الشريك الإيراني .. من المفاوضات إلى المقاومة
ربيع الحافظ
بتاريخ 6 - 6 – 2008
في خطابه الذي أفرغ فيه اتفاق الدوحة من مضمونه، دعا الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إلى دعم المقاومة في العراق وتصويب البنادق إلى الأمريكان. لابد في البداية من تسجيل نقطتين؛ الأولى، وهي أن الدعوة معني بها ـ وبالضرورة ـ القاعدين الذين لم يوجهوا بنادقهم حتى هذه اللحظة صوب الاحتلال، وبالتالي فالقادم لن يكون مزيداً مما قدمه أهل السنة منذ اليوم الأول للاحتلال، وإنما شيء مختلف. والأخرى، وهي أن الدعوة تأتي بعد خمسة أعوام على الاحتلال، ما يثير قضية الدوافع والمقاصد.
ليت السيد حسن كان خلال السنوات الخمس في خندق القاعدين الذين يدعوهم اليوم إلى المقاومة، لكنه راح يشجب المقاومة العراقية، ودعا العراقيين للانخراط في العملية السياسية التي أسسها المحتل الأمريكي، وقامت مليشياته بتدريب عصابات جيش المهدي التي عاثت في الأرض الفساد.
إلى هنا والأمر يبدو طبيعياً، فهؤلاء القاعدين ما كانوا يوماً وقوفاً، أو ألقوا حجراً على عادٍ أراد بالأمة سوءاً، بل كانوا عوناً له. ولكن مرحلة المقاومة في حياة الشعوب هي فترات هشاشة سياسية واختطافات مسارات يظفر بها الأمهر ركوباً لها، وغالباً لا يكون المقاومون.
مشهد الاستثمار الدعائي المفاجئ في المقاومة العراقية ورفع لافتاتها يشبه في معطياته ودلالاته مشهد القوى الفلسطينية والوطنية اللبنانية التي أشعلت المقاومة ضد إسرائيل يوم كان ملأ ما أصبح فيما بعد حزب الله قاعدون، أو واقفون ولكن في جيش لحد الحارس لإسرائيل، لتزاح تلك المقاومة عن المسرح بأيدي المجموعات التي تتلمذت على أيديها، وتنعت محاضنها بالخور والخيانة، وتصبح نسياً منسياً.
بدت تلك المجموعات (أمل) التي أنشأتها إيران في مطلع السبعينيات تافهة في أعين الكثير، لأنها مشاريع أقليات لا حظّ لها في محيط أغلبية ساحقة، لكنها كبرت وهي من أعاد رسم مسار لبنان بالكامل على الشكل الذي نراه اليوم.
ليس من شطط الفكر المقارنة بين ما أنجزته تلك المجموعات الصغيرة ودورها اليوم في الأحداث السياسية والمذهبية والاجتماعية في الوطن العربي، وما أنجزته المستوطنات الصهيونية الصغيرة في فلسطين التي لم يكترث بها كثيراً لنفس السبب ثم أصبحت دولة المحور في المنطقة.
المقارنة تكتسب أهمية حينما تتلاقى مشاريع أقليات وسط محيط أغلبية وتدخل طور الحاجة المتبادلة، صورة أشارت إليها دراسة لمعهد Omedia الإسرائيلي بعنوان "إيران بحاجة إلى إسرائيل" بالقول: "إيران لا تشكل أي خطر على إسرائيل ولا تريد تدميرها، بل هي في حاجة لها لنشر مبادئ الثورة الإيرانية تحت شعار معاداتها".
الأهمية تتعزز عندما ينتفي وجود ماضٍ عدائي، وهي الحالة التي انطلقت منها دراسة لوزارة الدفاع الإسرائيلية قام بها معهد "جافي" في جامعة تل أبيب حول العلاقة بين إسرائيل وإيران، وخلصت: "إيران من ناحية عملية لا تعتبر إسرائيل العدو الأول لها، ولا حتى الأكثر أهمية من بين أعدائها.. وعلى الرغم من الخطاب السياسي الإيراني المناكف لإسرائيل إعلامياً، إلا أن الاعتبارات التي تحكم الإستراتيجية الإيرانية ترتبط بمصالحها ووضعها في الخليج وليس بعدائها لإسرائيل".
خطاب حسن نصر الله الذي أعلن فيه بملء الفم أنه امتداد لولاية الفقيه، وأن المواطنة والتعددية والتنوع والمقاومة مشتقات لنظرية ولاية الفقيه، هذا الخطاب الغني بمفاهيم ذات مدلولات عميقة تقال بهذا الوضوح لأول مرة، لا يمكن قراءته إلا كخطوط عريضة لآيديولوجية لاندفاعة جديدة استوفت متطلباتها وحان وقتها.
قد لا تعدو الدعوة إلى المقاومة أكثر من ورقة لتحريك مفاوضات، مثلما كانت تحرشات تموز 2006 التي تطورت إلى حرب اعترف حسن نصر الله بأنها لم تكن مقصودة، وإنما خطف جنود إسرائيليين والمفاوضة لإطلاق سجناء لحزب الله في إسرائيل، أو كجيش المهدي الذي يقاوم أياماً ويسالم أعواماً حسب سير مفاوضات إيران مع أمريكا في بغداد، أو كاغتيلات بيروت السياسية التي تشتد وتهدأ.
في الوقت نفسه، قد يطلق القاعدون النار بالفعل على الأمريكان، وترد أمريكا بنيران أكبر. ولكن إذا كان الداعون إلى المقاومة هم: الولي الفقيه الذي لولاه ما احتلت بغداد (كما قال رفسنجاني وأبطحي وخاتمي)، والسيستاني الذي ثمن الحاكم المدني الأمريكي فتاواه السياسية، ومقتدى الصدر الذي باع سلاحه للجيش الأمريكي أمام الفضائيات، وأطلق اسم 9 نيسان (يوم سقوط بغداد) على أحد شوارع معقله المسمى مدينة الصدر، إذا كان هؤلاء هم من يدعو إلى المقاومة، فالسؤال: ما الدافع والغاية؟
ثمة تشابهات في البدايات والمآلات بين وفاق الولي الفقيه مع أمريكا، ووفاق حزب الله مع إسرائيل المعروف بتفاهم نيسان 1996 الذي أصبح طي النسيان. فكلاهما ابتدأ بحرب للتخلص من عدو مشترك: جيش إسرائيلي يخلص شيعة لبنان من المنظمات الفلسطينية والوطنية اللبنانية، وجيش أمريكي يخلص إيران من غريمها الإقليمي نظام الرئيس صدام حسين. وكلاهما مر بفترة تبادل منافع: إطلاق يد حزب الله في جنوب لبنان وضمان أمن شمال إسرائيل، وإطلاق يد إيران في العراق وهدوء الشارع الشيعي وحماية ظهر الجيش الأمريكي.
وصفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في 6-7-2006 الوفاق مع حزب الله بأنه: "الحيز الزمني الذي حافظ فيه حزب الله على الهدوء في منطقة الجليل الأعلى شمالي إسرائيل أفضل مما فعل جيش لحد"، ونسبت الفضل إلى عقلانية أمينه العام. ووصف الحاكم المدني الأمريكي الوفاق مع الولي الفقيه بأنه الهدوء في الشارع الشيعي وحماية ظهر القوات الأمريكية ونجاح العملية السياسية ونسب الفضل إلى فتاوى السيستاني.
من غير المعلوم على وجه الدقة النقطة التي اختل عندها وفاق حزب الله وإسرائيل، لكنه لا يمكن أن يكون اختلال مبادئ كما يرى شارون، الذي عبر في مذكراته (ص 582) عن رؤيته الإستراتيجية لحاضنة حزب الله بالقول:" لا أرى في الشيعة أعداءً لإسرائيل على المدى البعيد"، وهي رؤية لها رجع صدى في الطرف الآخر: "حزب الله لن يشارك في أي عمل عسكري ضد إسرائيل لهدف تحرير القدس". [حسن نصر الله، جريدة الأنباء، عدد 8630 / 27-5-2000]، وفي الطرف الإيراني: "حزب الله مقاومة تقتصر على الأراضي اللبنانية". [حسن روحاني، الأمين العام لمجلس الأمن القومي، جريدة الحياة / 18-1-2004].
تصريح نصر الله الذي أطلقه يوم انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في 27-5-2000 يفسر اللغز الذي وجهه إليها في تموز 2006 حينما نقلت معركتها إلى قلب ضاحيته الجنوبية بالقول: "تغيرت قواعد اللعبة"، أي ذلك التاريخ الذي احتفل فيه العالم العربي بعرس تحرير لبنان وخروج إسرائيل صاغرة تحت ضربات المقاومة، كان يوم تدشين اتفاق أمني استمر إلى تموز 2006، وما عناه نصر الله هو أن عبور إسرائيل للحدود والتوغل في العمق اللبناني إخلال بالوفاق.
ما هو معلوم على وجه الدقة هو أن إيران وحتى قبل بضعة أشهر من الدعوة إلى المقاومة ضد أمريكا كانت منهمكة معها في مفاوضات حول غنائم العراق والمنطقة، وأن شيئاً من أهوال العراق لم يفسد أجواء المفاوضات التي استقبل خلالها الرئيس أحمدي نجاد في بغداد على البساط الأحمر، إنما أفسدتها تفاصيل معاهدة أمنية تريد أمريكا توقيعها مع (الحكومة العراقية) اعتبرتها إيران مجحفة بمصالحها كشريك في الاحتلال.
رغم تناقضات خطاب الولي الفقيه الذي يصلنا من حنجرة السيد حسن نصر الله، فإن هذا الخطاب في تطور مستمر في أسلوب العرض واختيار المسارات، ويحاول بذكاء شغل موقع أخلاه أهل السنة في العصر الحديث، محاولة جعل مفاهيمه (أو التشيع بشكل عام) مرادفاً لمفاهيم الوطن والمواطنة، رغم أن المذهب الشيعي لا رصيد له في إقامة مجتمعات تتسع للآخر، وأن فترات تمكنه السياسي القصيرة والمتقطعة هي حروب أهلية وانقلابات على ثقافة وحضارة الأمة على نحو ما يحدث في العراق اليوم.
في المقابل فإن التصدي لولاية الفقيه ينحصر في التيار الإسلامي عموماً، ولا زال بدائياً وعاطفي المنحى، يعتمد مبدأ إيقاع الخصم في الحرج بإبراز فساده العقائدي والسياسي والخياني بشكل رئيسي، علماً أن إيران وحزب الله تجاوزا مرحلة الشعور بالحرج، مثلما تجاوزت أمريكا الحرج من مخازي أبو غريب وغوانتنامو.
فتح القاعدون بنادقهم على أمريكا أم لم يفتحوا، استعادوا الوفاق أم لا، فإن الولي الفقيه أمام مهمة سهلة. حزب الله يعلن: "نحن لا نقول إننا جزء من إيران، نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران"، [إبراهيم الأمين، جريدة النهار 5/3/1987]، والفكر القومي العربي في حيرة كيف يوفق بين مقت العربي لولاية الفقيه، وبين حزب الله الذي يبلغ ولاية الفقيه بلسان عربي، والإعلام الفضائي العربي الرئيسي ـ المتشاكس أبداً ـ شقان: شق معارض لولاية الفقيه في لبنان مؤيد لها في العراق، والآخر بالعكس. بعبارة أخرى: شق يرعى الفرع الفارسي من ولاية الفقيه وآخر يرعى الفرع العربي، والعروبة لا راعي لها.
حيرة، أو تناقض، أو أتوات سياسية يؤديها الإعلام وأصحاب الفكر، النتيجة واحدة: غياب إسناد إعلامي وفكري لكبرى معارك الأمن العربي الإقليمي وأكثرها حساسية، وهزال ثقافي يجعل من الشارع العربي صيداً ورصيداً ثميناً لآيديولوجية معادية.
الرتق الآيديولوجي يتسع، والوقت ليس في صالح العرب، وكل يوم جديد من دون تدارك للأزمة، تخسر المنطقة مساحة جديدة من رقعتها، في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والمغرب العربي.
alhafidh@hotmail.com
معهد المشرق العربي