجموعة مسلحة من ميليشيا جيش المهدي مجمع الفلسطينيين في بغداد الجديدة ، وبينما كان جمال في الدكان الذي يعمل فيه حاول المسلحون اعتقال عدد من أهالي المنطقة ومن ضمنهم جمال فرفض الانصياع لهم وعندما حاولوا سحبه بالقوة قاومهم بيديه لتيقنه بأن الموت في منطقته أهون عليه من الذهاب معهم ثم تعذيبه بأشد أنواع العذاب قبل قتله ثم إلقاء جثته في إحدى المزابل وقد يصل إليها ذووه وقد لا يصلون ، فما كان من أشقاهم وآمرهم إلا أن قال لهم خلو سبيله فلما أعطاهم ظهره وأراد الذهاب أطلقوا عليه رصاصات الغدر في رأسه فأردوه صريعاً أمام الدكان الذي يعمل به لتأتي سيارة الإسعاف بدم بارد وتقله إلى المستشفى .
ثم اختطفوا عدداً من شباب المنطقة وجرح عدد آخر من ضمنهم فلسطينيين ، وعندما ذهب أخوته وأقاربه لاستلام الجثة من مشرحة الطب العدلي طلبوا منهم مبلغ قدره ( 500 دولار ) مقابل تسليمهم الجثة ، وهذه الحالة تكررت للعديد من الجثث بل بعضها لم يتسنى لذويهم من استلامها .
ويفيد أحد أقاربه بأن عائلة جمال وأقرباءه كسائر الفلسطينيين في العراق مشتتين مبعثرين في عدد من الدول والمخيمات ، فبعضهم في بغداد والبعض الآخر في مخيم الوليد وآخرين في الأردن واليمن وقبرص والسويد ، وهكذا حتى أصبح هذا الوصف ملازماً لمعظم العوائل الفلسطينية التي قضت عدة عقود في العراق لتبدأ رحلة جديدة من الشتات والغربة وضنك العيش
وتشرذم في أكثر من ثلاثين دولة غالبيتها للأسف الشديد في أوربا الشرقية والغربية وأمريكا اللاتينية وكندا وأستراليا وبعض من دول آسيا .
28/8/2008
أيمن الشعبان